طريقة التناول النقدي في كتاب “محفّة النار” للناقد العراقيّ ياسين النصيّر

Views: 171

إبراهيم رسول

لعلّ السؤال الأهم، أو الأوّل، هو أن نسألَ عن منزلة أو مكانة ياسين النصيّر في الدرس النقدّيّ الجديد، لأنّ في الإجابة على هكذا نوعٍ من السؤال، يتضحُ أو تتضحُ الطّريقة التي يُنظّر فيها الناقد النصيّر في الدرس النقديّ.

الإجابةُ ليستِ بهذه السّهولة، فهي تنطوي على بحثٍ وقراءةٍ في مميزات الدرس النقدي الجديد ومن بعدها قراءة نتاج النصيّر النقدّي ومن ثمَ الحُكم والنظّر، هذه القراءةُ التي يقرأها الناقد في العيّنات الشعرية الإبداعية هي قراءةٌ باطن الباطن للنص وتأخذ النصّ في مختبراتٍ نقدّيّة تخصصيةٍ، إذ تجد أنّ الناقدَ لا يضع العنوان في صدرِ الكتاب عشوائيًا، بلْ العنوان يكون لميزةٍ واحدةٍ أو جانبٍ واحد تميّزت به هذه العينة الإبداعية التي يقرأها.

في هذا الكتاب (محفّة النار) الصادر عن دار نينوى في دمشق بطبعته الأولى في سنة 2019، يؤسسُ النصيّر لقراءةٍ منهجيةٍ وعلميةٍ ولكنّه يختلف مع الدرس الأكاديمي في الطريقة، إلا أنّ العمق عند النصيّر يأخذ أبعادًا كثيرة وواسعة.

 

دراسة فضائية

أصلُ الكتاب دراسة فضائية في شعر الشاعر المبدع رعد فاضل، الشاعر الذي له الحضور الشعري اللافت لنظر الناقد المعرفي، ولكنّ النصيّر لا يقرأ رعد فاضل بما هو تجربة شخصية وحده، إلا أنّه يأخذه كنوذج تطبيقي لما يريد أنْ يؤسسَ أو يُنظرَ له، فالشاعرُ يشتركُ مع مجموعةٍ أخرى من الشعراء وهي وجهةُ نظرٍ خاصّة حيث يقول: ليست هذه مقدمة عن الشاعر رعد فاضل فقط، إنما هي مقدمة لوجهة نظر خاص بطريقة تناولنا للشعر، سيكون رعد فاضل البوّابة لظاهرة يشترك فيها معه عدد آخر من الشعراء المتقاربين إبداعًا أو أعمارًا أو تجربة.( الكتاب: 9)

إذن، هي مقدمة تأسيسية خاصّة في الناقد أو قلْ في طريقة قراءة الناقد للشعر، هذه الطريقة تأتي بعد قراءات واسّعة ومعمقة في العينات الشعرية التي تشترك في التجربة أو الإبداع، وهذه الوجهة النقديّة تستدعي أن يستوعبَ كلّ هذه التجارب، ويقرأها بقراءات متباينة، يتناولها بصورةٍ مفصّلةٍ، لا يتركُ شاردة أو واردة إلا وأخضعها لملاحظاته النقدّيّة، فهذا الدرسُ يتميّز بأنّه يقدمُ رؤية شمولية تعنّى بكُلِّ ما يخصّ النصّ الإبداعي.

كأنّ الواقع يؤثر في كُلّ المبدعين ويُحدث فيهم الأثر الذي يجعلهم يوظفون الإبداع بطرقهم الفنّيّة الخاصّة، فالحادثةُ الواحدةُ يُنظّر لها من جوانب متعددة، لأنّ كلّ مبدعٍ لديه زاوية عامّة يشترك بها مع الناس وله زاويتهُ الخاصّة التي ينفردُ بها، هذه الرؤية الخاصّة أو الذاتيّة بالمبدع، تجعلهُ يتناولُ الواقع بطريقةٍ فنّيّةٍ تمثلهُ هو، إلا أنّ الحادثة وأثرها في المبدع يشترك بها معه غيره من المبدعين أيضًا، فيقول الناقد النصيّر: وهكذا يكون تأليف أيّ نص نقديّ عن شاعر ما، في حقيقة أمرهو تأليفًا عن ظاهرة لمجموعة من الرؤى النقدية والفكرية عند عدد من الشعراء الذين ينحون منحى متقاربًا ومختلفًا عنه، فالشعراءُ : فوزي كريم، فاضل العزاوي، حسب الشيخ جعفر، ياسين طه حافظ، على جعفر العلاق، وكاظم الحجاج وآخرين، تعاملوا مع الواقع العراقيّ المضطرب بأحداثهِ وأفكاره بطرق فنّية مختلفة.( الكتاب: 11) هذه طريقة الناقد النصيّر، فهو يقرأ الظاهرة التي يشترك بها مجموعة من الشعراء، هو معنيٌ بالعام والخاصّ، العام المشترك والخاص الذاتي، لمّا نقرأ كتابه (محفّة النار) فإننا نقرأ الجانبين معًا، الجانبُ العام أشبعه دراسةً، وهو بهذا يؤسس لقراءة مهمة تأصيلية في الدرس النقدي، فأنت حينما تقرأ طبقات ابن سلّام، تجده يُصنف الشعراء تصنيفًا علميًا، وتصنيفه يمثل العقلية النقدية التي كان رائدة في وقتها، أما النصيّر فهو يؤسس لحالةٍ قريبةٍ من ابن سلاّم من حيث البعد الرؤيوي العلمي الذي يقرأ به ويؤسس له.

المشتركات العامة

الظاهرةُ النقديةُ العامة هي طريقةٌ علميةٌ، إذ أنّها تعنى بالمشتركات العامة التي يشترك بها المبدع مع غيره من المبدعين، فأنت تجد مثلًا أنّ رعد فاضل له مشتركات كثيرة مع غيره وله أشياء خاصة به تخصّ تجربته الإبداعية ذاتها، ولمّا كان النصيّر يهتمُ بالظاهرة العامة أكثر من الخاصّة، تجد أنّه يقدمُ في أوّل الكتاب مقدمة استهلالية توضيحية لطريقة تناوله لمادة النقد، وهذه المقدمةُ في كتابهِ هذه، تُعتبرُ رؤية جديدة في القراءة النقديّة التي يبدعها النصيّر ومعه عدد آخر من النقاد. الدراسةُ الفضائيةُ التي تعنى بالاهتمام بعنصري “المكان والزمان” هي إشكالية أيضًا، والقراءةُ قد تنجح وقدْ يُكتب لها الفشل، لأن النقد يستدعي التجربة والمِران والتطبيق، وهذا يتأتى بأن يجد العينة التي يُطبق عليها، فما يكتبه عن الشاعر رعد فاضل لا يخصهُ وحدهُ، بلْ يشترك معه هاشم شفيق ورعد عبد القادر وكريم كاصد وغيرهم، فالنصيّر يريد من الشاعر أنْ يكون عالميًا في رؤيته للواقع والحياة لكي يؤثر في التجربة العالمية، لأنّ الشعر تجربةٌ إنسانية عامّة، فأنت تقرأ لشعراء فرنسيين فيطربك ما تقرأ لهم، وتقرأ لشعراء إنجليزيين فيهزك ما تقرأ لهم، وتقرأ لشعراء ألمانيين فيؤثر فيك ما تقرأ لهم، إذن هذه التجربة الإنسانية لا بدّ أن تكون عالمية برؤيتها للشعر، وهذه دعوةٌ نقديةٌ رائعةٌ، حينما ينظر الشاعر إلى ما حوله بمنظورٍ عالميٍ.

فالنصيّر يريد من الشاعر أن يكون مثقفًا موسوعيًا، وأن يستوعب كل ما هو عالمي ليكتب ما هو عالمي. ( الكتاب: 19)، وهذه الطريقةُ النقدية الجديدة، وهي الاهتمام بالظاهرة العامة المشتركة هي طريقة تقترب من المنهج العلمي كون الشعراء لديهم مشتركات كثيرة ولكن طريقة التناول يتميزون ويتباينون فيها، وهنا يبدو البحث في هذه العموميات أفضل وأنفع للدرس النقدي.

 

الرؤية الفلسفية

من المشتركات العامة هي الرؤية الفلسفية المشترك العام في كُلّ التجارب التي تناولها الناقد، والشعر الذي يخلو من فلسفةً لا يدخل في هذه العموميات التي يقرأ بها الشاعر، لأنّ الفلسفة والشعر توأمانِ لا ينفصلان عن بعضهما البعض، ولا يستطيع المبدع أن يعتمد على الصور الحسّية والوجدانية في بثِ خطابهِ الشعري، فهو يحتاجُ أيضًا إلى رؤية عقلانية فلسفية، فالحياةُ اليوم تميلُ إلى الركون والمُضي مع العقلانية في كُلّ مظاهر الحياة، ولمّا كان الشعر له الخطاب المؤثر في الإنسانية وجب أن يتصفَ بهذه الميزة المهمة، والشعرُ له الحضور اليقظ والمهم في كلّ مظاهر الحياة، وكما يقول النصيّر: الشعر يقظة الأشياء، كل الأشياء في سبات من دون ضوء الشعر. ( الكتاب: 115).

لا يشمل الفضاء عنصر المكان وحده دون الزمان، إذ حتّى العنوان له فضاؤه الخاص أيضًا. ( الكتاب: 131)، فالدراسةُ الفضائية تستدعي أشياء عديدة، فالكلمةُ لوحدها لها معنى ولكنها في السياق تتنازل عن معناها المباشر إلى معنى باطني غير مباشر، فالكلمة في البيت الشعري غيرها في الكلام العادي، كونها تخضع لصور البلاغة وقانون الشعر الذي يعطي السيولة للكلمة لتغير من حالتها الصلبة إلى حالةٍ مرنة يُمكن أنْ يُعاد معناها بحسب مقتضيات السياق الشعري للبيت الشعري، فهذه الدراسة التي عنونها الناقد النصيّر( محفّة النار) هي لا تعني المبدع رعد فاضل من حيث دراسة شعرهِ دراسة فضائية تخصّه وحده، بلْ تتناول آخرين غيره.

فخلاصةُ الختام، نجد أنّ النصيّر يؤسس لقراءةٍ نقديةٍ جديدة، هذه الحالةُ يُمكن لها النجاح إذا وجدت العينات التي تنطبق عليها، فالنقد ليس عبارة عن تلقين وابتكار نظريات فحسب، فالأصلُ في الدرس النقدي هو العيّنة الإبداعية، ولا بدَّ أنْ يكون الأصل هو المركز الذي تُبتكر منه القراءة النقدية التنظيرية، وهذا ما نجدهُ في الشعراء الذي اشتركوا مع رعد فاضل في المواضيع العامة ولكنهم تباينوا وتميّزوا واختلفوا فيما بينهم، وهذه حالةٌ طبيعيةٌ إذ لكلّ مبدع الرؤيا الخاصّة التي تعنيه وحده والطريقة الخاصّة أيضًا التي تمثله.

من هذه نستخلصُ من نقود النصيّر أنّها نافعةٌ وحيويةٌ كونها تعتمد على عيناتٍ شعريةٍ تطبيقيةٍ، فجاءت القراءة مدعومة بأمثلةٍ تؤيد الرؤى النقدية وهذه هي الطريقة ستقدم للشاعر الكثير من الفوائد وستقدم للمتلقي الذي يتلقى الشعر تصوّرًا في آلية تلقيهِ، لكي يُشارك المتلقي المبدع في القراءة، وهنا صار النقد وسيلة للمنفعة التي ينتفع منها الجميع وتحوّل من مادة تنظيرية جافة إلى مادة محببة يحتاجها القارئ والمبدع على حدٍ سواء. 

فالتناولُ النقديّ في هذا الكتاب، يُقدم للدرس النقدي إضافات علمية في القراءة، وهذه الإضافاتُ تُسهم في تقديم رؤىً علمية جديدة، كون الشاعر صار وفق هذه الآلية النقدية عنصرًا عقلانيًا أيضًا، لأنّ هيمنة الرؤية العقلانية دخلت في كافة ميادين الحياة ولمّا كان الشعر ماء الحياة وجب أن يكون الشاعر هو السباق لمواكبة هذه الحياة، فصار الشعر رية فلسفية وعقلانية وليس صور بلاغية لغوية فقط، وهنا سيتقدم الشعر إلى مكانةٍ مرموقةٍ في نفوس المجتمع.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *