ماذا لو لزمنا الصمت!

Views: 268

أنطوان يزبك

ضجيج الشوارع وصخب المعترضين وحناجر المتعبين كلها تصرخ وما من مجيب!

سيرة الكلام تدعو إلى السقام، والكل يحكي ويحكي لا يدان ولا يلام! وكثرة اللغو تمنع الرّحمة والعفو ؛ فكيف إذا علا الصراخ والصخب واشتدّ أوار اللهب ! يا له من عالم ساد فيه العجب وعلى المنطق خفّ الطلب، وحلّ محلّه  الجنون ، وضاعت فيه ثروات الآباء فجاع البنون…

من كثرة القرف والاعياء وتكالب الغفلة والغباء، آليت على نفسي أن أسلك مسلك الصمت، وأقول أيضا :

ماذا لو صمتنا كلنا ، ماذا لو دخل العالم في لحظة صمت دهرية  وسكوت وتأمل وصلاة وتعبّد ، فما علينا حينئذ،بعد طول تأمل، سوى أن نحصد منافع هذه الرياضة الروحية ، علّ الوجود يسلك إلى الهدوء سبيلا وتعود الكاينة – والمقصود بالكاينة :الدنيا والوجود حسب العامية المحكية المحببة-إلى صوابها..

إن ما قاله الإمام علي عليه السلام هو خير ما يستدلّ به عن قلة الكلام و وجوب الصمت في كثير من الأحوال :

الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به،

فإذا تكلمت به صرت في وثاقه،

فاخزن لسانك كما تخزن مالك و ورقك،

فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة .

يقول القديس مكاريوس أيضا :“اللسان العفيف هو الّذي لا ينطق، بما هو جارح أو ساخر أو يخدش الأسماع صاحبه مختون الشفتين لا يتكلم إلا بما هو للبنيان. كلامه مملَّح بالروح القدس”.

 الصمت هو  فضيلة عندما يكون الكلام كلام خطيئة، كلام نميمة وإفساد ، كلام خسيس يراد به الوصول إلى فساد كبير وخراب واقتتال ومجازر.. كلام إدانة يراد به الفتنة والمزيد من الدم والضحايا. لقد اندلعت حروب دموية وفاتكة جرّاء كلام في غير مكانه، وهل من يتّعظ؟ !

 الصمت  فضيلة الفضائل عندما يكون الكلام فارغا وتافها ومبتذلا وما أكتر الكلام الفارغ في هذا الزمن ؛ وما أكثر الثرثرة والهزء والهزار، حتى في الحواضر العلمية والمحافل الفكرية ودور العبادة والجامعات والمؤسسات وقصور الحكم ومجالس القرار في كل أنحاء الكون !!

وما أسوأها  حضارة بنت إعلامها على صحافة كاذبة ومغوية ومضللة ، صحافة الجريمة والغثيان المرضي وأخذ الناس إلى حتوفهم ، صحافة واعلام الشيزوفرينيا  والعصاب والهوس المرضي والكبت الهستيري في حين أنهم يدعون معرفة الداء والدواء ويصفون العلاج ويشخصون الأمراض كما لم يفعل ابوقراط أو ابن سينا في ذروة مجدهما.

رجاء ورفقا بالعباد ورحمة بالأولاد ،  فلنصمت ، حبّا بالله فلنصمت ونرتدع ونتأدّب ونتخشّع ولو لمرّة يتيمة  في هذا العصر المجيد، تحت شمس ساطعة من حقيقة لامعة!!

يقول جبران خليل جبران: “وقد يكون في الكلام بعض الراحة ، وقد يكون في الصمت بعض الفضيلة!”

وعليه لابد ّ لنا من الصمت لندخل مدينة الفضيلة ونلج بستان المعرفة التي تبعدنا عنها في كل يوم جلبة الصخب المتهتك وأمواج الضجيج العاتية..

وفي الختام نعود إلى كلام  الإنجيل ونقرأ:  “وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ.” (مت 12: 36).

 وأكرر أمام محكمة الضمير ومحكمة التاريخ ومحكمة الخالق الديّان : ماذا لو صمتنا قليلا، ولو لبرهة حتى تعود الروح إلى الكائن الانساني وإلى الوجود الذي هجرته من زمن طويل ! – ماذا لو….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *