ناجي طاهر: “جسور متأرجحة” دعوة لجعل الفلسفة نمط تفكير حياتي ويومي ودعوة لإصلاح العلاقة الملتبسة معها

Views: 604

ليلى الداهوك

 

ناجي طاهر شاب مكافح طموح صادق، يحمل شفافية الأرض التي ترعرع فيها وتثقل كاهله هموم الوطن والناس. وكسائر شباب لبنان المبدع يلفظه الوطن الخالي الوفاض من الأمان والاتستقرار والنجاح،الوطن الذي لا يقدر طاقاتهم الشبابية ولا يفتح لهم مجالات العيش الكريم البديهي لكل إنسان، فيلجأون إلى الغربة ليجدوا ضالتهم الإنسانية ونبضات قلوبهم كل يوم تصرخ آه يا وطني.

أجرينا هذه المقابلة لمناسبة صدور الكتاب الأول لناجي في عنوان “جسور متأرجحة” مشاهدات انطباعية في الفلسفة والحياة والتغيير(دار فواصل)،  وهو غيض من فيض كتاباته التي تنوعت في مجالات السياسة والفلسفة والسرد والشعر.

 

 

 

 كيف يمكنك أن تعرفنا بشخصك، مَن هو ناجي طاهر؟

تعود جذور وأصول أهلي الى بلدة حولا/ من قضاء مرجعيون في الجنوب، لكنني من مواليد بيروت، التي انتقل أهلي اليها في مطلع الخمسينات بعد ما جرى في فلسطين وقيام الكيان الدخيل وارتكابه مجزرة في البلدة عام ٤٨ ذهب ضحيتها ما يقرب من مئة شهيد من البلدة من بينهم أجدادي.

في العام١٩٧٥، سينقلب سواء حياتنا رأساً على عقب. إذ فُقد والدي في مطلع الحرب الأهلية.. وعشنا مأساة الحرب بكل تفاصيلها. 

الى أن وصلنا الى العام 89، الذي كان عامًا حاسما ومفصلياً. ففيه تغيّر وجه العالم القديم. وفي تلك السنة أيضاً كنت قد نجحت في امتحان الدخول لدراسة الهندسة في الجامعة العربية وبالفعل درسنا أول فصل، ولكن سرعان ما اندلعت حرب التحرير، عون/ سوريا. وأقفلت الجامعة… سافرت بعدها الى روسيا، حيث ستكون صدمة حياتي الكبرى، عندما وضعت أقدامي أرض الاشتراكية المحققة، التي كنا ننادي ونحلم بها. لقد أصبت بصدمة الواقع المرير وقد بدأت بطرح الأسئلة الجوهرية.

وقد بدا أن كل شيءٍ كان سرابًا وأوهامًا وأخذت على نفسي عهداً أنني يجب أن أعيد النظر في كل ما يحمله رأسي من أفكار فكان خيار الفلسفة.

وعليه، لم تطل اقامتي في روسيا، فبعد ما يقرب من العامين والنصف، عدت إلى بيروت في حالة يائسة، دون أن أكمل دراستي هناك. وقد عدت خالي الوفاض ورأسي مشوشاً لا بل شبه فارغ كصفحة بيضاء، وقد اعتزلت البشر وركنت الى البحر أقضي جل أيامي وأوقاتي فيه، كنت كأنني أريد أن أتطهر من لوثة الماضي وعبء الأفكار والأيديولوجيات والشعارات الزائفة والأوهام التي كانت تتلبسنا! وتوجهت بعدها إلى الجامعة اللبنانية لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع إضافة الى الانكباب على العديد من القراءات المختلفة.! 

وصرت لا اقرأُ إلا أمهات الكتب أو ما يروق لي منها، وصرت شكاكاً في كل شيءٍ واعتبرت أنه لا وجود للحقيقة، وإنما مجرد تجارب نلتمسها بالمعايشة والخبرات الشخصية، ومن ثم يأتي إن كان لا بد أن يأتي التجريد أو الفهم. هذا أنا ببساطة، شخص يسعى لفهم ذاته ودوره وما يدور حوله في هذا العالم، وفي بحثٍ دائم عن المعنى والجمال والحب فهذه القمم  برأيي هي من أساسيات الوجود.

 في هذا الكتاب فصل تحت عنوان “يساريات” تنتقد فيه اليسار، هل يمكن أن تخبرنا عن تجربتك في اليسار؟

لطالما أثارتني مسألة كون جو العائلة من اخوتي والقرية يغلب عليه الطابع اليساري، وربما هذا ما دفعني نحو التشكيك أكثر ومحاولات الفهم الذاتي، “فهل أنا أرث هذه الأفكار من البيئة وأتناقلها كالببغاء!”.

وربما هذا ما وّلد عندي مبكرًا الحس النقدي وكثرة طرح الأسئلة ومحاولة فهم الأمور على حقيقتها ولا أخفي سراً أنني حاولت أن اقرأ منذ صغري ماركس وإنجلز ولينين ودارون وكنت أجد صعوبة في فهم الماركسية وهذا ما دعاني ربما لإثارة الكثير من الجلبة منذ صغري، وأذكر أن بعض المسؤولين كان يضيق ذرعًا بكثرة اسئلتي التي كان يعتبرها تشكيكية وربما محبطة للجو “الأيديولوجي” الحماسي الذي يجب أن يظل سائداً! 

لهذا تراني قدمت في هذا الكتاب، نقداً لتجربة اليسار اللبناني في الحرب مروراً بالعمليات الاستشهادية/الانتحارية وما أثير حولها من أبعادٍ أخلاقية وإنسانية، وصولًا الى محاولة فهم وتفسير أسباب تراجع اليسار بعامة واللبناني بشكل خاص، لأخلص الى وضع اليسار في العالم والتحديات المعاصرة والحاجة تاليًا الى نظرة وعدة مفهومية جديدة، لتجاوز ماركس نفسه، وضرورة قيام فلسفة جديدة لليسار، تطال الانسان المعاصر في جوهر وجوده وعلاقته مع الطبيعة والبيئة المحيطة!.

أهمية تجربتي في روسيا رغم المرارة والألم، الذي اعتراها، أنني تمكنت من مشاهدة نهاية التجربة الاشتراكية ومعايشة اللحظات الفاصلة بين عالمين.

وقد قمت أثناء تواجدي هناك بزيارة الى الدول التي كان يتشكل منها الإتحاد السوفياتي وبدا أن هذا الاجتماع قام على الكثير من التعسف والأيديولوجيا الزائفة، وأن هذه الشعوب سوف لن تتوانى في نفض غبار تلك الحقبة الثقيلة!

كيف يمكنك أن تعرفنا بالكتاب؟   

  هذا الكتاب هو نتاج مقالات وخواطر ومشاهدات وأفكار قدمتها بطرق مختلفة، حاولت قدر الإمكان أن تكون مبسطة، وبعيدةً عن اللغة العلمية ومصطلحاتها الجافة، وأردت خصيصًا أن أسلك درباً مختلفةً عن السائد في الكتابة، إذ تقصدت أن أجعلها على شكل حوارات ومشاهدات حياتية.

في هذا الكتاب أيضاً حث لجعل الفلسفة نمط تفكير حياتي ويومي، ودعوة لإصلاح العلاقة الملتبسة معها، عبر تبسيطها وجعلها في متناول الجميع، وذلك بإزاء سوء الفهم وسُبُل التعاطي بها، التي تتعرض له الفلسفة، من قبل مريديها ومبغضيها، على حدٍّ سواء؛ ففيما حشرت الفئة الأولى الفلسفة في أبراج عاجية مصوّنة، نجد أنّ الفريق الثاني لجأ الى حد تحريمها والغائها من المناهج والعقول، وبالطبع كلنا نعرف النتيجة المتمثلة في سيادة فكر الخرافة والسحر والشعوذة!

بدأت الفصول الأربعة الأولى من الكتاب بالفلسفة ومآلاتها، الى الحداثة والتباساتها، والإسلام الذي يطرح نفسه بديلاً قيمياً لها، دون أن يقر بمبادئها ومنطلقاتها الفكرية، وهذا هو تعبير الانفصام والقصور لدى حملة هذا الفكر.. مروراً بأزمة الأخلاق التي نرزح تحتها.. الى لبنان وأحواله وأهواله وثورته المستحيلة والمدينة والبحر، والسعي نحو التغيير، مروراً بأشكال القوى الإقليمية التي تلعب الأدوار الرئيسية في منطقتنا.. الى اليسار ونقد تجربته وطرح ملامح يسار انساني جديد. من ثم ننتقل الى الحضارات الآفلة وتلك الصاعدة عابرًا من خلال التجارب العلمية وصولًا الى ثورة الرقميات. أمّا الفصل الخامس فاقتصر على استعادة لبعض المقالات المنشورة سابقاً، فيما انصبَّ الفصل الأخير على بعض الخواطر والشذرات القصيرة المتفرقة.

مَن هم الكتاب الذين أثّروا بك ولمن تقرأ الآن؟

لقد بدأت بعمرٍ مبكر اهتم بقراءة الأدب والفلسفة واطلع على جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود وتوفيق يوسف عواد وفؤاد سليمان وكتاب الأم لغوركي ومن ثم نجيب محفوظ وتولستوي ولاحقاً دوستويفسكي ونيتشه وكافكا وكثيرين غيرهم. 

 اضافةً إلى حبي للرياضيات والفيزياء والهندسة وعلم الفلك والموسيقى كان اهتمامي قوياً باللغة والشعر وإن كنت أبدي ميلا قوياً نحو النثر.. ما أقرأه هذه الأيام، هناك مجموعة من الكتب تثير اهتمامي واقرأ بها بتقطع، فأنا لا أقرأ بانتظام منهجي، الاّ عندما أكون منصباً على عمل محدد. أحدها كتاب ألماني اسمه، “في مديح الجُبن “، وآخر مترجم هو “تجربة الألم” لدافيد لوبروطون. 

ما هي أنواع الكتابات التي تكتبها؟

 كتابة الخواطر والمقالة والقصة القصيرة أو نصوص حرة مفتوحة لا أعرف أين يقع تصنيفها الأدبي! أمّا طموح أو شغف كتابة الرواية فهو يراودني منذ زمن بعيد، وثمة محاولات في هذا السياق أتمنى أن يبصر بعضها النور!

 يبقى موضوع الشعر، فهو يسكنني من أيام الصبا، ولي ثمة بعض المحاولات الخجولة بهذا السياق، أكن لها مودة ونظرة خاصة، وقد لا تكون شعراً بالمعنى الدقيق، بل أقرب الى نفحات وخواطر نثرية!

 ما الذي دفعك لنشر هذا الكتاب؟

في الحقيقة، لطالما سألني بعض أصدقائي، كما كنت أسأل نفسي بدوري، لماذا لم أنشر كتاباً الى الآن!؟  لكنني لطالما كنت اعتبر هذا الأمر من المبكر جدًا مجرد التفكير فيه، فكيف بخوضه!  

لست أدري في الحقيقة كيف قطع الوقت، وأنا اكتب وأدوّن وقليلًا ما أنشر ما أكتبه، لا بل قد تحولت عندي الكتابة الى ما يشبه الحياة اليومية كالأكل والنوم والمشي والعمل، فأنا اكتب، كأنني أكتب لنفسي بالدرجة الأولى ومن ثم أترك النص وأنتقل الى غيره، إمّا مكتملًا أو غير مكتمل، أذا ما شعرت أنه بحاجة لمناخ آخر من الطاقة لإكماله وهكذا.. حتى تجمعت المادة المكتوبة وكبر حجمها.

الى أن بدأ بعض الأصدقاء المحبين، يلفتون نظري ويحثوني على جمع هذه النصوص والخواطر في كتاب وقد تبدّى لحظة تفكيري في هذا الأمر كأنه هدف شبه مستحيل أو بعيد المنال، لكنه راح يتبلور يوماً بعد يوم حتى كان هذا الكتاب ثمرة هذه الجهود، التي اغتنم هذه الفرصة لكي أوّجه لهم جزيل الشكر وأعطر التحيات، مع التمني أن يكون عند حسن ظن المهتمين!

 كيف تقيّم هذه المشاركات والاسهامات التي تقوم بها في مجال الأدب والفكر، هل تجد أنها مثمرة أو أنها تُضفي اضاءات جديدة على نقاطٍ معينة؟

تقييم هذا الأمر متروك للآخرين، الذين يقرأون ويتفاعلون، عبر اثارة النقاشات وطرح الأسئلة والمشاركة والتفاعل، أمّا ما يمكن أن ألمسه من تجربتي في الكتابة، هي أننا بلا شك نحاول أن نفتح كوّة في جدار صمت العالم! كوّة مهما بدت صغيرة وغير ذات قيمة أو تأثير، إلاّ أننا لا يجب أن نتخلى عن الأمل في الاستمرار بإضفاء المعنى والشعور بإزاء طغيان حالات البلادة والتصحر الفكري والانسلاب فيما تقدمه الميديا والتقنية الرقمية من سيل جارف من المعلومات، التي حوّلت الانسان الى مجرد متلقي منفعل وغير فاعل ما يزيد في سواد السلبية والسطحية التي تجتاح العالم! 

وتكفي ملاحظة حياة المراهقين والشباب وأزماتهم وادمانهم على الألعاب الالكترونية والميديا، الاّ دليلاً على انحلال العالم واختلاله!  نحن نعيش أزمة وجود وأزمة تلمس معنى وأهداف هذا الوجود، اجيالنا حملت قضايا كبرى، وإن تبدّى زيفها، الاّ أننا خضناها كتجارب إنسانية، أمّا الأجيال الراهنة فتعاني فقدان المعنى ومغزى وهدف وجودها، فلهذا تراها تركن الى الإدمان بكل اشكاله، كشكل من اشكال الهروب من الواقع الحقيقي الفارغ، الى واقعٍ متخيل وافتراضي! وهذا ما أسميه “فيروسات” وأمراض العصور الرقمية، هذه التي تبدو أشد فتكًا بعد من الأيديولوجيات التي عبثت بعقولنا!

 كيف تقيّم اليوم وضع الكتابة والقراءة بشكلٍ عام؟ هل برأيك لا يزال يوجد قراء؟ ماذا يعني لك الكتاب الورقي؟

يقول مارسيل بروست، “إن القراءة فعل شخصي وأنها تقف على عتبة الحياة الروحية، ولكنها لا تشكلها.”. وهذا قول صحيح. وأنا اعتقد أنّ الكتابة هي ذلك الفعل الشخصي المكّمل لفعل القراءة، وأن الإنسان يلج من خلالها هذه العتبة نحو الحياة الروحية. وأنا انطلق من نظرية خاصة بهذا الصدد مفادها أن الكاتب اليوم، وربما هكذا كان دائماً، صنفان، صنف يمتهن الكتابة كصنعة ومهنة يعتاش منها، وهذا ما أسميه الكاتب الموظف. وصنف ثانٍ يقوم بعمل آخر غير الكتابة، حيث يؤسس ويكوّن لنفسه ما يكفيه العوز والحاجة للآخرين، ويخوض غمار الكتابة في نفس الوقت، كهاجس حياة وطريقة عيش وتفكير، هكذا هي الكتابة عندي، هي كالخبز الذي يتغذّى به عقلي، فأنا لا أرى الى العالم الاّ جملاً وكلمات وصوراً ومشاهد.. غير ذلك لا يعنيني العالم بما هو ضجيج سيارات وصخب أحداث ومواكب.. 

هكذا أحسب أن الكاتب يمكن أن يُبدع وأن يؤلف ويكتب ما يخطر في باله دون أدنى حساب لرغبات أحد. أو وفق تسريحة الذوق السائدة!!. بالطبع لا يزال يوجد قراء، ولكنهم في سطوة الميديا والكم الهائل التي تطرحه من المغريات البصرية، تجعل هذا القارئ في تحدٍّ حقيقي. بالطبع نحن ننتمي لجيلٍ تربّى على الكتاب الورقي، وملامسة الورق المكتوب والكلمات المطبوعة بالحبر الطبيعي، غير أن العصر الحالي يتقدم ويطرح خيارات مذهلة في مجال القراءة، فمن كان يتصور أن يصير بمقدورنا تحميل عشرات الكتب على هاتفنا المحمول أو على لوح الآيباد، الذي نحمله بأصبعين في حقيبتنا!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *