قصة قمة باريس التاريخية والإهانة المدوية التي وجهت إلى ايزنهاور

Views: 730

المحامي معوض رياض الحجل

في مطلع أيار من العام 1960، أخترقت طائرة تجسس أميركية، الاجواء السوفياتية، بهدف دراسة حجم ترسانة الاتحاد السوفياتي النووية، للتثبت من صحة معلومات استخباراتية تتضمن توجيه صواريخ نووية نحو المدن الأميركية، بيد أن أنظمة الدفاع الجوي السوفياتية تمكنت من استهدافها بنجاح وأسر الطيار وإخضاعهِ للاستجواب.

نالت الواقعة أعلاه من الهيبة العسكرية الأميركية، ووجهت ضربة موجعة للرئيس ايزنهاور (1890-1969) وأطلقت شرارة التوتر في العلاقات الأميركية ــ السوفياتية وقوضت جهود التهدئة وخفض التصعيد. أما رهانات كل من الرئيسين ايزنهاور وخروتشوف (1894-1971) بالعيش في حقبة من التعايش السلمي فذهبت مع الريح. 

عُقدت بتاريخ 16 أيار 1960 قمة رباعية تاريخية، لبحث مسألة برلين، وسبل ضبط التسلّح النووي. ففي مستهلها شنَ خروتشوف دون هوادة، هجوماً عاصفاً وغير مسبوق على الرئيس ايزنهاور. تبعاً لهذا التصعيد، لم تُعقد المباحثات الثنائية بينهُ وبين الرئيس ايزنهاور على هامش القمة الرباعية، كما تم إلغاء زيارة الأخير التي كانت مقررة لموسكو في شهر حزيران 1960، الأمر الذي بدد آمال ايزنهاور في الخروج من القمة منتصراً من خلال النجاح في تخفيف حدة الحرب الباردة قبل نهاية ولايته الرئاسية. كذلك، تمخضت الواقعة المشؤومة عن إجهاض مساعي ضبط التسلح الاستراتيجي بين القوتين العظميين، إذ بددت حماس الرئيس خروتشوف لتوقيع اتفاقية الحد من التجارب النووية.

هذا في الماضي البعيد، ماذا عن يومنا هذا؟ 

لا شكَ في أن عالمنا اليوم بحاجة ماسة ودون تأخير إلى انعقاد قمة تاريخية بين زعماء الدول الكبرى. ليس بالضرورة أن تكون رباعية وليس بالضرورة أن تنعقد في باريس، المطلوب أنعقادها في أي مكان في العالم، والأهم هو عودة قنوات التواصل بين الدول الكبرى المتناحرة والمتنافسة. إذ أن العلاقات بين كل من روسيا الاتحادية والصين من جهة والولايات المتحدة الاميركية من جهة أخرى شبه مقطوعة نتيجة الصراع المتجدد. الصراع اليوم ليس على سباق التسلح وغزو الفضاء وانما صراع أقتصادي ومالي بامتياز، خاصة مع صعود نجم المارد الصيني كقوة اقتصادية هائلة.

 

هدوء دولي حذر… ما قبل العاصفة

بَلغَ الوضع السياسي الدولي درجةً عالية من الخطورة في أواخر خمسينيّات القرن العشرين مما أثارَ المخاوف والرعب في كل عواصم العالم. فقد وصلت العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين القوتين العظميين، أي الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، بطريقة مفاجئة، إلى مرحلةِ إطلاق مواقف نارية تنذرُ بشرور مستطيرة لم يكن أحد على استعداد أو قدرة لمواجهتها.

كان العالم أجمع يعتقد أن هناك إمكانية للوفاق والتلاقي الإيجابي بين القوتين الأميركية والسوفياتية تبعاً لزيارة تاريخية قام بها خروتشوف في أيلول من العام 1959 إلى الولايات المتحدة الأميركية. كان قد أعلنَ في أواخر العام 1956 أن الموقف الدولي بعد عدوان السويس (1956) يقضي بعقد اجتماع على مستوى القمة. رَحبَ الرئيس الأميركي ايزنهاور بالاقتراح شرط أن ينعقد تحت مظلة الأمم المتحدة وأن يشمل الأعضاء الدائمين. وافقَ خروتشوف لكن مشكلة جمهورية الصين الشعبية عرقلت عقد الاجتماع حينها، لكن القوتين تمكنتا من الخروج بذكاء من الورطة بترتيب لقاء ثنائي بينهما يبدأ بزيارة خروتشوف لواشنطن مقابل زيارة الرئيس ايزنهاور لموسكو. شكّلت هذهِ الاستراتيجية الدبلوماسية الطريق الافضل للخلاص من العائق الصيني والتنصل من اشتراط وجود كل من بريطانيا العظمى وفرنسا في أجتماع القمة خصوصاً وأن الرئيس ايزنهاور لم يكن يرتاح بتاتاً للجنرال شارل ديغول (1890-1970) الذي أصبحَ رئيساً للجمهورية الفرنسية. 

ساهمت الضغوط الدبوماسية الممارسة من كل من بريطانيا وفرنسا، بعد زيارة خروتشوف لأميركا، وامتعاضهما من كون القمة الدولية أصبحت حكراً على دولتين فقط، في احياء اقتراح عقد قمة رباعية. وتم الاتفاق المبدئي، بعد اتصالات مكثّفة على كل المستويات، على عقد الاجتماع في العاصمة الفرنسية منتصف شهر أيار من العام 1960. 

وراحَ العالم أجمع ينتظرُ بشغفٍ وحذر نتائج القمة الموعودة والتي سوف تليها زيارة الرئيس ايزنهاور لموسكو. 

 

الأمل بالسلام يتبخر مع إسقاط طائرة استطلاع أميركية 

تضاءلَ فجأة الأمل بالسلام الدائم الموعود مع إعلان الإدارة الأميركية في 2 أيار 1960 في بيان أنها فقدت إحدى طائراتها فوق شمال الأراضي التركية، وأن هذهِ الطائرة يحتمل أن تكون قد سقطت في أراضي الاتحاد السوفياتي، لأن رياحا قوية على الأرجح أخرجتها عن خط سيرها. لم يكترث أحد لمضمون البيان حتى تاريخ 7 أيار 1960. أعلنَ يومها نيكيتا خروتشوف أثناء اجتماع لمجلس السوفيات الأعلى أن الطائرة التي سقطت هي طائرة تجسس متطورة من طراز “ي-2” صنعتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية لأغراض الاستطلاع السري البعيد المدى. أضافَ خروتشوف أن الطائرة لم تنحرف عن مسارها بفعل الرياح القوية كما تزعم الإدارة الأميركية وإنما وصلت إلى قرب كييف وأنها لم تسقط وإنما تم إسقاطها باستخدام صاروخ سوفياتي الصنع أستهدفها في أجواء عالية جداً لم تكن الإدارة الأميركية تتخيل أن مدى الصواريخ السوفياتية قد يصلُ اليها. نجا قائد الطائرة من الموت وأسمهُ النقيب فرانسيس غاري باورز (1929-1977) وقد أعترفَ بأنهُ كان في مهمةٍ استطلاع سرية. وأضافَ خروتشوف أن الطيار كان يحمل ضمن أغراضهِ الشخصية دبوساً مسموماً لينتحر فوراً بوخزة منه إذا وَجدَ نفسهُ معرضاً للسقوط في أرض سوفياتية، ثم عَرضَ خروتشوف على مجلس السوفيات الأعلى بعض الصور الفوتوغرافية التي التقطها الطيار مستخدماً عدسات تصوير متطورة جداً مصنوعة خصيصاً لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية- للمنشآت العسكرية السوفياتية في المنطقة الجنوبية للاتحاد السوفياتي على طول الطريق الممتد من قاعدة “أرضروم” التركية حتى ضواحي كييف.

 

الرئيس ايزنهاور يعترف تحت الضغط بالحقيقة

سبَبَ كشف خروتشوف لكل هذهِ المعلومات فضيحة دولية مدوية تُضرُ بسمعة الإدارة الأميركية. لم يكن أمام الرئيس ايزنهاور سوى الاعتراف بالحقيقة، فأوعزَ إلى وزارة الخارجية الأميركية أن تذيع بياناً جديدا تعلنُ فيه أن فرنسيس غاري باورز كان بالفعل يقوم بمهمة استطلاعية لجمع المعلومات السرية بهدف التحقق من البيانات التي يقدمها السوفيات في أجتماعات نزع السلاح الجارية في جنيف وذلك قبل لقاء القمة في باريس وبعده لقاء القوتين العظميين بزيارة الرئيس ايزنهاور لموسكو. 

ردَ خروتشوف في تصريح قوي قائلاً “إنهُ يتعجب من أن لدى ايزنهاور الجرأة للتحدث عن زيارة الاتحاد السوفياتي”، ثم أضافَ “أنهُ غير رأيهُ في الرئيس ايزنهاور، فقد كان يظنهُ رجلاً أميناً ثم اكتشفَ أنهُ ليس كذلك فهو لا يستطيع أن يصف بالامانة رجلاً يتلصص على مضيفيه قبل أن يزورهم. ثم أبدى تردده في جدوى دعوة ايزنهاور أصلاً لزيارة موسكو. 

ردَ ايزنهاور في اليوم نفسه قائلاً “إن عمليات جمع المعلومات هي من حقائق الحياة التي يجب أن تتقبلها الدول مهما كان رأيها سيئاً فيها ثم أضافَ “أنهُ لا يزال مستعداً لزيارة موسكو وأنهُ ينوي القيام بهذه الزيارة في موعدها المقرر”.

 

خروتشوف الغاضب مشاركاً بالقمة الرباعية

وفي 14 أيار 1960 وَصلَ الرئيس خروتشوف إلى باريس للمشاركة بالقمة الرباعية التي كان مقرراً افتتاح أعمالها يوم الاثنين 16 أيار. في 15 أيار، أعلنَ الاتحاد السوفياتي كإشارة لتفوقه أنهُ “أطلقَ أضخم صاروخ في العالم، وأن الصاروخ انطلقَ حاملاً معهُ محطة فضاء وزنها خمسة أطنان، وأن هذهِ المحطة الفضائية سوف تمرُ فوق باريس وترسل منها تحية سلام في نفس اللحظة المقررة لاجتماع تمهيدي بين الجنرال ديغول، مضيف القمة، ونيكيتا خروتشوف ضيفها الغاضب والمشاكس”.

 

خروتشوف يطالب ايزنهاور بالاعتذار الرسمي

شهدَ صباح الاثنين 16 أيار 1960 أنطلاق فعاليات القمة التاريخية في مقر الرئاسة الفرنسية أي قصر الإليزيه. وفورَ اتمام مراسم الافتتاح، طلب الرئيس السوفياتي الكلام فاذا بهِ يوجّه من دون تردد انذاراً حاد اللهجة إلى الرئيس الأميركي ايزنهاور متضمناً ثلاثة مطالب: 

1- الاعتذار الرسمي عن حادث طائرة التجسس. 

2- التعهد رسمياً بوقف كافة أعمال التجسس فوق الاراضي السوفياتية.

3- تعهد شخصي ورسمي من الرئيس ايزنهاور بمعاقبة المسؤولين عن حادث طائرة التجسس. 

ثم أخرجَ خروتشوف من حقيبتهِ بعض الصور الفوتوغرافية التي التقطها الطيار الأميركي ووجه حديثهُ من جديد ومباشرةً إلى الرئيس ايزنهاور قائلاً لهُ “كيف تداري وجهك عن هذا المشهد القبيح؟”

أحمرَ وجه الرئيس ايزنهاور وبدت عليه علامات غضب شديد حاولَ بكل الوسائل أن يكبتها. وقد ردَ بعصبية قائلاً “إن رئيس الولايات المتحدة الاميركية لا يعتذر عن حقائق الحياة”. ردَ خروتشوف موجّهاً كلامه إلى بقية المشاركين في القمة، وقال “اذن، فأنا أطلب تأجيل مؤتمر القمة حتى تنتهي مدة رئاسة هذا الرجل”، وأشارَ بإصبعهِ إلى الرئيس ايزنهاور ثم استدارَ خارجاً من الجلسة والعالم كلهُ يحبسُ أنفاسهُ خوفاً من أمكانية اندلاع حرب كونية مدمرة بين البلدين. 

ولم ينسَ خروتشوف وهو يغادر قاعة الاجتماع أن يلتفت نحو ايزنهاور ويقول لهُ “لقد سحبنا دعوتك إلى موسكو”، قالها وخرجَ مسرعاً من القاعة. سارعَ كل من شارل ديغول وهارولد ماكميلان (1894-1986) بالتوجه إلى محل أقامتهِ ليكتشفا أنهُ لن يعود إلى قصر الإليزيه لمتابعة الاجتماع وإنما قررَ التنزه برفقة المارشال ماليونسكي في غابة بولونيا الشهيرة. عادَ الرئيسان إلى لقائهِ في المساء ليسمعا منهُ إذا لم يستجب الرئيس ايزنهاور إلى مطالبهِ قبل فجر اليوم التالي فأنهُ سوف يغادرُ باريس عائداً إلى موسكو. 

كما كان متوقعاً لم يعتذر الرئيس ايزنهاور وإنما أصدرَ من باريس قراراً رئاسياً خطيراً وغير مسبوق يتضمن إعلان حالة الطوارئ القصوى في كل القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة حول العالم. وكان الرأي العام الأميركي يؤيد القرار بشدة، إذ أعتبرَ أن رئيس أعظم دولة في العالم قد تعرضَ لإهانة بالغة بالاسلوب الهمجي الذي اتبعهُ خروتشوف في التعبير عن غضبهِ وسخطهِ. 

 

تصاريح خروتشوف تطلق العنان لاشعال الحرب الباردة

غَادرَ خروتشوف الغاضب العاصمة الفرنسية صباح يوم 18 أيار 1960. كان في أنتظارهِ في أروقة المطار حوالي ألف وخمسمئة صحافي جاؤوا من كل أصقاع الارض لتغطية وقائع القمة الرباعية. وقفَ أمامهم قائلاً: “إن كل الوساطات التي قام بها ديغول وماكميلان – بينه وبين ايزينهاور- قد فشلت. التنازل الوحيد الذي عرضهُ ايزنهاور هو استعداده لوقف عمليات التجسس لمدة رئاستهِ التي كانت توشك على الانتهاء معللاً أنهُ لا يستطيع أن يقيد حركة الرئيس الاميركي الذي سيخلفه في البيت الابيض”. أضافَ خروتشوف بقولهِ “كيف يمكن أن أعقد أتفاقاً لوقف التجسس لا يدوم الا لاشهرٍ قليلة فقط. ثم كيف يمكن أن أعقدهُ مع رجل يتسلل إلى بيتي في الظلام مثل اللصوص. لقد طلبَ مني عندما كنت أزورهُ في أميركا أن أناديه “يا صديقي” وأنا الان نادم على كل مرة ناديته فيها بهذا الوصف. فأنا لا أستطيع أن أصف بالصديق رجلاً يتصرف مثل القطة عندما تتسلل إلى المطبخ لكي تسرق بعض الحليب”. ثم أخبرَ الصحافيين بأنهُ زار ديغول وماكميلان مودعاً قبل عودتهِ إلى موسكو ولم يخطر على بالهِ أن يودع الرئيس ايزنهاور. 

وهكذا انتهت القمة الرباعية التاريخية، على عكس التوقعات، بفشلٍ ذريع أدى إلى تكريس انقسام دولي حاد بين المعسكرين السوفياتي والأميركي شهدَ خلالهُ العالم اندلاع العديد والعديد من الأزمات الدولية والحروب العبثية: حرب فيتنام (1955-1975)، أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا (1962) ثم حرب أفغانستان (1979) … جدار برلين الشهير (1961-1989) الفاصل بين المانيا الشرقية وألمانيا الغربية شكل بدورهِ اشارة واضحة إلى أن لا عودة إلى التواصل الإيجابي بين الدول العظمى بل حرب مفتوحة على كل الجبهات. 

أعتقدَ العالم للحظة أن انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 أنهى حدة التوتر والحروب، وإذ بحروب جديد تندلع تباعاً مسببة الدمار والخراب أكان في الصومال (1991)، كوسوفو (1998)، أفغانستان (2001)، حرب العراق (2003)، وأخيراً ليس آخراً الحرب الروسية الأوكرانية (2022) التي تنذر بإمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة لفرض نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *