نظرية المعرفة عند الفارابي

Views: 325

وفيق غريزي

يرى الفيلسوف كارل ياسبرز أن التأمل الفلسفي ينبع من صميم الانسان، وليس ادل على هذا من اننا نلحظ هذه الظاهرة في اسئلة الطفل الشغوف الى توقع الكبار في اشد احراج. ومن امثلة ذلك أن طفلا ينادي متعجبا: ”احاول أن افكر في ما اذا كنت شخصا آخر ومع ذلك فأنا دوما أنا”. وبهذا يمس الطفل شغاف مشكلة على غاية كبيرة من الأهمية هي مشكلة وجودنا، اي معرفة الذات الانسانية اي معرفة “الأنا” فيقف الطفل حائرا امام اللغز ينتظر الاجابة عن سؤاله، فهناك دائما، رغبة جياشة عند الانسان من حيث هو انسان، للاسهام في تيار الفكر الانساني بالتأمل والبحث. 

فالمعرفة الانسانية لا نهاية لها، حيث السعي الحثيث للبحث عن المجهول. كذلك التطلع الى صيغ الحياة الانسانية بصيغة جديدة، فالحقيقة هي في الفلسفة غاية بعيدة تسعى الاجيال وراءها، فالحقيقة التي بذل الفلاسفة الاوائل جهدهم من اجل معرفتها، هي التي لا زال الفلاسفة المعاصرون يشكلونها ويصوغونها بعقولهم، فالمذاهب تتعدد، والمشكلات هي هي، لأنها مشكلات نابعة من الانسان الذي مهما اختلفت اراءه فهو دائما شغوف بالمعرفة محب للاستطلاع يواصل دوما على تشكيل حياته وتذوقها. 

 

طبيعة المعرفة الانسانية 

الدكتور محمود موسى زيادة استنطق ما كتبه الفارابي ليصوغ روًية حديثة تليق بوجهة الفارابي. ولذلك قام الباحث زيادة بتحديد مصادر المعرفة عند هذا المعلم الثاني بعد المعلم الأول ارسطو. ويوًكد الباحث محمود موسى زيادة أن نظرية المعرفة تبحث في طبيعة المعرفة الانسانية، وبامكانها، وحقيقتها، وطرقها، ووسائل تحصيلها. وحدودها، ومعيار الحقيقة فيها، والهدف منها. ويتجه البحث في طبيعة المعرفة الى بيان كيفية العلم بالاشياء، أي طبيعة اتصال القوى المدركة لدى الانسان بموضوعات الادراك، وعلاقة كل منها بالأخرى. اما في ما يتعلق بطرق المعرفة ووسائل تحصيلها فتختلف وجهات النظر، فبينما يرى التجريبيون أن الحس هو مصدر المعرفة، يقرر العقليون أن المعلومات التي ترد عن طريق الحس ليست يقينية، ولا يمكن الركون الا الى العقل، كمصدر للمعرفة اليقينية، وما يصدر عن العقل فصدقه ضروري ومحتوم، على حد قول الدكتور زكي نجيب محمود. في حين يذهب اصحاب المذهب النقدي الى أن المعرفة لا تتم الا بالخبرة الحسية والمبادىء العقلية ايضا.

ويلفت الباحث النظر الى أن الفلسفة اهتمت بجملة هذه القضايا التي تشكل محاور البحث الفلسفي في مجال المعرفة منذ نشوء الفكر الفلسفي وحتى الآن، فقد ادخل افلاطون الموضوعات المتعلقة بالمعرفة فيما اطلق عليه، اسم الجدل، وضمنها ارسطو الموضوعات المتعلقة بالميتافيزيقا، او ما وراء الطبيعة.

الفلاسفة العرب كغيرهم من الفلاسفة السابقين لهم، اهتموا اهتماما ملحوظا بمبحث المعرفة في الفلسفة العربية لدى الكندي الذي يرى أن المعرفة الانسانية تنطوي على قسمة مزدوجة، تتجلى في المعرفة الحسية، والعقلية، فالوجود عند الكندي وفق قول الباحث: وجودان، واقعي حسي يمثل ما يمكن أن تدركه الحواس، مما تحصله من صور الاشياء الخارجية. ومثالي عقلي، يعبر عنه بالمقولات، او مما يدركه العقل من معان كلية “. اما ابو نصر الفارابي 259- 339 هجرية، فقد ظهر اهتمامه بمشكلة المعرفة، من خلال عنايته بمشكلة المنهج، واحصاء العلوم والمنطق، وغيرها، مما يمهد لنظرية المعرفة، فقد اولى الفارابي الحواس دورا مهما، فهي المصدر الاولي في تحصيل العلوم، حيث اعتبر الوجود شرطا ضروريا لحصول المعرفة. فادراك الكليات يتم من خلال ادراك الجزيئات. حسب قول الباحث زيادة.

 

عملية الادراك 

إن الوجود الخارجي هو الأصل الموضوعي للماهية (الكلي) في موضوع المعرفة، أما التذكر فهو، عند الفارابي، يعني أن الانسان يتذكر ما قد اجتمع لديه من تجارب متراكمة عن الجزئيات الخارجية المتشابهة، التي حصلت في نفسه جزءا جزءا، وفي اوقات متباعدة، عن الشيء الواحد بعد أن يكون قد نسيها. وينقل زيادة عن الفارابي قوله: “فمهما وجد ومهما قصد معرفته دلائل وعلامات ومعان ما كان في نفسه قديما، فكانه يتذكر عند ذلك،  كالناظر الى جسم يشبه بعض اعراضه، بعض اعراض جسم آخر كان قد عرفه وغفل عنه، ليتذكره بما ادركه من شبيهه”. وهكذا، فالفارابي في ما يخص المعرفة، وسبل تحصيلها، يبني موقفه على اساس أن حصولها للانسان ”يكون اولا من جهة الحواس”، فإتمام العملية المعرفية الحسية استنادا الى المفهوم الذي يعتمده الفارابي، لا يختلف عما يذهب اليه ارسطو عن تبعية العقل للحواس في فعله المعرفي زيادة ونقصا، حيث ينقل الفارابي عن ارسطو قوله: ”من فقد حسا ما، فقد علما ما”. لقد ميز الفارابي بين الادراك الحسي والادراك العقلي، وبين طبيعة كل منهما: ”ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، ولا من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يحس”. وأكد ما يرى الباحث أن الحواس هي المصدر الأول للمعرفة، بقوله: ”وحصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس، وادراكه الكليات من جهة احساسه بالجزئيات”. وقد قسم الفارابي الحواس الى قسمين: حواس ظاهرة وحواس باطنة، حيث يقول في رسائله:” إن قواها المدركة (النفس الناطقة) الحواس الظاهرة والباطنة والقوة المتخيلة والقوة الذاكرة والقوة المفكرة”.

اما علاقة الحواس الظاهرة بالاشياء المحسوسة، فتتمثل وفق اعتقاد الباحث، في ادراكها تلك المحسوسات من الخارج بانطباع صورها في الحواس، كانطباع او انتقاش الخاتم في الشمع فالفارابي يشبه تأثير المحسوسات في الحواس بتأثير الخاتم في الشمع، وهذا يماثل، الى حد كبير، ما ذهب اليه المعلم الاول ارسطو: “يجب أن نفهم أن الحاسة بوجه عام في كل احساس هي القابل للصور المحسوسة عارية من الهيولى”، وكان جوهر الادراك الحسي القائم بمماثلة بين المدرك (بكسر الراء) والمدرك المحسوس (بفتح الراء) وثمة تشابه واضحا بين ارسطو والفارابي.. ”ليست ماهية قوة الحس ولا الحاسة مقدارا بل بل صورة وقوة للماس، فيظهر من ذلك، بوضوح، لماذا كانت شدة المحسوسات تفسد اعضاء الحس، ذلك أن الحركة اذا كانت شديدة جدا على عضو الحس، فان الصورة تتلاشى كما يحدث في التناسب والمقام عندما تضرب الاوتار بشدة”. الفارابي يرى كارسطو انه اذا كان تأثير المحسوس قويا، فانه ربما يفسد عضو الحس. ويشير الباحث الى أن المعرفة الحسية عند الفارابي، تؤدي دورا مهما على صعيد المعرفة ككل، لأننا في مرحلة معينة لا ندرك حقيقة الشيء في ذاته، بل تقتصر معرفتنا على ما يتعلق بالخواص واللوازم والاعراض. وبالتالي كما يقول الفارابي في كتابه “التعليقات”: 

“فنحن نجهل في هذه المرحلة، حقائق عدة، كحقيقة الله، وحقيقة العقل، وحقيقة النفس، وكذلك الفلك والاركان الاربعة، ونجهل حقيقة الجوهر والجسم ولا نعرف منه سوى الابعاد الثلاثة”. اذا فالادراك الحسي لا يطلعنا على طبائع الاشياء، بل يطلعنا على خواصها ولوازمها واعراضها وجزئياتها، فاذا اردنا أن نطلع على طبائع الاشياء، وجب علينا أن نذهب الى ما وراء الادراك الحسي، ”للوقوف على حقائق الاشياء ليس في قدرة البشر، ونحن لا نعرف من الاشياء الا الخواص واللوازم والاعراض”. 

المعقولات كما يقول الباحث:”لاتدرك بالحس، بل تدرك  بالعقل عن طريق الحواس، والعقل يدرك الكليات بينما الحواس تدرك الجزئيات” فالادراك العقلي مرحلة عليا للمعرفة الانسانية، من حيث أن العقل بدلالته الحسية صورة ما في مادة معدة لان تقبل رسوم المعقولات، فهذه الهيئة بالقوة عقل، وبالقوة معقولات، وليس في جوهرها، ما يدفعها الى أن تصير معقولات بالفعل، ولذلك تحتاج الى شيء آخر ينقلها من حال القوة الى حال الفعل، وهذا الفاعل بحسب الفارابي، هو العقل الفعال. وكان النفس من وجهة نظر الباحث، في عملية الادراك تبدا مع الحس، لتنتهي الى ما هو خلف الحس، الى رتبة العقل المستفاد، وعندما يصبح لها الاستعداد التام بلغ هذا العقل رتبة العقل الفعال بلا واسطة. المعرفة الانسانية لحقائق الاشياء الموجودة خارجيا، لا تحصل الا بعد اتصال نفوسنا بالعقل الفعال، فهو الحافز لها على المعرفة، وهو ما يجعل العقل بالقوة عقلا بالفعل، من حيث المصدر الذي تفيض منه المعاني..

 

الذاتية والموضوعية

عرف الفارابي الفلسفة وبين حدها وماهيتها بأنها ”العلم بالموجودات بما هي موجودة”، فهي تقف على علة الشيء، وتتصل بالعلوم الاخرى، وتشملها سواء اكانت ”الهية او طبيعية، او منطقية، واما رياضية، واما سياسية، وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه، والمخرجة لها”، فالفارابي يحدد بان الفلسفة علم، ولما كانت العلوم منقسمة الى عملية ونظرية، اشتملت الفلسفة على هذين القسمين، اي الفلسفة النظرية والفلسفة المدنية، فالقسم الأول تحصل به معرفة الموجودات التي ليس للانسان فعلها، وهي الفلسفة النظرية، اما القسم الثاني فتحصل به معرفة الاشياء التي شأنها أن تفعل، والقوة على فعل الجميل منها، وهي الفلسفة العملية والمدنية.

وقد ذهب الفلاسفة ومن بينهم الفارابي الى القول: ”إن العلم هو حصول صورة الشيء عند العقل او انطباع صورته في الذهن، سواء اكان الشيء جزئيا ام كليا، موجودا ام معدوما”. والقصد من عند العقل حصول صورة المعلوم في آلات العقل وهي الحواس، وذلك في الامور المحسوسة، اما في ما يخص الأمور الكلية المجردة يقول الباحث: ”فتحدث صورة المعلوم في العقل بدون توسط الحواس، وتسمى الصور الذهنية المنقولة بالحواس المقولات الاولى، اما الكليات المجردة فتسمى المعقولات الثانية”.

ومن اساليب الفارابي في تحليل المعرفة، تقسيمه التصورات والتصديقات، الى بديهيات ونظريات. فهناك تصورات بديهية لابد من الانتهاء اليها، بحيث لا يكون هناك تصورات اخرى تتقدمها كمعاني: الوجوب، والوجود، والامكان وسائر ما يسمى في الفلسفة بالمفاهيم العامة. فهذه التصورات حسب اعتقاد الباحث لا يحتاج العقل في ادراكها الى اكثر من تصور موضوعاتها” فان هذه لا حاجة بها الى تصور شيء قبلها يكون مشتملا تصورها، بل هذه معان مركوزة في الذهن، ومتى رام احد اظهار هذه المعاني بالكلام عليها، فإنما ذلك تنبيه للذهن، لأنه لا يروم اظهارها بأشياء هي اشهر منها”. كما يقول الفارابي في كتابه “عيون المسائل” وثمة تصورات نظرية تنالها النفس بعد اعمال القوة الفكرية، في المفاهيم الكلية من الانسان والحصان والشجرة ونحوها، فان النفس تحصلها بعد ادراك افراد كثيرة لذلك المفهوم الكلي عن طريق الحس. ثم يقوم العقل بعد ورود صورها الى الذهن بتجريدها من المشخصات اولا، ثم بالأخذ بالقدر المشترك الذي يعم جميع الافراد.

 

الماهية والوجود

يعتقد الفارابي، بأن الماهيات موجودة في الاعيان، ولكن بشكل مختلط للمادة، الذي يدرك من الوجود معناه الثابت، ويدرك ماهيات الاشياء المتغيرة، يقوم بانتزاعها من هوياتها، ويدرجها حينئذ كماليات وصور عقلية مفارقة لموادها، كما يؤمن الفارابي، حسبما يوضح الباحث، بوجود معرفة اولية عن الانسان. وهذه المبادىء واشباهها هي التي تجعل المعرفة ممكنة، ولولاها لما استطاعت النفس أن تنقل الصورة من حال الى حال حتى تصبح مجردة تجريدا تاما يعقلها العقل الذي بالقوة، ويصبح بها عقلا بالفعل. فالماهية هي “ما يجاب به في”ما”” فكل سؤال عما هو الشيء تكون الاجابة عنه بماهية الشيء. ويعني الجرجاني بماهية الشيء: “ما به الشيء هو هو، ما دامت ماهية الشيء هي هي، فهي لا موجودة ولا معدومة، ولا كلي ولا جزئي ولا خاص ولا عام”. فعندما تلتفت الى ماهية الشيء، بغض النظر عن اية حيثية اخرى، سوف تجد مفهوما فحسب، لا يتضمن معنى الوجود، ولا معنى العدم، ولا يستلزم معنى كونه كليا ولا معنى كونه جزئيا. ولهذا السبب يقول الباحث: ”كانت الماهية من حيث هي هي، لا موجودة ولا معدومة ولا كلية ولا جزئية، اذ أن الماهية تطلق غالبا، على الامر المتعقل، مثل قولنا، التعقل من الانسان وهو الحيوان الناطق بغض النظر عن الوجود الخارجي”. فماهية الشيء، هي تلك الخصايص التي يدركها العقل، وتبقى على حالها دون اي تغيير يطرا عليها. 

اما عن علاقة الماهية بالوجود، فيثبت الفارابي أن الوجود يطرا على الماهية وليس مقوما من مقوماته الذاتية، حيث يقول: “الوجود من لوازم الماهيات لا من مقوماتها”. وليست الماهية متضمنة في معنى الوجود، ولا الوجود متضمنا في معنى الماهية، وهذا ينطبق على الموجودات”، 

ويشير الباحث الى أن الفارابي ميز بين الماهية والوجود في الاشياء، أي كل ما كانت هويته غير ماهيته، وكانت هويته من غيره، وهذا لا يعني الفصل بينهما، اذ توجد علاقة تربط بين الماهية والوجود، وبخاصة اذا كان الموجود منحازا بماهية ما خارج النفس، وتصورات النفس. فلا معرفة حقيقية دون اتصال بالعقل الفعال، الذي يفيض المعقولات والكليات. فالكليات لا تحصل من الحس او العالم الخارجي الموضوعي، بل تأتينا من العالم العلوي افاضة وهبة من واجب الوجود. فالانسان يقول الباحث: ”لا يحصل المعرفة باجتهاده، بل تجيء اليه هبة من خارجه، هبة من العالم الأعلى وعن طريق الاتصال بالعقل الفعال، ولكنه قبل ذلك يجب أن يكون العقل مستعدا لقبول الفيض، وبذلك يستطيع الانسان أن يحصل المعاني الكلية عن الاشياء، وبهذا يتحول الادراك الحسي الى ادراك عقلي”. 

وهكذا يبني الفارابي نظريته في المعرفة على الوجود، الذي يعتبره شرطا اساسيا وضروريا لحصول المعرفة. فعن طريق ادراك الجزيئات التي في الخارج، ندرك المعاني الكلية، فالوجود هو الاصل عند الفارابي في مجال نظرية المعرفة …..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *