في ختامِ نوّار… أعطِني مريم، وَخُذْ مسيحاً!!!

Views: 234

الدكتور جورج شبلي

في زمنِ ما قبل مريم، كان الشرُّ مُتلاقِحاً مع غضبِ اللهِ، عن طريقِ جالِياتِ النّاس. فالعالَمُ، آنذاك، أحدثَ حيثيّةً ينبغي أن نعتبرَها الحلقةَ النَّواةَ في سلسلةِ ملاحِمِ العداءِ، والبغضاءِ، والتّحاقد، وكان الإنسانُ لاعبَها الأساسيّ. وكرَّ الزمانُ حتى أتَت مريم، ومعها طقسٌ جديدٌ في الوِفاقِ بين الإنسانِ والحياة، وكانَ، معها وبِها، مَدٌّ موصولٌ بين الإنسانِ والمحبّة، هذه التي كان لها سلطةٌ مستَتِرةٌ وفّرَت للدنيا جوّاً أكثرَ إبهاجاً، وسلاماً، فالمحبّةُ، مع مريم، لم تكنْ أسطورةً، فأمُّ المسيحِ نشرَتها لتبقى الحياةُ تبتسم.

المحبّةُ هي نسيجُ مريم، أو هي ظلٌّ من ظلالِها، لذلك، لم يدركْها البَوار، من هنا، هي المدى الأوحدُ الذي لا يشقى فيهِ أبناءُ آدم، ولا يشعرون أنهم غُرَباءُ عن خالِقِهم الذي لا يتمُّ تمجيدُهُ إلّا بالمحبّة. مع مريم، جافَتِ المحبةُ أخلاقَ الخطيئة، وأعلنَت أخلاقاً جديدةً هي أخلاقُ الفِعلِ الحرّ، ليغدوَ وجدانُ الإنسانِ بِلا تُخوم، مناخاً قريباً من السماء، يُحوِّلُ كتلةَ الزمانِ الى قيمة. مع محبّةِ مريم، لم نَعُدْ نُوطِّنُ نفسَنا في النّار، ونحتفلُ بالعذاب، لأنّ مريم أعادت لنا ذلك الكَونَ المقدَّسَ الذي يصلُنا بالله.

قبلَ مريم، سادَت مقولةُ أنّ أَخبَثَ الشَّجَرِ هو ذاك الذي يُثمِرُ النّاس، هؤلاءِ الذين قَبَعوا في أبديّةِ الإنتظار، وفي لعنةِ الإغترابِ عن فرحٍ ما كانَ، يوماً، طليقاً. وبالتالي، كان العالَمُ بحاجةٍ الى إكسيرِ حياةٍ يُحيي رَميمَه، هو المَيتُ وإِنْ لم يُقبَر. وإِذْ بمريم التي ترفضُ أن تمنحَ محبَّتَها يومَ أَحَد، لأنّ طبيعةَ الكَبتِ لا تلائمُها، سَخَت بها بصفاءٍ هو أعمقُ من أن يوضَعَ له مقياس، وكانت أَدَلَّ حالٍ باقيةٍ على الزّمانِ، نأنسُ بنعمتِها بما يُلهمُنا واجبَ الشّكرانِ لمريم، والولاءِ لها.

على إيقاعِ محبةِ مريم، ارتدى العالَمُ هَوَسَه باللهِ المتجسِّد، والمُحتَضِنِ لحظاتِ الحوارِ بين الطّهرِ والخطيئة، بين الحجرِ والنّهر، وبين الموتِ فوقَ الأرضِ أو الموتِ تحتَها. هذا المتمرِّدُ افتتحَ، بتوجيهٍ من مريم، مرحلةَ قهرِ عتمةِ المصير، فمَلَّسَ تجاعيدَ الخوف، وأزاحَ الضّيقَ بإضافتِهِ سِفرَ الخلاصِ من حالةِ الشّقاءِ والنّزاع، وبوِدادٍ سَخِيٍّ، عارِمِ الحرارة، هَوَّنَ عليهِ تجربةَ تسليمِ نفسِهِ، عنّا، للموت.

قبلَ مريم، كابَدنا قُروحَ الشرّ، ونسجَ أنينُ الرّمادِ في أسماعِنا خشونةَ القُبح، وكذلك، فحيحُ الدّموع، ثمّ شَقَّت  مريم طريقَها إلينا، تدعو المحبّةَ، والمحبّةُ تُجيبُها، وتعملُ، في خُطَطِها، على صباغةِ حياتِنا بلونٍ زاهر. من هنا، كان لنا، معها، مجلسُ حَظّ، فحضورُها أخرجَنا من مأزقِ الضّعف، وجعلَنا نتذوّقُ التَخَيُّلَ النقيَّ المُتّصلَ بالألوهة، فصارَ كلُّ صباحٍ لنا، معها، شامِساً. وبعدَ أن أَلقَت بنا الحياةُ على عتباتِ الحُفَر، لهُزالِنا، وذَهَّبَتنا الى دنيا الجدران، حيثُ يشكِّلُ موسمُ الفناءِ كلَّ المواسم، ويتطاولُ علينا الموتُ بظُلمتِه، حضرَت مريم، بطُهرِها، وبمَؤونةِ عاطفتِها، لتُؤَدِّبَ الموتَ بالنّور، وبِذا، عقدَت معنا صداقةً مصنوعةً من محبّة.

مع مريم، لم يَعُدْ للإنسانِ العَبدِ مطرحٌ في العقائد، ولا لوقوعِهِ فُتاتاً يلتهمُهُ التّراب، يترصَّدُ له القَدَرُ بِسَيفِهِ، وتائِقاً الى مَخرج، لأنّ مريم التي طافَت على سطحِ غَمرٍ نورانيٍّ، لاشَت، بمحبّتِها، وبابنِها، الأُطُرَ الماديّةَ للخطيئةِ الأصليّةِ من عذابٍ، وباطلٍ، وشرٍّ، وظلم، ونزعَت من خيالِ النّاسِ صورةَ اللهِ بأنّه الغامِضُ الجَلّاد، وبأنّ العمرَ جرحٌ ينزفُ خوفاً، ورشَّت على حياةِ الإنسانِ لَطائفَ الجَمالِ، والخيرِ، والفرح، لتَرتقيَ هذه الحياةُ الى شيءٍ من التَّسامي، تجلسُ عندَها، وتحتكمُ إليها، لتمسحَ عن عينِها صمتَ البكاء، وتَدفعَ البسمةَ لافتراشِ ثَغرِها.

مريم هي جوازُ مرورِ الدّنيا الى الرّجاء، مُناضِلةٌ بمحبّتِها ليُحرزَ هذا الرّجاءُ نصراً، في كلِّ يوم، على تَلَوّثِ النّاسِ بالشَّجَنِ، واليأسِ، والوَحشة. لقد دفعَت مريم بالرّجاءِ، الذي أصبحَ قضيَّتَها، الى استيفاءِ حقِّهِ من حاجةِ النّاسِ إليه، لأنّ بهِ، وحدَه، يسقطُ خوفُ الذّاتِ من دنيا تتربَّصُ بها، ويُمَزَّقُ الحجابُ الذي يفصلُها عن حقيقةِ الوجود. إنّ الرّجاءَ الذي أعلنَتهُ مريم بابنِها، يمنعُ تَناسُخَ الجحيم، ويفكُّ الأَغلالَ عن نسيجِ الحياةِ ليتجلّى اللهُ، فيها، بأبهى صُوَرِهِ، فلا ينشغلُ الإنسانُ إلّا به. 

إنّ محبّةَ مريم إيّانا، كانت القُطبةَ العِلاجيّةَ لوجودِنا المُشَتَّت، فلم يَعُدْ واحدُنا، معها، تمثالاً وثنيّاً خاوياً يَسهلُ رَجمُه، أو صنماً يقتلُهُ صقيعُ الوحدة، بل صارَ مبدأً له نصيبٌ من حقيقةِ الحياة، إذا تألَّمَ لا يُغلَب، وإذا جُنِّحَ الى التّدَهورِ لا يسقطُ في امتحانِ العَمشَقَةِ بأغصانِ العافية. ولأنّ تَضميدَ جراحِنا، في نهرِ الأيام، لا يتمُّ إلّا بمريم، كانت مريم دائمةَ الوجودِ في الخطوطِ الأماميّة، تُعلِنُ انشقاقَنا عن الحزن، بعدَ أنِ اختبرَتهُ جرحاً غاصَ في قلبِها، تحتَ الصّليب، لكنّها لم تسمحْ له باعتقالِها في طقوسِ القهر.

أيّتها الأمُّ المتمرّدةُ بالحبّ، يا مَنْ أهدَتْنا الى زمنِ المسيح، نحنُ، معكِ، كالموجةِ التي يعيشُ فيها الشّاطئُ، وتتوقُ إليه أينما بَعُدَت.

   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *