فلسفة الحقيقة والاحتمالات الممكنة

Views: 256

حسن عجمي 

     تسعى فلسفة الحقيقة إلى تحليل الحقيقة وإظهار دلالاتها. يكمن أفضل منهج لتحقيق ذلك في تعريف الحقيقة على أنها معادلة رياضية ما يسمح في اختبارها. من هذا المنطلق، الحقيقة معادلة رياضية فلسفية وعلمية في آن ومفادها التالي: الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة. 

     تنجح معادلة الحقيقة في تفسير لماذا الحقائق في تغيّر دائم. فبما أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، وعلماً بأنَّ الاحتمالات الممكنة متنوّعة ومختلفة (كاحتمال أن تنمو البذرة فتصبح شجرة كبيرة أو صغيرة واحتمال أن لا تنمو أبداً)، إذن لا بدّ من أن تكون الحقيقة (كحقيقة وجود البذرة) في تغيّر دائم يمكّنها من تحقيق احتمالاتها المختلفة وإلا لن توجد (فإما أن تنمو البذرة وتصبح شجرة إما كبيرة وإما صغيرة وإما أن لا تنمو ولا تصبح شجرة إلى ما هنالك من احتمالات أخرى كاحتمال أن تمسي شجرة مثمرة أو غير مثمرة). بكلامٍ آخر، إن لم تكن الحقيقة تساوي كل الاحتمالات الممكنة مقسومة رياضياً على الاحتمالات المستحيلة، فحينئذٍ لن تتغيّر الحقيقة نفسها من جراء تعدّد وتنوّع احتمالاتها الممكنة. هكذا تفسِّر معادلة الحقيقة التغيّر المستمر للحقائق ما يمكّنها من اكتساب هذه القدرة التفسيرية الناجحة فيدعم صدقها. 

***

     لهذه المعادلة فضائل إضافية عديدة منها أنها تعبِّر عن مضمون أساسي ضمن نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية ما يشير إلى نجاحها فمقبوليتها. فمتى اعتبرنا أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، حينئذٍ نستنتج بحق بأنَّ الحقيقة تتكوّن من تزايد الاحتمالات الممكنة وتناقص الاحتمالات المستحيلة. وبذلك الحقيقة تتضمن الاحتمالات المستحيلة (رغم تناقصها) كالاحتمال المستحيل بأنَّ القطة حية وميتة في الوقت نفسه. لكن من المضامين الأساسية ضمن نظرية ميكانيكا الكمّ مضمون أن تكون القطة كقطة شرودنغر حية وميتة في آن. هكذا تنجح هذه المعادلة القائلة بأنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة في التعبير عن هذا المضمون العلمي ما يعزِّز صدقها. 

     من فضائل هذه المعادلة أيضاً نجاحها في التعبير عن وجود الأكوان المتوازية الممكنة. فإن كانت الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، وعلماً بأنَّ الاحتمالات الممكنة مختلفة ومتنوّعة ومناقضة لبعضها البعض وبذلك لا تتحقق جمعاء في كون واحد لتناقضها (و إلا أصبح الكون حاوياً لكل المتناقضات فأمسى بذلك كوناً مستحيلاً)، إذن لا بدّ من وجود أكوان ممكنة مختلفة تتحقق فيها تلك الاحتمالات الممكنة المختلفة والمتناقضة (بدلاً من أن تتحقق معاً في كون واحد أو في الكون نفسه) تماماً كما تؤكِّد على ذلك نظرية ميكانيكا الكمّ ونظرية الأوتار العلمية. من هنا، تنجح معادلة أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة في التعبير عن فكرة علمية أساسية ألا وهي وجود أكوان ممكنة مختلفة في حقائقها وقوانينها الطبيعية. وبذلك تكتسب هذه المعادلة هذه الفضيلة الإضافية ما يدلّ على مقبوليتها وتفوّقها المعرفي. 

 

***

     من جهة أخرى، بما أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، وعلماً بأنه من المحتمل أن تكون الحقائق مادية كأن تتكوّن من ذرات وجُسيمات مادية (لأنَّ قوانين الطبيعة تتضمن مفاهيم مرتبطة بالضرورة بالمادة كمفاهيم القوة والكتلة والتسارع كما في قانون نيوتن القوة = الكتلة × التسارع)، إذن من المتوقع أن تكون الحقائق مادية كأن تتشكّل من ذرات وجُسيمات مادية تماماً كما يقول النموذج العلمي الكلاسيكي. وبما أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، وعلماً بأنه من المحتمل أن تكون الحقائق معلومات (لأنَّ القوانين الطبيعية عبارة عن معلومات كمعلومة أنَّ القوة تساوي الكتلة مضروبة رياضياً بالتسارع)، إذن من المتوقع أيضاً أن تكون الحقائق معلومات تماماً كما يقول الفيزيائي جون ويلر. 

     بالإضافة إلى ذلك، إن كانت الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، بينما من المحتمل أن تكون الحقائق معادلات رياضية (لأنَّ القوانين الطبيعية التي على ضوئها تُبنَى الحقائق مكتوبة بمعادلات رياضية كمعادلة أنَّ القوة = الكتلة × التسارع)، فحينئذٍ من الطبيعي أن تكون الحقائق معادلات رياضية كما يقول الفيزيائي ماكس تغمارك. وإن كانت الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، وعلماً بأنه من المحتمل أن تكون الحقائق أوهاماً أي صُوَراً هولوغرامية (لأنَّ قوانين الطبيعة تؤدي إلى نتيجة أنَّ معلومات الكون موجودة على سطح الكون بدلاً من أن تكون موزَّعة داخل الكون كما يقول الفيزيائي ليونارد سسكيند وبذلك قوانين الطبيعة تتضمن أنَّ الحقائق أوهام)، إذن من الطبيعي أيضاً أن تكون الحقائق أوهاماً كما يؤكِّد سسكيند. كل هذا يرينا بأنَّ معادلة الحقيقة القائلة بأنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة تتضمن كل النظريات العلمية السابقة (القائلة بأنَّ الكون يتكوّن من ذرات وجُسيمات مادية ومعلومات ومعادلات رياضية وأوهام) وبذلك توحِّد بين تلك النظريات فتحلّ الخلاف القائم فيما بينها ما يجعلها تكتسب هذه الفضيلة الكبرى فيدلّ على صدقها. 

***

     بما أنَّ هذه المعادلة تتضمن النظريات العلمية السابقة، إذن هذه المعادلة تعبِّر بنجاح عن تلك النظريات العلمية ما يجعلها مُعبِّرة عن عِلم الحقيقة الذي يدرس الحقائق علمياً. هكذا تنجح معادلة الحقيقة بأن تكون جزءاً جوهرياً من دراسة الحقائق علمياً بفضل تضمنها للنظريات العلمية ونجاحها في التعبير عن النماذج العلمية المختلفة ضمن علوم الفيزياء. وهي بذلك تتفوّق أيضاً على اتباع نموذج علمي دون آخر لأنها توحِّد بين كل تلك النماذج العلمية المتنافسة ما يحتِّم قبولها جمعاء. هكذا معادلة الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة تحرِّرنا من أن نُسجَن في نموذج علمي معيّن لكونها تتضمن كل النماذج العلمية الأساسية المتصارعة. من هنا، معادلة الحقيقة معادلة التحرّر العلمي بامتياز. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *