إيلي فرح… شاعر القصيدة النقيّة

Views: 1740

أنطوان يزبك

 

“الشاعر هو كون داخل إنسان”

                       فيكتور هوغو

 

 ينطبق هذا القول على شعراء كثر، أناروا سماء الابداع بكلمات شجيّة، ولمحات سنيّة ، وصور شعريّة عذبة ونقيّة ، فكانوا علامات فارقة في الشعر والأدب والفكر والإبداع؛ وإيلي فرح واحد منهم ولا ريب، بيد أنه يملك إضافات أخرى ومزايا أهمّها اللطف والتهذيب واللياقة والخفر النابع من أصوله التي منها أخذ شخصيته الأدبية كما الاجتماعيّة والإنسانية.. ذلك أن الشاعر يحمل في قلبه عاطفة كبيرة ، وقوة تحمّل وصبر كبيرين على مكاره الحياة ومصائبها ومصاعبها يواجهها مبتسما مداعبا القدر بالشعر ، والصور الجميلة الزاهية، تمرّ متبخترة في قصائده المحببة على قلوب كل من يعرفه ، وهو يدرك ذلك تماما فتراه عابرا بذلك الإلهام الشفيف والكلمة الشعرية الحلوة،  كلّ الحواجز والموانع التي يفرضها الوجود على الكائنات الخيّرة لكي يجعلها تشذّ وتكفر؛ فتأتي قصيدة إيلي فرح لتواجه صحراء النفس وعنجهيّة المرء وتعبر بالشاعريّة القصوى الملهمة ، من هذيان الكلام إلى إبداع الكلمة !

في شعر الغزل وعاطفة الحبّ النقي ؛ يجعل إيلي فرح من المرأة أكثر من كائن موازي للرجل، او حاجة غير مفهومة تقوى وتضعف حسب الظروف؛ لا بل المرأة الحبيبة بالنسبة له،  هي كائن علوي جميل وقدسي ، جزء لا يتجزأ من الكون والأجرام السماويّة، جزء من الجلد الاعلى، نجمة خالدة تضيء في عتمة الفضاء الخارجي اللامتناهي، وهي في الواقع نور حيّ في قلب الشاعر تضيء عتمة القلب ومعاناته.  إذا أحبّ أحب بكل ذاته ووجدانه وقلبه وكيانه، يعطي ولا يطلب من مقابل،  ولو قوبل بالغدر والخيانة والخذلان فقد وجد نجمته الساطعة واستراحة من الوجع الكبير الضاري ، لكنّ الشعر لم يسترح قط، وها هو يقول في نجمته:

عزمت القلم تا يرقِّص الإلهام

حَبّوب ما كذب خبر مرَّه

قومي طلعي عا أقرب مْجَرَّه

تا ارسمك تحفة عا لوحة خام

وعا حسنك النجمات تتمرّى

نْ غاب القمر معذور ما بينلام

منك عا كتر السحر يتبرّى

ضلّي يا حلوة بلمعة الإيام

كل الكواكب عالسحر بِتنام

ضوّي لَوَحدِك بالعتم برا

 

هذا الشعر هو شعر كوني أزلي، ماثل مثل أحرف من نور،  يجمع بين المادة الكونيّة والروح، يمزج في إكسير واحد شفاف؛ الكون والمجرّات والفضاء في حضور ربّاني للحبيبة التي تسبح في الامداء العلوية ..

نستذكر في هذا الجوّ البديع شعر  بشار بن برد حين قال :

كأنها الشمس قد فاقت محاسنها

محاسن الشمس إذ تبدو لإسفار

الشمس تدنو ولا تصطاد ناظرها

ولو بدت هي صادت كلّ نظّار..

 

إيلي فرح شاعر يتعمق كثيرا في دنيا المشاعر وينصب خيمته في دار القلب الأكثر رقّة  حيث الأحاسيس الأكثر قربا من ذات الإنسان ، ولا يتردد في التماهي مع الحبر والسطر  والورقة ، والدمع المحترق احتراقا حتى يعبّر عن لواعج مكبوتة ، وآلام تضنيه وتضني سائر البشر في كلّ مكان وزمان من هذا الوجود السرّي ، هذا الوجود الذي فرض علينا نحن البشر قواعد لا نستطيع فكّ ألغازها فيقول :

فوق السطر كان الحبر زعلان

يبكي متل دمعات محترقة

وتحتو الورق يتنشق الحرقة

بقلب العتم في صوت شاعر كان

عم يختنق وما تسمعو الزرقا

وعم تشتعل نارو بلا دِّخان

مدري احترق عا لوعة الحرمان

مدري انطفى بْدمعو على الورقة ..

 

في هذه القصيدة لمعات بارزة من الشعر الرومنطيقي الذي وقف موقفا حازما من الوجود ، موقف الحيرة والتساؤل؛ طارحا جملة أسئلة محقّة عن سبب الغياب والعذاب ، العناء والجفاء، الصبر والقهر، وكل ما في هذه الدنيا من مصائب ونوائب…وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مثل هذه المسائل :

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت

أن السعادة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها

إلا التي كان قبل الموت بانيها

 

وفي مثل سياق هذه الأفكار التي تطرح تساؤلات وأفكار ما ورائية ، وتمزج  بين الفلسفة والدين والشعر والروح والمادة، من خلال طرح الأسئلة والإجابة عليها بحيرة وتساؤلات أكثر تعقيدا،  يقول الشاعر إيلي فرح :

كلن اجوا عالعيد الا العيد

بعدو بعيد

بعدو عنب لا تعتق ولا نبيد

كلن اجوا عالعيد وبعض الناس

شربوا الكاس

وماتوا قهر تا يخلقوا من جديد

كلن اجوا عالعيد حملوا الهم

بلعوا السم

بهيدا البلد شو احترقت مواعيد

الا لِ حملوا الشمع بعد الدمع

وعصروا لالله كمشة عناقيد.

 

أجل يرى إيلي فرح في الوجود وبقناعة الشاعر،  لعبة جهنمية ، لعبة انكسار الضوء في منتصف زجاجة النبيذ ولم يكمل الندماء ارتشاف عصير الآلهة حتى الثمالة الأخيرة القابعة منتظرة أكان ذلك في قعر الزجاجة أم في قعر ميادين الفناء، بضع هنيهات من انبهار أو سكرة عاتية ،  عاجلا تصحو منها، بيد أن الشاعر عاد من هذه اللحظة الوجيزة الفريدة بكلمات شعرية تبقى خالدة ، طالما هنالك بشر يطرحون الأسئلة عينها، ويشقون لمعرفة سرّ الحياة وما في حكمة الخلق بخصوص هذا الوجود العظيم وهذه الكينونة الخارقة !

إيلي فرح شعره جميل ومباشر تنظر عبره فيأخذك إلى أماكن أخرى من بقايا الأحلام الجامحة، والنزهات المشمسة التي يحلم بها عاشق في ليالي الشتاء الباردة ، وعاشقة تنظر من نافذتها تنتظر قدوم من وضعت في راحة  يده كل آمال أحلامها الوردية المكلّلة بباقات الاقحوان في ربيع جديد!…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *