مظفر النواب (1934-2022) القصيدة والوطن… و”يصل ولا يصل”

Views: 146

سليمان بختي

رفع الشاعر العراقي مظفر النواب (1934-2022) الحجاب عن كل جرأة ممكنة في التعامل مع الوضع السياسي العربي ليشكل تاليا حضورا صاخبا في الضمير العربي. لعله الأول بين الشعراء العرب الذي تداولت قصائده على أشرطة كاسيت وكان يجود ويجوّد في استمطار شآبيب اللعنة على كل من كان سببا في ما نحن فيه وإليه. وفي سيرته وتاريخه أنه أوصل القصيدة إلى رتبة المنشور السياسي المحظور والملاحق قانونيا.

ولد مظفر عبد المجيد أحمد حسن النواب في الكرخ- بغداد 1934. ويتحدر من عائلة يعود نسبها إلى الإمام موسى الكاظم. استقرت العائلة في بغداد ثم هاجرت إلى الهند وهناك أصبح أسلافه حكاما في المقاطعات الشمالية الهندية. وبعد أن قمعت قوات الاحتلال البريطانية الثورة الهندية الوطنية اختار أجداده مرغمين العودة إلى العراق.

نشأ مظفر في عائلة إرستقراطية تهتم بالموسيقى والغناء والأدب. بدأ ينشر قصائده هو في المرحلة الدراسية الأولى. شغفه بالأدب جعله يكمل دراسته في كلية الآداب في بغداد. تعرض والده لأزمة مالية أفقدته كل شيء. بعد قيام نظام الجمهورية في العراق عين مفتشا تربويا في بغداد. ولكنه اضطر للهرب إثر الانقلاب عام 1963 عبر إيران بعد أن كتب:” من هرّب ذلك النهر المتجوسق بالنخل على الأهواز؟ أجيبوا… فالنخلة أرض عربية”.

اعتقل في إيران وعذب من قبل (السافاك) قبل أن ينجح بالهرب إلى روسيا. وكتب عن تلك الفترة:”في طهران وقفت أمام الغول تناوبني بالسوط… وبالأحذية الضحمة عشرة جلادين…. قاومت الاستعمار فشردني وطني “.

 في عام 1963 سلمته إيران إلى الحكومة العراقية ليحكم عليه بالإعدام إلا أن تدخل عائلته خفف الحكم الى السجن المؤبد في السجن الصحراوي الشهير “نقرة السلمان”. نقل لاحقا الى سجن الحلة. لكنه تمكن مع رفاقه من حفر خندق تحت الزنزانة ولاذوا بالفرار. توارى في بغداد وفي الأهوار حتى صدر عفو عام فعاد إلى التعليم. ولكن الأرض في العراق لا تستقر ولا تستكين فقرر الرحيل الى بيروت. ومنها الى مصر وأرتيريا وليبيا وسوريا واليونان والجزائر وظفار.  وعندما قررت إدارة بوش غزو العراق كتب:” أنا ضد احتلال العراق مهما كانت الأسباب والدوافع”.

عاش مظفر النواب الشاعر والمغني والرسام والكاتب المسرحي على ريح من القلق وكان مستهدفا من الحكومات العراقية ومطلوبا من غالبية الحكومات العربية. ارتبط شعره بقضية العرب القومية الأولى فلسطين وصنعت له قصيدته المشهورة “القدس عروس عروبتكم” شهرة في كل ناحية عربية. كان يصر على أن يقرأها كاملة في كل مهرجان شعر عربي ، وإلا فلا. علما أنه أضاف عليها عبارة” لا أستثني أحدا” وذلك عندما قرأها في دمشق بداية السبعينات بحضور أمين حزب البعث عبدالله الأحمر الذي وقف يصفق له فارتجل النواب العبارة مباشرة على المنبر.

 

من مؤلفاته :” للريل وحمد” الذي اعتبره سعدي يوسف زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي. و”يوميات المنفى الأخير” 1983.

والحال هو شاعر قصائد أكثر منه شاعر دواوين  ومن قصائده: “قمم ” و”وتريات ليلية” و”بنفسج الضباب” و”عروس السفائن” وبكائية على صدر الوطن” و”قصيدة من بيروت”.

لم يحظ النواب بدراسات نقدية لشعره فقد صنف بالمجال السياسي المباشر وفي نطاق الشعر الجماهيري. ولكن لقطاته الشعرية الجميلة تطل من القصائد وتشهد له:”يا وطني وكأنك في غربة/ وكأنك تبحث في قلبي/ عن وطن أنت ليأويك/ نحن الإثنان بلا وطن يا قلبي” أو حين يرهف قلبه بغزلية للآخر: ” لا شيء سوى الريح / وحبات من الثلج على القلب/ وحزن مثل أسواق العراق” آه من يشتريني بقليل من زوايا عينها ؟ / تعرف تنويني.. وشداتي.. وضمي..وجموعي”.

كان مظفر النواب أحد الشهود الكبار على الزمن العربي الصعب. احترف التنقل من مكان إلى مكان يحمل الأسى والشوق والمرض والضنى. كأن كل هذا الألم يتفتح شعرا أو يفيض كما نقطة الماء بالكأس. كانت جرأته تداوي ألمه وكان  صوته يعلو وينخفض مثل الريح التي تزلزل الحياة العربية. بقي مظفر النواب حوالى نصف قرن شريد المنافي. كتب غير مرة :”وقنعت أن يكون نصيبي من الدنيا كنصيب الطير، لكن سبحانك حتى الطير لها أوطان وتعود إليها، وأنا ما زلت أطير”. ربما كان الشاعر الأكثر جماهيرية في دنيا العرب ولكنه كان بلا مكان رغم أنه سعى لأن يصل إلى البصرة لكن الموت سبقه وقطع عليه طريق الوصول. كتب في أحد قصائده “أحمل كل البحر واوصل نفسي/ أو تأتي البصرة إن شاء الله/ بحكم العشق وأوصلها”.

أغمض مظفر النواب عينيه وهو يردد :”متعب مني / ولا أقوى على حملي”. ولم يصل. مشى في كل الديار العربية ولم يصل. بحث عن القصيدة والوطن وكان يصل ولا يصل. كأن الشعر صرخة قهر ووجع وإرتحال ولا وصول.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *