الحقيقة الأدبية… غياب النقد أوقع الحركة الإبداعية في فوضى

Views: 983

وفيق غريزي

كنت قد قرأت للصديق الراحل الدكتور منيف موسى كتابه النقدي السابق “شجرة النقد”، فرأيت نفسي امام ناقد جاد، لا يتملّق ولا يساير احدا على حساب الأدب والمصداقية الأدبية، وبعمله هذا اعاد الى ذاكرتي صورة النقاد الافذاذ امثال ميخائيل نعيمة، طه حسين، مارون عبود، محمد مندور، رجاء النقاش، غالي شكري، وغيرهم. وذلك في وقت غاب النقد المنزّه عن الأغراض الذاتية والغايات المصلحية، واصبحت انتظر عملا جديدا لهذا الشاعر والناقد كي اشبع شغفي، لأن النقد لا يقل ابداعا عن العملية الابداعية نفسها، حتى عثرت له على كتاب “في الحقيقة الأدبية”، وهو يحتوي على عدد من الدراسات والبحوث النقدية، وهي في معظمها في الخبر الشعري، الميدان الأرحب الذى جلى ويجلي فيه الناقد بعد الشعر، وتناولت هذه الدراسات والبحوث عددا من شعراء الحداثة في لبنان، بدءًا بيوسف الخال وانتهاء بناديا حمادة تويني، وفيها جميعا اثبت الدكتور الصديق منيف موسى انه ذو بصيرة نفاذة تخترق الحجب الكثيفة وتصل الى جوهر النص الشعري، لتحدد ابعاده ومعانيه، وتفك الغازه ورموزه واحاجيه، وكأني به يعيد كتابة النص كتابة ابداعية جديدة. 

 

  يوسف الخال الفارس المتمرد

مما لا ريب فيه أن يوسف الخال وعصبته في “مجلة شعر” و”خميس شعر” شكلا علامة فارقة في خريطة الشعر العربي المعاصر، حيث حملا راية التغيير والتحديث في الحركة الشعرية العربية وفي لغتها، لتتلاءم مع التطور والتقدم، فلكل زمن او عصر لغة خاصة به. 

ويرى الناقد موسى أن يوسف الخال، هو الفارس المتمرد، له في مسيرته الشعرية محطات مهمة، ناجحة او ساقطة، ليس مهما، المهم أنها محطات صبغت الشعر العربي المعاصر بألوان لم تبهت. ولم تخب جدتها، في كل مرة يروح فيها الحديث يتناول الشعر العربي المعاصر وقضية الحداثة يكون الخال قطب الحديث والجدل والنقد، ويوًكد أن الخال جنى على نفسه حين اراد أن يقطع كل صلة مع التراث، وأن يخترق جدار اللغة العربية، ويقول د. موسى: “يوسف الخال الذي ادار وجهه شطر البحر في سفر الرحيل الشعري للتخلص من القديم الموروث، وقد تعلق بأذيال ت. س. اليوت وعزرا باوند واضرابهما”. رفض لغة الصحراء، رفض نتاجها الشعري وعبقريتها الغنية، حتى كاد يرفض انسانها. 

 

فؤاد رفقة وانسي الحاج من عصبة “مجلة شعر”

ثم ينتقل الدكتور موسى الى دراسة ثلاث مجموعات شعرية للشاعر الدكتور والصديق ايضا فؤاد رفقة، هذا الشاعر الذي شغله “الزمن والموت”، وشدّه الحنين الدائم إلى الأرض إلى الكون الذي يرى فيه وحدة متكاملة لا تختلف إلا بالمظهر، ويرى موسى أن القلق الوجودي الذي يعاني من وطاًته الشاعر “مغلف برومانسية شفافة، قد تبلغ في بعض الاحايين حد الصوفية مدار فلسفة رفقة، الذي يستبطن في اعماقه جماع الفلسفة الالمانية”. ولقد أعرب الشاعر رفقة عبر نصوصه الشعرية وحواراته عن هذا القلق المضني، القلق الوجودي والرعب من الزمن. هذا الزمن الذي احتل حيزا كبيرا في فكر الفلاسفة عبر العصور. حتى بات الشعر مع رفقة كما يقول الدكتور موسى: “فلسفة موقعة، وترها الرحيل المشدود الى حقيقة حتمية حياتية هي الموت”. وأكد موسى أن في ديوان رفقة “يوميات حطاب” الشوق المتوقد – توهج الرؤيا، هو توهج الاحتراق، حتى الذوبان في البراءة حتى الحلولية. في هذا الديوان صوفية نارية كان الاحتراق بالنار المقدسة قيامة تطهر من الادران. وتمكن الناقد بوعيه وادراكه لأهمية النقد ورسالته الحضارية من تحديد نقطة الدائرة في نتاج الشاعر رفقة وحولها تتمحور معاناته، وأولى اطراف هذه المعاناة. إن احساسه بأن الأرض البكر والزمن الذي لا ينتهي، يتوحد بالطبيعة، يصير اياها.. يموت.. ليحيا في اشيائها “. والطرف الثاني هو المكان الذي يتجسّد عن الشاعر “في الزمان، فاختصر الزمان في ذات الشعر، يعني اتحاد الكون الصغير بالكون الكبير “. 

أما ديوان “سلة الشيخ درويش” فيلخص موسى موقفه بقوله انه: “صيحة نقية صافية، يطلقها فوًاد رفقة من حنجرة برية فيها نقاء البحة ورنة الجرس الاصيل والهتاف المتصاعد من ظلال الاشجار وخرير المياه وسقسقة الجداول، فإذا جداوله علامات ازمنة، وكأن الشاعر يصرخ في وجه المدينة اغربي”. ونلتقي مع الناقد موسى حول نقطة مفصلية في نتاج رفقة الشعري، وهي قلقه على مصير الانسان والطبيعة من خطر المدينة المعاصرة، مدينة الحديد والاسمنت والفولاذ، وهو يعتبر الهروب الى الغابة، خلاصا للانسان، وطمأنينة له. يقول موسى:

“إن الشاعر من ديوانه الأول حتى ديوانه الأخير، ثمة تواصلية الخيط الشعري الذي امتد مسافة زمنية طويلة”.

 

والشاعر انسي الحاج، أحد اركان عصبة “مجلة شعر” التي تحلّقت حول الشاعر يوسف الخال، تميز بشعريته الرافضة للحدود والقيود، المنفلتة نحو الفضاءات الأكثر توهجا واشراقا. ولهذا رأى موسى أنه: “شاعر يقف على رأس رعيل الشعراء التصادميين الانفصاليين، عبر رحلته الشعرية التي بدأها بديوانه الأول “لن” حتى ديوانه الخامس “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”، وهو في هذه الرحلة الشعرية، يحاول أن يشد الخيط الرفيع الذي يربط ما بين الأرض والسماء، على طريقة صوفية خاصة قوامها: القلق، الغربة، الدنس، والطهر، من أجل ربط قطبي الحياة – المجتمع- الواقع والرؤيا العالم الجديد “.

 داخل عصبة شعر، كان لكل شاعر صوته الخاص، وافقه الخاص، ومنحاه الخاص ورؤاه الخاصة. ورؤى انسي الحاج الشعرية، كما يقول موسى: “تحمل في طيات الكلمات الرموز، وحيث أن التجربة الشعرية تجربة خلق وابداع، يمثل فيها الخيال او العقل اللاواعي دور المغني الخلاق، فيؤلف بين العناصر المشتتة في الواقع الراهن “.

إن رحلة انسي الحاج بدايتها إثم وخطيئة، ونهايتها طهر وخلاص، وفي “لن” و”الراس المقطوع”، يرسم الحاج منطقة الانسان السديمية المتأرجحة بين الجنس والدنس، وفي مجموعاته اللاحقة -يدخل المطهر، ليغتسل من ادرانه وخطاياه واثامه، ليأمن الوصول الى فردوس البراءة والطهرانية. والمراًة التي اوقعته في براثن الخطيئه في المجموعتين “لن” و”الراس المقطوع”، تحوّلت في المجموعات اللاحقة الى طريق الخلاص، وسلّم ارتقاء انساني وفق ما يرى الدكتور موسى، الذي يؤكد أن انسي الحاج: “غامر في رحلة شعرية مغامرة – خطرة – جريئة ورحلته امتدت مسافة كونية بين الجحيم والفردوس، رائدها الانسان، وقائدها الشاعر المتمرد “.

 

تحولات الياس لحود الشعرية

ثم يتناول الناقد تحولات الشاعر الياس لحود الشعرية مستعرضا الارهاصات الموضوعية والذاتية لهذه التحولات، والمؤثرات التي ساهمت مباشرة وغير مباشرة في حدوثها. الى أن يصل الى نتيجة مفادها أنه “من ديوان الى ديوان نجد الياس لحود يتقدم تجربته الشعرية، فيبلور مساره لتتشكل القصيدة عنده في اطر تقبس من تجارب النقد الحديث والمدارس الطويلة”. 

 

والياس لحود، هذا الطائر الجنوبي. يغرّد في فضاء هو غير الفضاءات التي يحلّق في اجوائها الشعراء الجنوبيون، حيث ابتعد عن المباشرة الى الرمز، عبر تواصلية جذوره التراثية مع الحداثة، ولهذا قال الدكتور موسى في نقده لهذا الشاعر الذي تربطه به اواصر صداقة حميمة: “واذا استطاعً الشاعر أن يحقق الاتصال بين الماضي والحاضر بصيغً تعبيرية مختلفة، فانه يقدّم للقصيدة العربية بعدا جديدا، ويفتح باب الرؤى الرمزية – التاريخية لتكون اضاءات واقنعة ومرايا واشارات للنفس واشراقاتها المستقبلية، معبّرة عن العوامل القومية والانسانية والثقافية والفنية”، ومدى انخطافه بملحمة العصر التي تتجسد في معاناة اهل الجنوب، مستشهدا بمقاطع من قصائده التي تومىء الى الجنوب المصلوب على جلجلة الأمة. 

وبعد هذه الرحلة الفاتنة مع شعراء الحداثة، يتوقف موسى مبهورا، مسحورا امام شاعرية مبدع مخضرم، عايش ورافق اعلام الشعر العربي المعاصر امثال: الياس ابو شبكة، بدر شاكر السياب، نزار قباني، بدوي الجبل، الأخطل الصغير، وخليل مطران وغيرهم. 

 

فؤاد الخشن ورتبة العشق الإلهي

ويرى الدكتور موسى في الشاعر فؤاد الخشن أن ” شعرية الخشن بنت الطبيعة البكر، التى لم يفض خاتمها سوى هذا الشاعر المتأنق المترف”.

 والخشن كغيره من المبدعين في صيرورة ابداعية دائمة، وعبر هذه الصيرورة، تحدث تحولات ارتقائية، هي بمثابة محطات تطورية كان ديوانه “صلوات الشيخ الأزرق”، وعبره، يقول موسى: “يصعد الخشن في معارج التوحيد الشعشعانية. ليصل الى درجة العرفانية من الاتحاد بين العاشق والمعشوق، في رتبة العشق الالهي، ذي النورانية الكاشفة عن ميثاق العقل في مدارج الحكمة الحقيقية”.

إن الخشن، وباعتراف الجميع ركن اساسي من اركان الحداثة الشعرية، حتى أن البعض يقدمه على السيّاب، ونازك الملائكة، وهو بالتالي في طليعة الشعراء الذين ثبتوا للشعر العربي الحديث ” مداميكه الأولى. ويرى موسى أن “الشاعر قد استطاع أن يوظف الرؤيا والرمز والتراث في تجربة ابداعية تدخلنا في مناخات الشعر الصافي البالغ الاصالة، المتعدد المرايا، الموحّد الصوت، الدائم الايحاء”. 

 

عمر فاخوري ومحاربة “البرجعاجيين”

وعبر رحلته النقدية الغنية بالنظريات والاحكام الثاقبة، يوقفنا موسى عند الاديب الملتزم عمر فاخوري، هذا الكاتب الذي حمل على عاتقه هموم انسان وطنه في مرحلة مظلمة من تاريخ هذا الوطن، لا يرهبه قمع، ولا تخيفه سلطة؛ بضاعة الكتابة عنده تعني في ابعادها الانسانية صناعة الحياة، ومن هنا يقول موسى ” كانت كتابة فاخوري ملتصقة بالشعب وقضاياه. ايمانا منه بان الأدب الذي لا يعيش معً الشعب هو ادب فاشل. لذلك شن حربا، لا هوادة، فيها، على الادباء “البرجعاجيين”، فكان كتابه “اديب في السوق” دلالة على اندماج صاحبه بالمجتمع”.

 إن فاخوري كان بمثابة النذير الواعي بما ينتظر الوطن من اضطرابات نتيجة الظلم والقهر والاستلاب التي مارسها الاستعمار والسلطة المحلية الفاسدة، وبذلك يقترب كثيرا من المفكرين الفرنسيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية امثال جان جاك روسو – ديدرو – فولتير ومونتسكيو. ويؤكد موسى أن فاخوري قد وظف الادب في خدمة السياسة، لا السياسة المتعهّرة – المنافقة، والفاسدة، وإنما السياسة التي توجه الاخلاق وتبني المجتمع وترفع الاوطان، وكم نحن اليوم بحاجة لقلم جريء كقلم فاخوري ليكشف اقنعة الخوف والاستسلام والارتهان. 

ويقول موسى إن: “فاخوري يستعير العواطف والخواطر ليصورها بقلم من نار وغضب، يغمس قلمه في جراحات الناس مستعيرا دمها مدادا ليرسم الفجر المنتظر”. ومن هنا كانت ثورته على الادباء المنكمشين، المنعزلين عن القضايا الاجتماعية والوطنية، فجاء أدبه والحال كذلك ادبا حيا يعكس بإسلوبه جمال اللغة، وصفاء الذهن، وخفة الروح. 

 

ناديا تويني… دائرة المحبة ومزاملة الخلود

وقبل أن يحدثنا بإسلوبه الشيق عن شاعرية ناديا حمادة تويني، يستعرض لنا تطورات الحركة الأدبية التي قامت في مصر، وشكّلت محطة فاصلة بين الشعر التقليدي والشعر الحديث، حركة “جماعة الديوان” واقطابها ثلاثة: عبد الرحمن شكري، ابراهيم عبد القدر المازني، وعباس محمود العقاد.

ويطرح امامنا الأسباب والعوامل التي ادت الى نشأتها، ثم يحلل مفاهيمها حول الأدب والابداع، بإسلوب وعمق ينمان عن اصالة ثقافية وابداعية قل أن نجدها لدى الكثير من نقاد هذه المرحلة.

 ويعرف الدكتور منيف موسى بمصداقيته المعروفة والمتواضعة، أن أكثر ما شدّه الى الشاعرة ناديا حمادة تويني هو ذلك الخيط الشعري العفوي الذي يربط بين قطبي الوجود: الحياة والموت، وانه في زمن الرحيل والترحيل، كان كتاب “مختارات شعر من ناديا تويني” أول كتاب يتناوله، حيث تسمرت عيناه على قصائدها كما يعلن. 

وبعد قراءته المعمقة للمختارات تبين له أن “هذه الشاعرة المتغربة مسكونة بالشعر، وهذا الشعر هو الهوية، او جواز سفر، لا يعرف الحقد، ولا يمارس القمع والرعب.. فان يسكن الشاعر القصائد ويتعامل مع الكلمات يتجذّر في اعماق الوجود يزامل الكون في جغرافية الخلود “. 

وفي الختام يعبّر موسى عن اعجابه وتقديره لموهبة تلك الشاعرة بقوله: “يأخذ الشعر مع ناديا تويني بعده الجديد القائم على اختصارات المسافات، والتقاط الأبعاد بين البشر، وحصرها في دائرة المحبة، كي لا يظل الواقع الحتمي تاريخا مجهولا، او سجلا مشوها”.

واخيرا، يلقي الدكتور منيف موسى اضواءه الكاشفة على واقع المراًة اللبنانية الابداعي. انطلاقا من تاريخية هذا الواقع الذي هيمنت عليه سلطة ذكورية قامعة للانوثة، وانتهاء بتحرر المرأة النسبي، وعطاءاتها الابداعية في مختلف الميادين والحقول الثقافية والاجتماعية والتربوية والوطنية – النضالية.

 إن الصديق الدكتور موسى رحمه الله، فتح باعماله النقدية كوة يدخل عبرها النور الى ليل ثقافتنا العربية عموما، والى الحركة الشعرية خصوصا، وأنبت في نفوسنا غرسة الأمل بأن ثمة من يحمل لواء الابداع النقدي السليم والعميق والصادق، في زمن غابت شمس النقد، مما اوقع الحركة الابداعية في فوضى عنيفة كادت تؤدي الى انهيارها؛ وكم نحن بحاجة لنقاد من امثال الدكتور موسى، كي يقوّموا مسار الأدب، شعرا ونثرا، وتنظيفه من المتطفلين والدعاة الذين يدفعون به الى الانحطاط.

إن د. موسى قامة نقدية وشعرية بسقت عاليا في صحراء الثقافة في لبنان، دأبت على تحويل هذه الصحراء الى واحة خصيبة بالماء والثمار والازهار، وبرحيله الى الهنالكات، خسرت الحركة النقدية والشعرية ركنا متينا من أركانها…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *