قصة النشيد الوطني وجائزة الفائز التي ذهبت الى الفقراء

Views: 675

سليمان بختي

حتى إعلان الدستور اللبناني عام 1926 وهو من أقدم الدساتير بالمنطقة بحسب المؤرخ كمال الصليبي لم يكن للبنان نشيد رسمي خاص به. ففي زمن العثمانيين فرض النشيد السلطاني باللغة التركية “بادي شاهم جوق يشا/ تخت تاج لا يشا”. وفي عهد الإنتداب الفرنسي كان رئيس الجمهورية يستقبل بالمارسياز الفرنسي.

تنادى أهل الفكر والثقافة وقدموا عريضة الى المندوب السامي الفرنسي يطالبونه بضرورة أن يكون للبنان نشيد وطني. وبحسب كتاب ” مواطن الغد” للدكتور جوزف إلياس فإن المطالبة الأولى كانت من النائب الشيخ إبراهيم المنذر الذي تقدم بطلب إلى مجلس النواب عام 1924 بضرورة وضع نشيد وطني رسمي أسوة بالبلدان المستقلة. إثر هذه الدعوات والمطالبات وافق المندوب السامي المسيو (كايلا) على إقامة مباراة لاختيار النشيد الوطني شرط أن يكون وصفيا لا ثوريا.

ومع إعلان الجمهورية في أيار 1926 وإنتخاب شارل دباس رئيسا لها. وبموجب مرسوم جمهوري صدر في 19 تموز 1926 يدعو الى إجراء مسابقة لاختيار قصيدة عربية تصلح كلماتها للنشيد، ومسابقة أخرى بين مؤلفي الألحان لإاتقاء اللحن للقصيدة المختارة. وجاء في المادة الثانية من المرسوم أن لجنة التحكيم المكلفة إختيار النشيد هي برئاسة وزير المعارف العمومية والفنون الجميلة نجيب أميوني وعضوية كل من الشيخ عبد الله البستاني، جميل بك العظم، عبد الرحيم بك قليلات ، الشيخ إبراهيم المنذر، السيد عبد الباسط فتح الله، شبلي بك الملاط، الياس فياض ووديع عقل. أما المكافأة المقررة للفائز بحسب جريدة “لسان الحال” فهي مئة ليرة لبنانية سورية.

الرئيس بشارة الخوري

 

وقد تبارى  معظم الشعراء في لبنان وفي المهجر وقدموا قصائدهم الى لجنة المسابقة وكان رشيد بك نخله- أمير الزجل (1873 -1939) يومئذ في بيروت وصادف ذات مرة أنه كان في بيت أحد أصدقائه من كبار رجال السياسة في البلاد، ودار الحديث عن النشيد الوطني ومباراته، فقيل في الجلسة إنه اصعب شيء إيجاد نشيد وطني عام في وطن مقسم الميول والنزعات والطوائف، أشبه ما يكون بالفسيفساء وبرج بابل.

فقال رشيد بك “ولكن الشعراء المتبارين لا يعدمون إيجاد النشيد الجامع لمختلف النزعات في الوطن، كأن يقال مثلا “كلنا للوطن”.

فقيل له هذا أبرع إستهلال، فليتك تمضي في النظم عليه، وهكذا كان.

كتب رشيد نخله النشيد  باسم مستعار “معبد” وكتب على نسخة النشيد ما يلي “إذا فاز هذا النشيد فالجائزة متروكة لفقراء البلاد”.

يبدو وأنه منذ ذلك الزمان جائزة النشيد الوطني في لبنان متروكة لفقراء البلاد. تصور. آنذاك كان بشارة الخوري رئيسا للوزراء فلما أرسلت إليه القصيدة وقرأ اسم ناظمها قال كلمته المشهورة :” الحمدلله وإن صاحب نشيدنا الوطني من أشهر رجالنا في الوطنية”. ولكنه عندما قرأ هذين البيتين : ما عرانا إنفصال/ في الملم العصيب / الصليب الهلال/ والهلال الصليب”. حتى طلب الاجتماع برشيد نخله مقترحا عليه حذف هذا المقطع كي لا يكون في النشيد ما يذكر اللبنانيين بطائفية وإنقسام. فقبل رشيد بك وحذف المقطع.

ابراهيم المنذر

 

ونقلت المصادر يومئذ أن المرحوم عبد الرحيم قليلات لما وصل إلى هذا البيت:” أرزه عزه / رمزه للخلود/” وكان على لسانه شيء من اللهجة المصرية فقال: “ده مش عاوز نغم… ده نغمو منو وفيه”.

ولكن من هم الشعراء الذين شاركوا في المسابقة قبل صدور النتائج؟ كتب الأخطل الصغير “يا تراب الوطن/ ومقام الجدود/ ها نحن جينا لما دعينا الى الخلود” وقد سحبت قصيدة الأخطل من المسابقة لوقع لهجتها ونبرتها في ظل الإنتداب.

وكتب شبلي الملاط “هللي يا بلاد/ بالجناح الطليق/ عيدي بإتحاد/ وإئتلاف وثيق”.

وكتب عبد الحليم الحجار:” الفخر في بلادنا/ والعز بإتحادنا/ وعن ذرى أطوادنا/ والأرز لا تسل”.

وكتب حليم دموس :” لبنان يا جنة هذا الوجود/ يا مهبط الوحي ومجد الخيال”.

وكتب الدكتور حبيب ثابت قصيدة مطلعها :” نحن فداء البلاد/ وأرزها المياد/ وتربة ألأجداد/ ومعقل الآباء”.

كما شارك الشاعر المهجري مسعود سماحة بقصيدة مطلعها :”موطن الأحرار / موطن الشجعان/ آية الأدهار/ أنت يا لبنان”.

وتسلمت اللجنة قصيدة طلب ناظمها عدم ذكر اسمه وجاء فيها:” أي حماة البلاد/ بالسيوف الطوال/ مرحبا بالجهاد/ إن قضيتم رجال”.

إجتمعت لجنة التحكيم وبعد قراءة القصائد لفتت الانتباه قصيدة حماسية بعنوان “الفخر في بلانا” وهي لعبد الحليم الحجار. ولكن أحد أعضاء اللجنة أشار إلى ما أملاه المفوض السامي الفرنسي بضرورة أن يكون النشيد اللبناني وصفيا وإستبعدت القصيدة.

الأخطل الصغير بشارة الخوري

 

أعيد استعراض القصائد مجددا واستقر رأي اللجنة على القصيدة الموقعة باسم “معبد” ومطلعها:” كلنا للوطن / للعلى للعلم/ ملئ عين الزمن/سيفنا والقلم”. وهي كما هو معروف لرشيد نخله.

ويرد في مذكرات رشيد نخله أنه لما أقبل على نظم النشيد لم يمتلك نفسه من طلب اللفائف، وكان قد ترك التدخين، وأنه نظم أكثر المقاطع في يوم من ربيع 1926 في حديقة داره التي تقع في محلة الظريف (شارع رشيد نخله حاليا).

بعد فوزه بالنشيد أرسل إليه وزير المعارف كتابا جاء فيه “لقد ذكرتم أنكم ترصدون قيمة الجائزة لمساعدة الفقراء في الجمهورية. فأرجو إعلامنا الجهة التي تريدون أن ينحصر المبلغ فيها”.

إسمعوا جواب رشيد نخله:”الفقراء، كما لا يخفى عن الوزير الصديق، متكافئون في الحرمان ، متماثلون في الخيبة، وفي تأخر رحمة الله، التي وسعت السماوات والأرض وضاقت عليهم. فهو يرى معي، ولا ريب، أنه لا يجوز أن يفضل بعض الفقراء على بعض في هذه العطية التي هي جهد المقل، والتي لا تغني من فقر، لكن معناها يدخل على أولئك المحزونين في ظل الحياة شيئا من البهجة، ويمثل لهم في صورة صادقة ، نصاعة المشتغلين بعواطف القلوب”. فوزع المبلغ على الفقراء في كل الجهات والإتجاهات. 

جملة اعتراضية لهذا الشاعر الجميل الضنين بالفقراء إسمعه ماذا يقول في مقالة كتبها بعنوان “السياسة”: ” السياسة قبر المروءة، وحرفة المصلحة، وصناعة الحيلة! على أن إفتراش التراب وإلتحاف السحاب، مع الإحتفاظ بعهد صاحب، وذمة ولي، وبهذا السائل السمين من ماء الوجه الأكرم، عند النفس العزيزة، من لمعة جاه تقوم على خراب وداد، وتقويض مروءة”. 

فاز رشيد نخله بقصيدة النشيد ووزعت الجائزة على الفقراء. وبات النشيد برسم الملحنين ولهذا قصة ثانية. ولكن كان ثمة مكافأة مهمة لرشيد نخله إذ أقر مجلس النواب اللبناني في جلسة عقدت في 15 آذار 1948 تشييد ضريح له في مسقط رأسه في الباروك. ودشن هذا الضريح رئيس الجمهورية شارل حلو في 28 آب 1966 بحضور أركان الدولة والحكم. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *