يا جدّي

Views: 93

د. جان توما

 

اربح الوقت مع والدك يا جدّي، واشبع من رفقته التي افتقدُها أنا اليوم. كان يكرج مثلك معي، أدفعه وهو على درّاجته الصغيرة، وكم ركضت وراء الكرة التي كان يقذفها بعيدا.

كم حملتُ والدك إلى فرن الحيّ ليشاهد الرغيف الساخن يخرج من بيت النار، مشتهى الفم ونزيل القلب. ما ظننت أنّي اليوم سأحمل سنيني المُتْعَبَة، وأقف في صفّ طويل لشراء ربطة خبز باردة. أين ذهبت تلك الأيام المباركة؟ حيث كنا نرفع كسرات الخبز عن الأرض، نقبّلها، ونضعها فوق أقرب سور بيت.

كنت أطوف مع والدك أزقة البلدة مشيًا، نقيس نبض أحيائها، نتصل بزقاق عبر زقاق لنخرج إلى الساحات، فيما اليوم، يا جدّي، ضيّعونا في متاهات مبرمجة، فنخرج من متاهة لندخل أخرى، فلا نقع على ساحة ولا على مدى. ضاقت صدورنا، وتكاد تنقطع أنفاسنا، لولا رؤيتك تعيد لنا زمن طفولة والدك وفتوته، فنرى مستقبلًا صنعته يَدَانا، لنرى في طفولتك ولادة وطن مبارك.

هذي العصا التي أتّكىء عليها، أدفعُ بها سوء الأيام، وأرعى الجميل منها ليكون لك الأحلى.أعرف أنّك تنمو بعيدا، خارج الوطن، وأعرف أنّك تزورنا في السنة مرّة، لكن غرفة أبيك في البيت، حيطانها ناطقة بالذكريات، كلّ يوم،  ورفوفها تزدان بصور عمره.

يا جدّي، بقيت لنا الحيطان والصور، حتّى صدق قول قيس بن الملوّح:

أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى

أُقَبِّلُ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي

وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا

***

*اللوحة للفنان حبيب ياغي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *