المؤتمر الإقليمي: “علوم الأديان والتنشئة على المواطنيّة” 

Views: 27

إعداد الدكتور مصطفى الحلوة

على مدى يَومَي 19 و20 أيار 2023، نظّم “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنيّة “، بالشراكة مع مؤسسة Hanns Seidel   الألمانية، مؤتمرًا إقليميًّا بعنوان: “علوم الأديان والتنشئة على المواطنيّة “، في القاعة 1188 للمحاضرات – جبيل القديمة. وقد ضمّ المؤتمر محاضرين من لبنان والعراق وجمهورية إيران الإسلامية.

استُهلّت الجلسة الافتتاحية بكلمة تمهيدية لمقرّر المؤتمر د. مصطفى الحلوة، أعقبتها كلمة لرئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، وكلمة لمندوب “هانس زايدل ” في لبنان الأستاذ طوني غريِّب. وقد أضاء أ. د. لويس صليبا، منسق أعمال المؤتمر، على الأسباب الموجبة لعقده، مُستعرضًا عناوين الجلسات الستّ والمداخلات الإحدى عشرة المندرجة تحتها. وقد جاءت عناوين هذه الجلسات كالآتي: علوم الأديان في سبيل تنشئة على المواطنيّة/ بين الفلسفة والدين/ علوم الأديان: مجالُها ومناهجُها / علوم الأديان في المسيحيّة والإسلام / علوم الأديان وتدريسها في العالم العربي / علوم الأديان في العالمين العربي والإسلامي بين الأمس واليوم.

وقد كانت إحدى عشرة مداخلة، قدّمها على التوالي: أ.د. فريدريك معتوق، سماحة العلاّمة السيد علي الأمين، أ.د. وجيه قانصو، د. كارولين ديب، القاضي الشيخ محمد النقري، د. مرغريت الأسمر بوعون، الأخت د. روز أبي عاد، د. عبّاس خامه يار، أ.د. أمير ججي، الشيخ أ.د. علي سميسم، أ.د. لويس صليبا.

وقد ترأس الجلسات الست: د. ربيع كسروان، د خليل خير الله، د. حنّا الحاج، أ. د. خضر نبها / د. سوزان منعم، د. كلود مرجي.

 

غلب على الحضور العنصر الشبابي الجامعي الآتي من مختلف مناطق لبنان، من عكار، والضنية، وطرابلس، وصيدا، والنبطية، وبيروت وكسروان. وقد كان حوارٌ تفاعلي بين الطلبة والمحاضرين، أضفى ثراء على البيان الختامي. وفي ختام أعمال المؤتمر، تمْ توزيع شهادات مشاركة على الطلبة المشاركين في المؤتمر.

ولقد خلص البيان الختامي إلى النقاط والمحاور الآتية:

أولاً – في تحديد المفاهيم والمصطلحات:

إنّ عدم تحديد التسميات، كما المفاهيم والمصطلحات، يُؤشِّرُ، منهجيًّا، على عطبٍ بنيوي، مما يعكس مشكلةً، لدى كثيرين من الباحثين. فعلى سبيل المثال لا الحصر – وفق ما ذهب إليه الباحث لويس صليبا في مداخلته (الجلسة السادسة)، وبما يخصُّ موضوعنا، “دأب رجال الدين والسياسة، وحتى العلماء البحّاثة، على استخدام مصطلح الأديان السماوية، ويُقابل هذا المصطلح، في الاستخدام العربي، تعبيرٌ مُضاد، هو: الأديان الوضعية، أي أديان أوحت بها السماء، وأخرى من وضع الإنسان “ويفضي ذلك، بحسب صليبا، إلى انبناء علوم على أحكام قيمية، بل إدانة مُسبقة، وحتى على تكفير ضمني.

 

تأسيسًا على ما سبق، نتوقف عند المصطلحات / المفاهيم الآتية:

– الدين: كمفهوم، بحسب الفيلسوف الألماني كانط: “.. هو معرفة الواجبات كلّها، باعتبارها أوامر إلهية”. أما نظيره الفيلسوف هيجل، فيرى أنّ “الدين هو الروح الذي يعي جوهره. هو ارتقاء الروح من المتناهي إلى اللامُتناهي. وفي الدين، يرتفع الإنسان من المحدود إلى اللامحدود، ويذهب إلى ما بعد الفردي، ويرتقي إلى الكُلِّي”.

– علوم الأديان: فرعٌ من فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، يدرس الأديان دراسة أكاديمية مبنيَّة على مناهج علمية. وتهدف علوم الأديان إلى صناعة مفاهيم دينية شاملة، وهذه صفة من صفات العلم.

وبحسب الباحث عادل تيودور خوري، تتناول هذه العلوم “النواحي المختلفة، التي تتعلّق بالدين، كظاهرة عامة، وبالأديان التي تكوّنت في تاريخ البشرية. فهناك علم الظاهرة الدينية، وتاريخ الأديان المفردة، وهناك نواحٍ خاصة، ينكبُّ عليها علم النفس وعلم الاجتماع”. وفي عِداد روّاد هذه العلوم: الفرنسي آميل بورنوف، والألماني ماكس موللر.

– فلسفة الدين: ظهر هذا المصطلح، نهاية القرن الثامن عشر. وهي فرعٌ من فروع الفلسفة، تعتمد العقل، والدراسة التحليلية المنطقية العميقة للمفاهيم الدينية والمبادئ العقدية الدينية. هذه الفلسفة لا تتوخّى الدفاع عن المعتقدات الدينيّة وتبريرها، على غرار ما يفعل اللاهوتيون والمتكلّمون. فجلُّ غايتها شرح بواعث الدين ومنابعه، والنفس والعقل (..) ولا علاقة لفلسفة الدين بإيمان فيلسوف الدين من عدمه.

 

– مفهوم المواطنيّة: هي يوتوبيا خلاّقة، تحاول تجاوز حدود الإتنية والعرقية، وتحافظ على عقلانية مؤسَّسَة على الحق والمساواة. وتُمارَس المواطنيّة داخل المجال العام، كما أنّ لديها حضورًا ماثلاً في الشأن العام.

في الصيغة الفرنسية، فإنّ المواطنيّة تتمثّل في حقوق الإنسان وعدم التمييز بين مواطن وآخر، مستندةً إلى “إعلان حقوق الإنسان والمواطن ” للعام 1789، غداة قيام الثورة الفرنسية.

– بين فلسفة الدين وعلم الأديان: يذهب الباحث عادل تيودور خوري إلى أنّ “الفرق بين فلسفة الدين وعلم الظاهرة الدينية هو في المنهجيّة المختلفة، والغرض المختلف، والأسئلة المطروحة المختلفة. فعِلم الظاهرة الدينية هو وصفي، أما فلسفة الدين، فهي محاولة تقييميّة للحدث الديني”.

– مفهوم التأويل: بالمعنى الهرمنوطيقي Herméneutique، الذي لا يقف عند الدلالة اللفظية، إنما عند المعنى اللغوي، ويذهب إلى مواضع أكثر بُعدًا. والتأويل، عند علماء اللاهوت، هو تفسير الكتب المقدّسة تفسيرًا رمزيًّا أو مجازيًّا، للكشف عن معانيها الباطنة. أما فلسفيًّا، فهو صرف النظر عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتملُه الدليل.

 

– بين مفهومَي التفسير والتأويل: التفسير يُقرِّر نتيجة: صح أو غلط. أما التأويل، فهو توصيفي: جيِّد / رديء – عميق / سطحي. (Clonazepam)

ثانيًا – في بعض التساؤلات المطِلَّة على قضايا المؤتمر والانتظارات

ماذا تُقدِّم أو تضيف الأديان إلى المواطنيّة؟

كيف يُعادُ فهمُ الدين، ويتمّ إنتاجُه في الإطار المواطنيّ؟

كيف تُبنى مواطنيّة، واستطرادًا مواطنون، في ظل التنشئة العصبيّة البيتيّة (ضمن الأسرة النواتية)، والمدرسة ومركز العمل؟

هل ثمة ضرورة لإلغاء التديُّن، لدى الإنسان المؤمن، كي يكون مواطنًا؟ وهل ينبغي إلغاء الدين كي تستقيم المواطنية وتتحقّق الديمقراطية؟ بل هل ينبغي إلغاء الدين في الدولة لكي يتحقّق فيها النظام الديمقراطي؟

 

كيف يُساهم فهمُ الدين والعقائد، في تعزيز التسامح والتعايش السلمي بين الثقافات المختلفة؟

هل حقّقت علوم الأديان أهدافًا، لم تستطع أن تصل إليها فلسفة الدين؟ وهل استطاعت هذه العلوم أن تُعزِّز أطروحة قبول الآخر المختلف؟

لماذا يرتبط العالم الثالث بالدين أكثر من العالم “المتطوِّر؟

هل سيتمّ التصالح مع الإلهيات الحديثة والإلهيات الدينية، أم سيتمّ اختيار طريق آخر؟ السؤال مطروحٌ على المجتمع الإيراني، بلسان د. عباس خامه يار.

ما هو الحدُّ الفاصل بين فلسفة الدين وعلوم الأديان؟

ثالثًا: في المضامين والرؤى

الدين يُشكِّلُ عنصرًا حيويًّا في تاريخ البشرية، يمتدُّ على كل الأزمنة والأمكنة، ويتداخل مع المشكلات الحياتية والوجودية، التي يُعاني منها الإنسان.

 

حاجة الإنسان إلى الدين كحاجتِهِ إلى الدولة مع اختلاف طبيعة الحاجتين وبواعثهما، فكلاهما يتحكّمان بمسيرته ويُشكّلان بناءه الأخلاقي، ونظرته إلى الحياة والكون والبيئة المحيطة به. (من وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك).

الفيلسوف وليم جيمس: “يُعتبرُ الدين أعمقَ شيء في حياة الإنسان، وأكثره عقلانيةً وحكمةً”.

الدين كان مطروحًا دومًا، لدى مجتمعات العالم المختلفة، وخاصةً المجتمعات الغربية، باعتباره قضية محورية في صُلب الدراسات والبحوث.

في توصيف الدين الحقِّ، يقول الدلاي لاما: “أفضل دين هو ذاك الذي يجعلك في وضع أفضل”. ويقول المهاتما غاندي: “أبشع الجرائم وأفظعها تلك التي دوّنها التاريخ، وارتكبت باسم الدين أو باسم دوافع إنسانية”.

لا يمكن فهم الحضارات والثقافات المعاصرة وقيمها ومفاهيمها إلاّ إذا فهمنا الأديان التي ننتمي إليها، كون الدين أحد المحرّكات الرئيسة للجنس البشري. إضافةً إلى أنه يؤسِّس لنفسه حضورًا عموميًّا.

 

المشكلة لا تتمثّل بحضور الدين في الفضاء العام، بل تكمن في تسييس الدين، أي تجييره لخدمة أغراض سياسية.

سبب الحروب، على مدى التاريخ، السياسة وليس الأديان. فالسياسة فيها مطامع وفيها غلبة، ويحصل فيها توظيف للدين.

كان للدين، في فترات الصراع والحروب الدامية، التي شهدتها بعض مناطق العالم، أن يُؤدِّي دورًا مُساعدًا في تعزيز الانتماء المواطني. ومثالنا في هذا الصدد، لاهوتُ التحرير في أمريكا اللاتينية، الذي وُلِدَ من رَحِم الكنسية الكاثوليكية، وأخذ جانب الوطن والمواطنين، في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية.

إن قيام الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية مشروطٌ بالتعليم الديني، وفق ما تنص عليه “وثيقة الأخوة الإنسانية”، وبعد ذلك لن تقوم لهذه المجتمعات قائمة، بل نكونُ بإزاء تعايش سلمي، يتجدّد تكرارًا، بعد حروب دامية، لن تنتهي، وانقسامات مستمرّة.

إن الأديان بعامة لا تملكُ القُدرة على الاستمرار، وتأدية الدور المنوط بها، إلاّ بعد عملية تأويل، فتروح إلى تموضعٍ جديد. علمًا أن التأويل يبدأ بالنص وليس بالمُسبقات.

 

إن ما يجري في عصرنا، وقد جرى قبلاً، تحويل الدين إلى إيديولوجيا.

إن الإسلام مشروع إنسان ومشروع حياة، وقد جرى تحويله إلى شعارات لمشروع سُلطة. علمًا أن الإسلام كان خصبًا عندما كانت الفلسفة حاضرة.

القرآن نصَّ جدلي، وليس نص فتاوى، ومما يُدلّل على ذلك أن الله حاور إبليس، وهو المطرود من الجنة، بعد تجريده من “رئاسة” الملائكة!

المنظومات الدينية لدينا تقليدية، وقوالب منمّطة. بل هي منظومات إيمانية جاهزة خالصة. وفي تراثنا الديني الكثير من الأمور غير الموثقة وغير المعقولة.

التعليم الديني ليس شرًّا مطلقًا، كما يتوهّم البعض. بل هو يأتي بالخير، إذا عرفنا كيف نتعاطاهُ ونتدبّره. وإنّ إدارة حكيمة وعقلانية للتعليم الديني سوف تعزِّز من الحضور المواطني عند الناشئة.

إنّ التمسُّك بالتعليم الديني، ومن منطلق كونِه ناقلاً لمنظومات قيم أخلاقية، تتشاركها الأديان، لا سيما المسيحية والإسلام، يُشكِّلُ عامل ثراء، في تربية الأجيال الطالعة. ولكن من أسفٍ، فإن ما تمَّ زرعُهُ لدينا في حقل التعليم الديني لم يُطابق حسابات البيدر، فكان حصادٌ لسيِّء الجنى.

التعليم الديني، في مدارسنا، غدا للتنبيه على الاختلاف بين الناشئة، في المدرسة الواحدة والصف الواحد، وما يترتّب على ذلك من زرع للانقسام في نفوسهم صغارًا، ثم نطلب منهم الوحدة كبارًا!

 

استكمالاً، فإن إدخال مادة التعليم الديني في المدارس، في مجتمع مُتعدِّد الطوائف والمذاهب، أفادت منه الأحزاب الدينية والطائفية، في مجال الاستقطاب الديني والمذهبي، فكان أن استحالت المدرسة الواحدة ساحةً لصناعة الفرقة الدينية والمذهبية بين أبناء الوطن الواحد.

التعليم الديني – في شقّه العقيدي – هو من مهام الكنيسة والمسجد والمعاهد الدينية، على خلافها. علمًا أن السلك الديني يحتاج إلى الإعداد والتنظيم، بما ينسجم مع روح العصر، ويستجيب للعيش المشترك، القائم على ثقافة الانفتاح والتسامح.

علم مقارنة الأديان من أغزر العلوم الإنسانية، لتداخل عدة علوم فيه، من علم العقائد إلى علم الأصول، إلى اللغة، إلى الترجمة إلخ..

علم الأديان شهد ازدهارًا لدى المسلمين حتى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ثم انتكس، وليعود إلى الازدهار مع الغربيين في القرن التاسع عشر.

في الجامعات الإيرانية، لا سيما في ” جامعة الأديان والمذاهب”، فإن الدراسة الأكاديمية للدين، من حيث ماهيتُهُ وكيفيّتُهُ ونسبتُهُ الاجتماعية، وباعتباره سؤالاً، كان مطروحًا في مقابل النُظُم المعرفية والبُنى الاجتماعية الحديثة، والتقليدية، ذات العلاقة في المجتمع الإيراني، وخاصةً بعد التحولات الكبرى، التي حدثت في العقود الأربعة، بعد انتصار الثورة الإسلامية.

طرأت تحولات على الدراسات الدينية في إيران، وذلك على صعيد الخلفية التاريخية والنظمُ المفهومية والنسب الاجتماعية والنزعة التنظيمية الجامعية. علمًا أن هذه الدراسات يتوزعُها منحيان أو منهجان: من داخل الدين، فتكون دراسة من باب الإيمان، ومن خارج الدين، أي من منطلق غير إيماني.

تُعتبر “جامعة الأديان والمذاهب ” في مدينة قُم الدينية (إيران) أول جامعة تخصّصية، تجمع بين الحوزوي والحديث المعاصر. وهي مؤسّسة للتعليم العالي، غير الحكومي، تأسَّست وانطلقت في العام 2008. وهي تعمل على تأسيس مجموعة علمية حوزويّة وجامعية، بهدف معرفة الأديان، والتفاعل والحوار مع أتباعها، باتجاه التضامن الإنساني، وتعزيز السلام، ونشر القيم المعنوية والأخلاقية.

وبشأن علوم الأديان وتدريسها في الجامعات العراقية جاء في محاضرة البروفسور الشيخ علي سميسم (الجلسة الخامسة): “بدأتُ أُحسّ بحاجة جامعاتنا العراقية خاصّة لهذا العلم عندما تسنّمتُ عمادة كلّية الفقه في جامعة الكوفة، واستلامي رئاسة لجنة الدراسات العليا فيها، فوجدتُ بعض الطلبة لهم ميلٌ كبير للولوج في علوم الأديان، بيد أنّهم، إن فعلوا، كانوا ناقدين متحيّزين جدليين (…) واليوم افتُتحت أقسام الأديان في الجامعات العراقية مثل جامعة بغداد والجامعة العراقية وجامعة الموصل وجامعة تكريت في عام 2012، ولكنّها تشكو من قلّة المصادر العربية، وهذه الأقسام ما زالت على مستوى الدراسات الأوّلية. (…) وجامعة الكوفة في كلّية الفقه تعمل على افتتاح هذا القسم وقد ناقش فيها عددٌ من الطلّاب في مرحلة الماجستير والدكتوراه أطروحات في هذا المجال”.

 

اكتسبت الدراسات الدينية، خلال ستينيّات القرن الماضي وسبعينياتِهِ، مشروعيّة، في الجامعات البحثية الحديثة في الغرب، تحت عنوان: الدراسة الأكاديمية للأديان.

إنّ نظرة إلى تاريخ ظهور الدراسات الدينية تدلُّ على أن هذا العلم، في تاريخه غير الطويل نسبيًّا، هو حصيلة نقلة نوعية، تتعلّق بتغيّرات نموذج الفكر الإنساني، من المعرفة الفلسفية والدينية والعرفانية، إلى المعرفة العلمية وحضور المجتمع، باعتباره أمرًا حقيقيًّا والمحدِّد لمستوى الحقيقة.

عندما تتناول الجامعات موضوع الدراسات الدينية، فهي ترضخ لنوع من الدراسات الثقافية، وحيث من الممكن ألّا تنسجم النتائج المتحصّلة منها مع الرؤى غير الجامعية، ومنها التقليدية إلى هذه الدراسات.

ليس في لبنان تنشئة اجتماعية (أو بالأحرى معرفية) Socialisation بالمعنى الغربي. بل ثمة تنشئة على العصبية (بحث ميداني أجراه الباحث فريدريك معتوق مع فريق عمل من 12 أستاذًا جامعيًّا، مشتغلين بعلم الاجتماع والفلسفة وعلوم إنسانية أخرى، وذلك على عينة شملت جميع مناطق لبنان).

هناك نزوع تربوي بنيوي لدى الأهالي (لبنان) – وكذا الأمر في المنطقة العربية – لتربية الناشئة ليس على المجتمع ككل، بل على المجتمع الخاص بهم.

تقوم التنشئة الاجتماعية في المجتمعات الغربية على نوعين من المصادر: مصادر أوّلية (المؤسسة العائلية / الأسرة النواتية)، أي كل ما يتلقّنه الطفل عبر التربية البيتية، بما في ذلك الدين / ومصادر ثانوية، تتمثّل بالمدرسة، وتليها المؤسسات المهنية (حقول العمل المختلفة). علمًا أن مصادر المعرفة الثانوية، تتسم بأنها الأكثر نضجًا، وهي تُشكّل الشخصية الاجتماعية النهائية، التي يستقرّ عليها الأفراد.

في المجتمعات الغربية يتم التواصل بين مصادر المعرفة الأولية والثانوية بشكل سيروري، وفي إطار هذا التواصل السيروري، تؤدّي المدرسة دورها، كمصنع للمواطنة. في حين أن العائلة لدينا هي المجتمع كله مختصرًا، بمعنى أن البيت هو امتداد وتفرُّع للعائلة الممتدّة والعشيرة والقبيلة، فيه ما فيها، ولونُهُ من لونها ومعرفتهُ من معرفتها. وبهذا، فإن مصادر التنشئة البيتية والأهلية الأولية عندنا، هي مصادر جُملة الثقافة السائدة.

من خلال البحث الميداني، آنف الذكر، ومن خلال الأسئلة التي تم طرحُها على الأهالي (حول تسمية الأبناء، وحول مدارس الأبناء وكيفية اختيارها إلخ)، تحصّل أن العطب الأساسي هو في البيت والعائلة، وأن المدرسة مُستتبعة للبيت، وانتهاءً إلى أن الأبناء، من حيث يدري الأهالي أو لا يدرون، تتم تنشئتهم على العصبية.

 

ثمة دراسة طرحها د. نبيل محسن على طلاب ثلاث جامعات عريقة: الجامعة الأمريكية، الجامعة الأمريكية اللبنانية LAU وجامعة القديس يوسف، خلصت إلى نفس النتائج التي انتهى إليها البحث الميداني، الذي قام به الباحث فريدريك معتوق.

دولتنا (لبنان)، وفق التعبير الخلدوني – كما سائر البلاد العربية – هي دولة العصبية، ولا ينطبق عليها مفهوم الدولة الغربية الحديثة.

المدّ العصباني يشمل الجميع، بشكل وقح وفاجر، وغدا من عاديّات الحياة اليومية. بل غدا ثقافةً متأصلة في النفوس، تُعبِّر عن نفسها في سلوكيات الأفراد والجماعات.

المرجعيات الدينية تتحمّل مسؤولية كبرى في قضية الانتقال من التنشئة على العصبية إلى التنشئة على المواطنية.

العلمنة (العلمانية) بمفهومها الصحيح، لا تعني الإلحاد. فهي عبارة عن نظام سياسي وقانوني، وظيفتُهُ وضع تمييز واضح بين الدولة والدين، تكون فيه الدولة مُحايدة، حيال التعابير الدينية.

العلمانية هي جزء أساسي من المجال العام، إذْ ليس للدولة حقيقة دينية، أو سرديّة دينية خلاصية خاصة. وهي، أي العلمانية، ضمان للحريات وللعبادة، وهي تحمي الأديان نفسها.

العلمانية فتحت آفاق الإنسانية، ووضعت العقل أمام إمكانيات لا متناهية.

الخطاب الدعوي والتبشيري يُقال في المساجد والكنائس، ولا يُقال في المجال العام.

وظيفة المجتمع خلق المساحات المشتركة، وصولاً إلى هوية مشتركة لجميع مكوِّناتِهِ.

لبنان التنوّع يقدِّم لنا أرضيَّة خِصبة للانفتاح على الآخر المختلف، من دون المساومة على الاقتناعات الشخصية.

رابعًا – في التوصيات / المقترحات

ليس المطلوب وضع الدين في مواجهة الدولة، ولا الدولة في مواجهة الدين، بل المطلوب حُسن إدارة العلاقة بينهما، وحتى الذهاب أبعد، بحيث نتقصّى ما للدين من دور في تعزيز الانتماء المواطني، وما للمواطنية من قدرة في ترسيخ جوهر الدين في الوجدان الجمعي.

 

إدراج “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل العيش المشترك والسلام العالمي” في المناهج التربوية في لبنان – وفي مناهج الدول العربية – مع إيجاد الآليات الملائمة لحُسن تنفيذ هذا المقترح. علمًا أن أحد المبادئ الإثني عشر للوثيقة، يدعو إلى ترسيخ المواطنة الكاملة في المجتمعات والتخلّي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح الأقليات”.

المطلوب إعادة فكرة المواطنية في الدين، أي بأخذ الدين إلى المجال العام، بعُدّة معرفية متناسقة وليس بعُدّة قديمة بالية.

الحاجة إلى العلم (ضد الجهل) كخيار استراتيجي للتنشئة على المواطنية، ولمواجهة خطاب الكراهية.

ينبغي القيام بعملية تأويلية إجتهادية لاستخراج مفهوم، يُوفِّر بناء جسر بين فكرة المواطنية والمجال العام والقضية الدينية.

من الأهمية بمكان مقاربة الدور المركزي للأديان، الذي يتمثّل في بناء المواطن وتنشئتِهِ، بما يجعله على مسافة واحدة Equidistant من الأديان. وهي مقاربة ضرورية، على صعيد الوطن، بمعنى أنّ هذه المقاربة توفِّر الانتقال من الانتماء العصبوي إلى عصر الدولة المدنية وزمن المواطنية.

في ظل انعدام الضوابط، تتحوّل رسالة التعليم إلى أداة من أدوات الفرز الديني، والتشظّي الفكري والسياسي. من هنا ينبغي إيلاء المسألة الاهتمام اللازم، لتعزيز الروابط الإنسانية والوطنية، وذلك بإعادة النظر في التشريعات والقوانين، التي تسمح بإنشاء المدارس والجامعات ذات المنحى الطائفي المذهبي. وكذا الأمر بما يعود إلى المناهج ومقررات التدريس.

إلغاء تعليم مادة الدين في المدارس، بشكلها الحالي، واستبدالها بمقرّر، يستعرض سِيَر الأنبياء ورسالاتهم الدينية / الأخلاقية (أُتُّخِذ القرار في مجلس الوزراء، بناء على اقتراح من العلامة السيد علي الأمين، ولكن سرعان ما تمّ التراجع عنه، نتيجة ضغوطات مُورست من قبل المؤسسات الدينية المختلفة!).

استكمالاً، اعتماد مقرر لتدريس مادة الدين، يتمّ فيه التركيز على المشتركات بين الأديان، وهي مشتركات قيميّة أخلاقية، ولا يكون دخول في القضايا العقدية، ولا بأس من توسيع نطاق هذا المقترح، فيتم تعميمُهُ في البلاد العربية، عبر جامعة الدول العربية، ووزارات التربية والتعليم في هذه البلدان.

في تدريس علوم الأديان، ينبغي التمييز بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الإيمانية، أو بين الحدث التاريخي والحدث الإيماني. وثمة شواهد كثيرة في الإنجيل المقدّس وفي القرآن الكريم، يمكن التمثّل بها.

 

إذْ ينتمي الدين إلى زمن آخر، فإن إعادة إنتاجه تستدعي تأويلاً، وهذا هو التحدّي الأساسي. ولا بد من توسُّل لغة عمومية أو جديدة، توفِّر التواصل العقلاني وتُعيد إنتاج الحقيقة الإيمانية.

لتحقيق السلام في المجتمع يجب أن يُقرأ الدين من منظور المواطنيّة.

ينبغي عدم الخوف من الاختلاف، فهو ضرورة حتى نتحاور. بل إنّ أول ركيزة للحوار هو الاعتراف باختلاف الآخر، واختلاف الدين نعمة.

يجب عدم لجوء دارس الأديان إلى دراستها ومقاربتها من منظور دينِهِ ومفاهيم دينه، إذْ يُفضي ذلك إلى نتائج كارثية.

العلاقة مع النص الديني يجب أن تكون جدليّة استكشافية.

ثمة حاجة مُلِحَّة كي تُساهم علوم الأديان، في إحداث تغيير جذري في بنية الفكر الديني، بما يُفضي إلى التخلص من التراكمات السلبية، التي شهدها التاريخ، والتخفيف من التعصّب الديني بين المذاهب المختلفة، ضمن الدين الواحد من جهة، وبين الأديان المختلفة من جهة ثانية.

على الإنسان معرفة دين آخر – أو أديان أخرى – غير دينه، فالذي لا يعرف إلاّ ديانة واحدة فهو، بحسب Max Muller، لا يعرف أية ديانة!

على الباحثين في علوم الأديان الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان، مُتغاضين عن كل الخلفيات الدينية والعرقية والثقافية والسياسية.

من المستحسن أن تُدرَّس علوم الأديان، بالتلازم مع تدريس فلسفة الدين، لاعتبارهما قطاعين معرفيين متكاملين.

إذْ تُشكِّل دراسة الدين جزءًا من عملية أساسية، في نطاق من الأنظمة الفكرية والفلسفية والاجتماعية الحديثة، يجب عدم صياغة هذا العلم، أي دراسة الدين بشكل منفصل عن الصيغ الأخيرة في العالم الحديث.

إن قضايا مثل النسبة بين الدين والموروثات والثقافة من جهة، والحداثة، بكل صيغها، من جهة أخرى، هي من القضايا المهمة، التي يجب أن تحظى بالاهتمام الكامل، في الصيغ المختلفة للدراسات والبحوث الأكاديمية للدين، وخاصةً في الدراسات الدينية الاجتماعية.

 

إن على الجامعات (بما يخصّ إيران / توصية من د. عباس خامه يار) اليوم، وهي تعيش في بلد حافل بالكثير من اللغط السياسي، أن تدعو الجميع إلى الحوار، عبر إعادة اكتشاف المبادئ والأصول التي يقبلها الجميع (..) فنحن متورطون اليوم، كما الآخرون، في مشكلات وموانع عامة، ولا نرى الضياء في البرزخ بين الموروث والحداثة المعاصرة في العالم.

على الباحث في علم الأديان ومقارنة الأديان أن يُدرك أن لهذين العلمين مناهجهما الخاصة. علمًا أن هذين العلمين يقتضيان الإلمام بعلوم أخرى.

ثمة حاجة إلى تأسيس جامعات كبيرة للتعلم عن بُعد، على غرار جامعة الدومينيكان الدولية (Domuni Universitas) تابعة لرهبنة الدومينيكان التي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وقد تأسست هذه الجامعة في العام 1998، تضم أربعة آلاف طالب، من مائة وعشرين دولة، وتدرّس بعدة لغات، منها العربية). وهذه الجامعة، عبر كلياتها الثلاث: كلية الفلسفة وكلية اللاهوت وكلية العلوم الاجتماعية، تؤدِّي دورًا بارزًا في فلسفة الدين وعلوم الأديان، ناهيك عن الحوار بين أتباع الديانات المختلفة، وهي مواكبة لسائر قضايا القرن الحادي والعشرين.

يجب إضافة اللغات إلى منهج علم الأديان، بل أن يكون المتقدِّم للالتحاق بهذا العلم على معرفة بلغتين عالميتين، غير لغته الأم، من منطلق أن معظم المصادر والمراجع المختصة بهذا العلم مكتوبة بلغات حيَّة.

في إطار تحديد المصطلحات والمفاهيم، يجب وضع قاموس، يحوي جميع المفردات والتعابير الدينية، المسيحية والإسلامية واليهودية والبوذية والهندوسية وسواها…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *