أين نحن من الكُتب والمَكتبات في زمن التدفُّق المعلوماتيّ؟

Views: 118

نبيل علي صالح*

يُشكِّل الكِتاب رافداً نوعيّاً للثقافة والوعي الثقافيّ والحياتيّ، فهو رفيقٌ دائمٌ للعقل والعِلم، ومَن لا يقرأ سيبقى جاهلاً بنفسه، وبمَن حوله، وما حوله.. وستكون رحلة وجوده على هذه البسيطة متعثّرة ومملوءة بالأشواك.

ومن المعروف في حركة المجتمعات، أنّ كلّ الحضارات والأُمم التي تقدَّمت وأَنتجت وأعطت إنجازاتٍ ماديّة في مسيرة حياتها، وثَّقت تطوُّرَها وسجَّلت مُستنداتها ومُختلف فعاليّاتها ونشاطاتها بالكتابة والكِتاب.

حَدَثَ كلّ ذلك منذ أن عَرفت المجتمعاتُ الكتابةَ على اللّوح الطّينيّ المشويّ، إلى الكتابة على أوراق البردي، حتّى اكتشاف الطباعة والحبر.. بمعنى أنّها اعتمدت القراءة والكِتاب في كلّ محاور ودوائر تعليم أبنائها وأجيالها وتثقيفهم، كونها نافذة للتطوّر والإبداع الخلّاق، والاطّلاع التفاعُلي، وفتْح العقول على آفاقٍ جديدة، وتوسيع المَدارك والأفهام، وسدّ الكثير من ثغرات الذّات ونقائصها، والتّحرُّر من أَسْرِ بعض التقاليد والعادات القبيحة والسيّئة، وامتلاك القدرة على تحسين الخيارات والفاعليّات الوجوديّة، والعمل على صوغ وبناء أفكار ومعارف وثقافة إنسانيّة متجدّدة غير مرهونة للتقليد الأعمى، ومُستندة إلى الوعي والمسؤوليّة والغائيّة والحوار والاعتراف بالآخر المُغاير.

فكثيرة إذاً هي النتائجُ والآثار الإيجابيّة الخيّرة والنّافعة التي تترتّب عن القراءة وضرورة اعتمادنا على الكِتاب كمرجعيّةٍ أساسيّة للوعي والعِلم والتفتُّح والتعقُّل الصحيح. ومن خلال القراءة أيضاً يُمكننا وعي حركة المُستقبل ونستشرف بعض آفاقه، ونَفهم كثيراً من مناحي الحياة وسننها ونواميسها، في وعينا للحضارات وعلاقات بعضها ببعض، وطُرق صوغ وجودٍ فعّال ومُنتِج لنا، لنكون أمّةً قادرةً مُقتدِرة ولها حضورها النَّوعي بين الأُمم.

لكن للأسف عندما نُراجِع واقعنا العربي عموماً، في وعيه لقضيّة الكتاب والقراءة، فإنّنا نسجِّل تراجُعَ القراءة عندنا بوصفها قيمةً عقليّة وعلميّة، من منظومة القيَم الاجتماعيّة والسلوكيّة العمليّة. فالناس لم تَعُد تقرأ إلّا ما يقدّم لها عبر شاشات أجهزة الهواتف الذكيّة من منشورات ومشهديّات بصريّة، أو من خلال ما تشاهده في محطّات التلفزة من برامج ومسلسلات ونشرات أخبار. وحتّى الكُتب الرقميّة التي تنشرها مواقعُ الفكر والثقافة على شبكة الإنترنت العالَميّة، لا تحظى بكثير من المُشاهَدة والمُتابَعة، اللّهمّ إلّا من جانب قلّة قليلة من المفكّرين والمثقّفين وأصحاب الاهتمام بالذّات.

نعم، نحن في وضعٍ ثقافيٍّ قراءاتيّ، إذا صحّ التعبير، سيّىء للغاية، والأرقام والبيانات واضحة ومعبّرة في هذا الشأن، إذ تؤكِّد على أنّ العرب أقلّ الشعوب قراءةً واستهلاكاً للمجلّات والجرائد!! مع أنّنا في الماضي (ليس البعيد جدّاً، بل منذ عقودٍ قليلة سابقة)، كنّا نهتمّ اهتماماً كبيراً بالكتاب والقراءة (أكثر بكثير من اهتمام أبنائنا وأجيالنا اللّاحقة بهما). وكلّنا يعلم أنّه كان لهما اهتمام أكبر، ومكانة رفيعة ومبجّلة لدى الجمهور العامّ، ليس من جانب المدرسة والمراكز الثقافيّة المنتشرة في كلّ مكانٍ فقط، بل حتّى من قِبَلِ الأهل في المنزل، حيث كانت المكتبة تشكِّل ركناً أساسيّاً من أركان معظم تلك المنازل والبيوت. وفي كلّ مدرسة، حتّى في الأرياف، كانت تؤسَّس مكتبات تزخر بالكثير من الكُتب والمراجع والمجلّات والدوريّات، وفي كلّ بيت كان ربّ الأسرة يحرص – حال تأثيثه المقتنيات المنزليّة – أن يكون للمكتبة موقعها وموضعها كركنٍ أساس في بيته، ليس للتفاخُر، بل للقراءة وتربية الأبناء على نَهْلِ العِلم من خلال الكِتاب والقراءة فيه باستمرار.

وما زلتُ أذكر (كتجربةٍ ذاتيّة) في مرحلة الطفولة، عندما كنتُ في الصفّ الخامس الابتدائي (في العام 1979) كيف كان والدي يواظبُ، على الرّغم من الضائقة وقلّة ذات اليد، على شراء الكثير من المجلّات المتنوّعة لي، حتّى تلك التي كانت تفوق مستواي العمري والعقلي، مثل مجلّة “المدار”، و”الاتّحاد السوفييتي”، و”المجلّة الألمانيّة”، ومجلّة “الموقف الأدبي” السوريّة، ومجلّة “العربي”، ومجلّات الأطفال، كمجلّات “سعد” و”أسامة” و”تان تان” و”المزمار” و”مجلّتي”، إضافة إلى كثير من المجلّات الرياضيّة المعروفة آنذاك كمجلّة “الصقر”، و”ماتش” و”الرياضة والجمال” وغيرها.

كما أنّه خصَّصَ لي ركناً في المنزل وضعتُ فيه مكتبةً خشبيّة صغيرة صَنَعَها بنفسه لي، لتجميع الكُتب وترتيبها فيها. وفي العام الدراسي 1981/ 1982م (وكنت يومها في الصفّ السابع الإعدادي) انتظمتُ على قراءة الكُتب الثقافيّة والتاريخيّة والدّينيّة، حتّى أنّني تعاقدتُ مع مكتبة على شراء صحف ومجلّات محليّة وعربيّة سياسيّة ورياضيّة عدّة، كـ”السفير” و”الشرق الأوسط” و”الحياة” و”تشرين” و”الكفاح العربي” ومجلّة “المجلّة” و”الحوادث” و”الأسبوع العربي” وصحيفة “الاتّحاد” الإماراتيّة وغيرها…

العودة إلى الكتاب الورقيّ

أتذكّر تلك الأيّام بفخرٍ واعتزاز، وأسترجعُ جماليّاتها الفكريّة والإنسانيّة التي أَعطتني وسقتني الكثير من ينابيعها الفكريّة، وأُقارنُها بحسرةٍ وأسىً مع أيّامنا هذه، حيث قلَّ الاهتمامُ بالكتاب والقراءة، وباتَ حال كثير من مكتباتنا يُرثى له.

هذا إذاً كانَ في ذلك الماضي السعيد. أمّا في الحاضر، فواقع القراءة وحركة تداوُل الكُتب كزادٍ للمعرفة، لا يُبشِّر بالخير كما قلنا سابقاً. وعلى هذه الخلفيّة، لاحظنا أنَّ كثيراً من الدول بدأت تُعيد حساباتها وتعود مجدّداً لابتداع أساليب جديدة لتحريض الناس – وبالأخصّ الأجيال الشابّة – على القراءة من خلال الكتاب الورقي، في محاولةٍ لبناء تلك الأجيال على أُسسٍ علميّة وثقافيّة وتربويّة صحيحة وعقلانيّة حكيمة، تأتي على رأسها مسألة تحفيز الأجيال الشابّة، وبخاصّة الأطفال الصغار، على اتّخاذ الكِتاب كرفيقٍ دائم وخَير جليس لهم، ومحاولة بناء علاقة وعي متكاملة معه، في الدرس والمراجعة والنقد والسؤال والبحث والتقصّي، وصولاً إلى التعلُّم والفَهْم والتّعمق والاستناد إلى المعايير العلمية والموضوعيّة في الخيارات، وبناء أُسس المستقبل المُنتِج والفاعِل.

وكانت بعضُ بلداننا العربيّة، وعلى رأسها بلدان الخليج، من الدول السّبّاقة للاهتمام الجدّي الحقيقي – لا الشكلي الديكوري – بموضوع الكتاب وإعادة التأكيد على أهميّة القراءة من الكُتب كمصدرٍ للمعرفة، وحثّ الأجيال على تناوُل معارف الكُتب كمراجع رئيسة للثقافة الأصيلة، ليس رغبةً في الابتعاد عن (أو تناسي) الطُّرق والأساليب الأخرى الأسرع في الوصول إلى المعلومات وبناء أُسس العلوم، وأعني به وسائل التواصل وتقنيّات الثورة المعلوماتيّة الهائلة، بل للعودة مجدّداً إلى ثقافة الكتاب الورقي وليس الرقمي، من منطلق أنّ الكتاب الورقي يجعل ذِهن القارئ متركّزاً على أفكار الكتاب، فلا يتشتّت ولا يضيع. كما أنّه يمكن أن تنشأ علاقة حميمية بخاصّة بين الكتاب الورقي والقارئ الذي يزيد تركيزه مع وجود القلم والورقة بجانبه للتلخيص والسؤال والاستفسار ومُراكَمة الخلاصات والنّتائج؛ وهذا ما توصَّلت إليه كثيرٌ من الأبحاث والدراسات التي نُشرت في بعض الجامعات المرموقة كجامعة أوكسفورد، وخلاصتها أنّ الكتاب الورقي، ووجود مكتبة في المنزل، له تأثير نفساني وعملي كبير على الطلّاب، كنشاط ذهني لنموّ الوعي وتفتّحه، وخلْق إمكانيّة لترجمة الإبداع.

نُثير هذه الإشكاليّة حول موضوعة “القراءة والكتاب”، مؤكّدين على ضرورة العودة إلى القراءة واعتماد الكِتاب كنافذةِ معرفة حقيقيّة وجسر تواصل حضاري، بعدما شاهدنا فَوز الطفلة السوريّة “شام البكّور” في مسابقة “تحدّي القراءة العربي” التي انعقدت في إمارة دبي، ووقفنا على ما حازته من اهتمامٍ شعبي وسياسي كبير، بعدما تفوَّقت على أقرانها، وعلى مَن هُم أكبر منها سنّاً في موضوعة القراءة.

ولكن مع إشادتنا بالطفلة وتأكيدنا على ما تتميّز به من ذكاءٍ فطريّ وحضورٍ ألمعيّ طفوليّ لافت، وثقة بالنَّفس، ومقدرة لغويّة وقرائيّة كبيرة، ومع تقديرنا لما حظيت به من جوائز واهتمام رسمي، نجد أنّ المنطق والعِلم والمُحاكَمة العقليّة تدفعنا لتسجيل النقاط التالية:

  • الطفولة مرحلة عمريّة مهمّة، تُؤسِّس لما بعدها (سلباً أو إيجاباً) من حياة الإنسان، ولهذا يجب التعامل معها بحَذَرٍ ووعي ومسؤوليّة ونبل أخلاقي رفيع، من خلال الحفاظ على مناخاتها وأدواتها التربويّة المُناسِبة، بعيداً من التجاذبات والاستغلال السياسي وتلميع الصور والبروباغاندا الإعلاميّة.
  • العلمُ والمعرفة والقراءة، موضوعات مهمّة لتطوير مجتمعاتنا العربيّة (فهذه بديهة البديهيّات)، ولكنّ مُجتمعاتنا عانت من الإخفاق المستمرّ للسياسات العقلانيّة الرشيدة من حولها، فالتسييس كان، ولا يزال، سيّد الموقف، وعلى مختلف الأصعدة التعليميّة، الأمر الذي آل في النتيجة إلى الفشل والإعاقة العلميّة والنهضويّة.
  • موضوع الكتاب والقراءة يجب ألّا يبقى في إطار الاهتمام النخبويّ الرسميّ، بل ينبغي عودته، وسريعاً، إلى دائرة الاهتمام العمومي من خلال رسم خطط تربويّة، وابتكار سياسات علميّة جديدة، تُعيد للقراءة اهتمامها الشعبي وفعاليّتها العامّة في مجمل مَسارات حركة واقعنا العربي الذي لا نُحسد عليه البتّة.

***

*كاتب وباحث سوري

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *