عن الكِتَاب في يومه العالميّ أَنَا مَنْ بَدَّلَ بِالكُتْبِ الصَّحَابَا / لَمْ أَجِدْ ليِ وَفِيّاً إِلاَّ الكِتَابَا

Views: 363

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي *

بمناسبة اليوم العالمي لخير أنيس وأحسن جليس (الكتاب) الذي يصادف 23 من شهر أبريل من كل عام، حيث تُقام احتفالات في جميع أرجاء العالم لتبرز القوة السحرية للقراءة ولمطيّها المخلص (الكتاب) باعتباره  حلقة وصل وجسراً أبدياً  يربط بين الأجيال ومختلف الثقافات في مختلف الملل  والأعراق والاجناس والاثنيات ، وقد دأبت  منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) الاحتفال باليوم العالمي للكتابوحقوق المؤلف حيث يعتبر هذا اليوم فرصة سانحة للاحتفاء بالكتاب والمؤلفين حول العالم.. أدعو القارئ الكريم إلى هذه الجولة فى عالم الكِتَابةوالكِتاب، فأشيرأنّ  معظمُ المراجع التاريخية تؤكّد  أنّ الكتابةَ بدأت في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صُور تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم، وقد تمّ العثور علي الكثير من النقوش، والصُور،والعلامات، والرّموز التي تدلّ على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، بخاصّة في الحضارة السوميريّة قبل حوالى ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسماريّة أو الإسفينيّة، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرّسوم والصّور مثل تلك التي عُثر عليها في كهوف” ألتاميرا” في إسبانيا، و”لاسكو “في فرنسا أو “رسوم ناسكا” في البيرو عند شعوب الإنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى من العالم .

يؤكد الباحث فى التاريخ القديم الأستاذ إلياس غندور أيوب عطا الله فى كتابه ( الكون والأنسان بين التطوّر والعلم والتاريخ) : ” أنّ الكتابة الأبجدية الكنعانية (الكنعانيون وهم من زمن 4000 ق م،) إبتكرها تاووتس الكنعاني ابن ميسور، او ميزور، ابن اميتس ابن كنعان ابن حام، بحوالي 500 سنة قبل ان يولد الفينيقيون في التاريخ، علماً أن الفينيقيين هم أحفاد الكنعانيين، وأنّ قدموس الكنعاني شقيق فينيقس وكيليكس وأوروبا، جميعهم أولاد أجينور أو أشنار ملك صور اللبنانية في القرن 13 ق م هو الذي حمل الأبجدية الكنعانية، وليس الفينيقية، إلى بلاد الأغريق حوالى 1250 ق م. وحديثاً عثر علماء اليونان/الاغريق على عملات معدنية من العصر الكنعاني عليها صورة قدموس يعلّم الناس هناك الكتابة الكنعانية ” . ويضيف الأستاذ غندور” أنّ اللغة اللّاتينية التي إشتقت منها معظم اللغات الأوروبية هي بنت اللغة الكنعانية، و هي تحمل ملامحها في جميع صورها ومعانيها. ولقد طوّر الفينيقيّون بعد الكنعانيين الكتابة ببراعتهم مستعينين بالإرث الكنعاني ثم بالسّومرية، والمصرية القديمة.

 

ويؤكد الباحث فى اللغة الأمازيغية الأستاذ محمد حمزة من جهة أخرى : “أنّ الدراسات الحديثة أثبتت أن التيفيناغ هو سابق للأبجدية الفينيقية بقرون. وهو من الكتابات القديمة التي يُقال أنها كانت موجودة في وقت الكتابة الأولى التي عرفت في منطقة سومر ببلاد الرافدين”، ويوجد مِن المختصّين مَنْ يؤكد أنّها عاصرت الكتابات المسمارية القديمة، كما تشير عدّة نظريات إلى أنّ كتابة التيفيناغ هي إنتاج محلي للأمازيغ في شمال إفريقيا. و ترجع بعض الدراسات التيفيناغ إلى الكتابة الليبية القديمة التي تعود إلى آلاف السنين والمدوّنة في الرّسومات الحجرية، حيث جرى تحوّل من الرّسومات التي تجسّد كلَّ شيء إلى ما يُسمى التجريد إلى أشكال هندسية، وهذا ما يؤكد أن الإنسان في شمال إفريقيا إنتقل من الرّسم إلى الكتابة وعلى سبيل المثال إنتقل من رسم المرأة إلى الترميز لها من خلال شكل المثلث الموجود في الكتابات والرسوم، وهو نفسه الحرف (T).

وطوّر الاغريق بعد ذلك أبجديتهم نقلاً عن الكنعانيين والفينيقيّين، وأصبحت عندهم أبجدية خاصّة بهم، والتي غدت في ما بعد الأبجدية الخاصّة بالغرب، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية، وقد سادت اللغة الرومانية واللاتينية في مختلف الأصقاع الأوروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرّومانية على بلاد الغرب. و– حسب الباحث إلياس غندور أيوب عطا الله – الكتابة العربية جاءت متأخرة، “إذ يعود تاريخ ظهورها إلى حوالى 600 ق م، من التاريخ، والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السّامية ،جاءت من رحم اللغة الآرامية السّريانية بنت الكنعانية وربيبتها “. وبعد ظهور الإسلام بدأت اللغة العربية تنتشر فى مختلف أصقاع العالم  خاصّة بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية إنتشاراً واسعاً مع إنتشار الدّين الإسلامي الحنيف . ولقد وصلت العربَ عن طريق الأنباط. وفي القرن الثامن للميلاد شرع المسلمون في إستخدام الورق الذي إبتكره الصّينيون بدلاً من الرقّ أو الجلود حيث أسّسوا مصنعاً للورق وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر. وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنكلترا في القرن الخامس عشر. وفي عام 1436 إخترع غوتينبرغ الطباعة فكان ذلك الإختراع فتحاً عظيماً، وقفزة نوعية هامّة، وفاصلة في تاريخ البشرية والكتابة والكتاب ، حيث تمّ نقل الكتاب من طور المخطوط الغميس أو الورق المهر  إلى المكتوب الورق المطبوع الصّقيل.

 

جريمة إتلاف المخطوطات وإحراق الكتب

 غير خافٍ على احد ان جرائم فظيعة ارتكبت في حقّ الكتاب على امتداد التاريخ في اسبانيا  على وجه الخصوص حيث تعرّضت الكتبُ والمخطوطاتُ منذ أقدم العصور إلى المتابعة، والمصادرة، والرقابة،والمنع، والحرق، والإتلاف… فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم، وفيها كانت تُسجّل الإختراعات وأسرار الدّول والصنائع، والمُخترعات، بل كان الكتاب هو السّلاح الأفتك، والوسيلة المثلى والأنجع للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية. كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم( إقرأ ) وفي سورة البقرة يرد إسم الكتاب كتاب الله فيقول جلّ جلاله: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) . وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرّعبَ والخوف والهلعَ في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم، في حين كان يحتفي ويُعْنىَ بها آخرون، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمر عام 1501 بحرق مكتبة مدينة الزّهراء التي كان فيها ما ينيف على ستمئة الف مخطوط في ساحةتسمّى “باب الرملة ” (Bib-Rambla)بغرناطة، وهي ما زالت موجودة فيها حتى اليوم، وتنطق بالإسم العربيّ القديم نفسه،  جرّاء جريمته الشنعاء اختفت العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التى أبدعها علماء أجلاّء في مختلف فروع  العلوم والآداب والمعارف بالأندلس، ويُقال إنّ الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه الكتب أثناء إضرامهم النارَ فيها في ثنايا ألبستهم لفرط جمالها، وروعتها، وبهائها، إذ كان  بعضها  مكتوباً بماء الذهب والفضّة واللجين .وقد وصف لنا العديد من شعراء الأندلس بحسرة ما بعدها حسرة كيف أنّ الإسبان بعد حروب الإسترداد كانوا يحرقون الكتبَ، والمخطوطات العربية، ويلطّخونها على مرأىً من الملأ بالزبل أو النجاسة وفي ذلك أشعار كثيرة مشهورة.

وقد أعاد التاريخ نفسه في بلدان أميركا اللاتينية في ما بعد حيث قام الاسبان غداة إكتشافهم لها عام 1492 بحرق العديد من المخطوطات، والكتب، والأسفار القديمة التي تعود لشعوب المايا، والأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا، والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكّان الأصلييّن في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أميركا اللاتينية الأخرى.

وحرقُ الكتب أو إتلافها بالنار يجري عادة في العلن وبكلّ وقاحة لأسباب أخلاقية أو سياسية، أو أيديولوجية،أو فكرية، أو دينية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّا كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية. ويذكر لنا التاريخ العديدَ من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تُغتفر. فبالإضافة الى حرق كتب المسلمين في الأندلس، وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو، نذكر حرق الكتب على عهد أسرة تشين الصينية، وحرق النازييّن لكتب خصومهم في أوروبّا. وتُعتبر حوادث حرق الكتب مصائب وجرائم لا تغتفر في حقّ العلم، والإنسانية تتذكّرها الأجيال تلو الأجيال  بحرقة في القلب وغصّة في الحلق وألم في القلب بسبب قيمة هذه الكتب التي تُعتبر خسارة ثقافية فادحة لا تعوّض في حقّ البشرية جمعاء .

 

مخطوطات مغربية دير الاسكوريال

يظنّ الكثيرون أنّ مكتبة دير الإسكوربال التي لا تبعد عن مدريد سوى بضع كيلومترات  ، المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة أنها من مخلّفات العلماء المسلمين في إسبانيا، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب العربية أينما وُجدت، ولم يبق بعد خروج العرب والبربر من الأندلس فى شبه الجزيرة الايبيرية كتب عربية تستحقّ الذّكر. وفي أيام السّعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعاً بإقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه إبنه زيدان على سنته في الإهتمام بالكتب، فنمّى  المكتبة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أحدُ أقاربه، وإضطرّ للفرار، كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه، فوضعها في صناديق ووجّهها الى مدينة آسفي لتُشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين( القنصل الفرنسي كاستيلان) لينقلها الى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة إنتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر  فرّ  بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرض له في عرض البحر قبالة مدينة سلا قرصان إسباني يُسمّى( الأميرال فاخاردو) وطارده للاستيلاء على الصناديق، ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنها مملوءة بالذهب، واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلا الكتب، فكروا، من حُسن الحظ أن يقدّموها هديّة لملكهم. ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني، الذي كان منهمكاً في بناء الدّير الفخم للقدّيس لورينثو بالمحلّ المُسمّى اليوم الإسكوريال أوقفها على هذا الدّير، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماءُ من كلّ  أقطار العالم للإستفادة من ذخائرها، ونفائسها.

 

طرائف وحكايات عن الكتاب

كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند العرب وما يزال، فقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فهذه مدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات و أروقة العلم و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة الحكم المستنصر بها (861-976 ) أزيد من أربعمئة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه “بول لين” إنه دودة كتب، والذي عنه يقول إبن خلدون:إنّه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله . كما إعتنى الخليفة هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الدّيار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته. وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة  المكتبة الكبرى التي كانت بها وقد تمّ تدمير  واحراق العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258 كما يروي لنا التريخ  بحسرة وألم .

 

كان العلماء المسلمون وغير المسلمين يحبّون الكتب حبّا جمّا، ومعروف ان الجاحظ مات تحت أكوام كتبه، وكانوا يتحمّلون المشاقّ وعناء ووعثاء السّفر لطبع كتبهم في البلدان البعيدة عن مواطن اقامتهم ، وكانت إعارة الكتب شيئاً ممقوتاً عندهم، وكان شاعرهم يقول في ذلك:

ألاَ يا مُستعير الكتب دعني /  فإنّ إعارة الكتب عارُ

فمحبوبي من الدنيا كتابي  / وهل رأيت محبوباً يعارُ

وأبْخلُ عندَ مسألةِ الكِتابِ/  أجودُ بِجُلِّ مالي لا أُبالي

وذلكَ أنني أفْنيْتُ فيه  /  عزيزَ العُمرِ أيَّامَ الشبابِ

 

ويُقال إنّ الكتب التي تُعار لا تُردّ إلى أصحابها، وهم محقّون في ذلك،فالخارج  منها مفقود والعائد  منها مولود ،ويُحكى أنّ الكاتب الفرنسي المعروف إميل زولا زاره ذات مساء أحدُ أصدقائه في بيته، وعندما بدأ يطّلع ويتفقّد مكتبة زولا الكبيرة، فيأخذ كتاباً ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة، وفجأةً وقع نظرُه على كتابٍ كان يبحث عنه منذ مدّة طويلة ، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يُعار لا يُردّ أبداً إلى صاحبه، ولا يعود الى مكانه، والدّليل على ذلك أنّ معظم الكتب التي ترى أمامك في هذه المكتبة مُستعارة.. !

وقال أحدُ الشعراء الكولومبيّين: إنّ الذي يُعير كتاباً إقطع له يداً واحدةً، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له الإثنتين.. !وكان الكاتب الإيرلندي الساخر برنارد شو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة بلندن ، وفجأة وقع نظرُه على كتابٍ له كان قد صدر مؤخّراً، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير من دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقةً ببعضها، كما كانت العادة بالنسبة إلى الكتب الصّادرة فى ذلك الحين، فاشترى شّو الكتاب، وكتب تحت الإهداء القديم ما يلي : برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه إليه من جديد.. !

يقول الشاعر العربي الذائع الصّيت الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أحمد أبو الطيّب المتنبّي عن الكتاب:

أعزّ مَكانٍ في الدّنى سرجُ سابحٍ/وخيرُ جَليسٍ في الزّمان كتابُ..

***

* كاتب وباحث ومترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية- الأميركية للآداب والعلوم – بوغوطا ولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *