شربل في الفاتيكان

Views: 127

 الدكتور جورج شبلي

إنّ للجنّةِ باباً حدودُهُ تطهيرُ النّفسِ، ومُغالبةُ الأَهواء، غيرَ أنّ مفتاحَهُ هو فيضُ الإيمانِ على الرّوحِ والعقل، ولهذا الإيمانِ وحدَه تُشرِّعُ الجنّةُ ساحتَها. وشربل النّاسكُ القدّيس، هو مسقطُ رأسِ الإيمان، ونَسَبُه، جُرِّعَ من فيضِ جداولِهِ، فشبَّ الوَلَعُ بهِ في خطِّ حياتِهِ، وبهِ جرَت بين يَدَيهِ مواسمُ القداسة. 

لقد وقعَ حبُّ شربل باللهِ في عاطفتَين، هما إضرامُ قوّةِ شَغَفِهِ بهِ لتبلغَ أجزاءَ الرّوح، ونقلُ فواضِلِهِ السخيّةِ الى الناسِ ليكونَ لهم، من عظيمِ نعمتِها، أسبابُ الرّجاء. ولو تَعَقَّبنا مسيرةَ شربل، منذُ انشغالِهِ باللهِ وحتى يومِنا، لوجَدناه يكشفُ عن وجهِ اللهِ مَعيناً من نورٍ لا ينضب، وبدائعَ حكمةٍ لا تَغيض. ولأنّ شربل كان مُدمناً على صوتِ الله، بدَت ضرَّةُ قداستِهِ في إشعاعِ إيمانه، وفي تلك الأمانةِ المُلتزمةِ بترجمةِ محبّةِ الخالقِ لنا، وذلك بالرعايةِ العظيمةِ التي لا تنقطع، وبالعنايةِ التي تسلكُ دربَ العجائب.

إذا كان البعضُ قد أوَّلَ ما وردَ في أقوالِ الرُّسُلِ عن موضوعِ الحُلولِ، على أنّه عقيدةٌ ضالّة، على أساسِ أنّ الحُلولَ نِحلةٌ دخيلةٌ لأنّ الإتّحادَ باللهِ باطلٌ ومُحال، غيرَ أنّ اتّحادَ ناسوتِ شربل بلاهوتِ المافوق، هو مجاهدةٌ قائمةٌ على الإيمانِ والمعرفة، وقد خطَّت مساراً أوصلَ شربل الى القداسة. إنّ شربل لم يكنْ في غربةٍ عن قِيَمِ اللّاهوتِ، ولم يحجزْ تأثيرَه فيها عن طالبيها، فبالإضافةِ الى ولائِهِ الثّابتِ لله الذي وعدَه بالبَرَكة، والولاءُ، هنا، إيمانٌ قويمٌ، وزادٌ أزليّ، كان شربل كارزاً في نشرِهِ، يشفعُ للمشتاقينَ الى نِعَمِ الله، لتترسَّخَ صِلتُهم بالسّماء. 

 

إنّ طبيعةَ شربل المحتفلةَ بالله، لم تكنْ لتستطيبَ غيرَ السّكونِ الذي يحرسُ هدوءَ الصّلاةِ التي ترسمُ، وحدَها، في قلبِهِ، الإكليلَ الإلهي، وتؤهّلُهُ الى فرحِ اللقاءِ مع الحقيقة. فرهبانيّةُ شربل كانت حالةَ تَجاوُزٍ لإرادةِ الأرضيّات، تفتحُ أفاقاً تؤكّدُ على فطريّةِ الإرتباطِ بالله، وتمنحُ حقَّ العبورِ الى الحقِّ بالإيمان. من هنا، نشرَ شربل، باللّسانِ والفِعل، كلماتِ الربِّ السّرمديّ، أَصلِ الكلِّ وعلّةِ وجودِ الكلّ، في النّاس، وحرصَ على أن يشعَّ جَمالُها في نفوسِهم، وأن تُنفِقَ محصولَها في سلوكِهم، وأن يعرفوا مقدارَ حُبِّ اللهِ إيّاهم، حتى لا يقَصِّروا في تَمتينِ الرّابطِ بينَ الخالقِ وبينهم، ويجعلوا إيمانَهم بهِ وليمةً دائمة، وهذه الوليمةُ غذاءٌ وفرح. ولمّا كان الرّابطُ بين اللهِ وشربل، خيطاً مَثلوثاً لا ينقطعُ، راحَ شربل يزرعُ البِرَّ في دَفقٍ لا يتوقّف، ويُعلِّمُ أنّ معرفةَ اللهِ هي رأسُ المعرفة، وأنّ اللهَ هو حقيقةُ الحقيقةِ الخالدةُ كعمودٍ من نور، وأنّ مَنْ يتوكّلُ عليه لا يهلِك، وأنّ الصَّلاحَ هو أوّلُ الفضائلِ التي أمدَّتنا بها السّماء، وما هي سوى تذكارٍ لعملِ هذا الخالقِ المُحِبّ.

إنّ فيضَ الحبِّ الذي مَدَّ اللهُ به شربل، كسباً روحيّاً، لم يحبسْهُ القدّيسُ في ذاتِهِ، فأفادَ الكُثُرُ مِمَّن تاقوا إليهِ، بما قَدَّمَه شربل، وما قدَّمَه يقي القلبَ من آلامِ الخطأ، ويشفي الجسمَ من مخاطرِ الأمراض. وأقامَ النّاسُ لشربل، وهو الأرضُ الغاصَّةُ بمُتَلَقّي النّعمة، في قلوبِهم تمثالًا، وتعمَّقَ بينهم وبينه التّكاملُ بالمحبةِ التي هي استراحةٌ بين يَدَي قدّيس. أمّا العجائبُ المتراكمةُ التي شَعَّ نورُها في أصقاعِ العالَم، وفي مداراتِ مجتمعاتِ النّاس، فتستوجبُ التوقّفَ عندها، مَلِيّاً، لإدراكِ أنّها لم تُحصَرْ ضمنَ سدودٍ مذهبيّةٍ، وحدودٍ جغرافيّة، فمحاصيلُها لغةٌ كونيّة، وصاحبُها شفيعٌ عابرٌ للزمانِ والمكانِ والأعراق. إنّ عجائبَ شربل صارَت له بطاقةَ هويّة.

في الفاتيكان، نُصِّبَ موزاييكُ شربل القدّيس تحتَ حمايةِ مار بطرس، للتبرّكِ به، فالقداسةُ هي الكيانُ النُّطقِيُّ لِمَنْ جاورَ السّموات، وقضيّةُ القداسةِ مع شربل لم تكن مصادفةً، لأنّ بَصمتَها كانت مخزونةً في جدارِ نفسِهِ، منذُ كان، وبها كان وجهُهُ مبارَكاً. في الفاتيكان، أصَرَّ شربل على إبرازِ لوحةٍ للبنانَ مُشرِقة، بعدما سبَّبَ له حاكِموه الوثنيّون خسائرَ فادحة، فلبنانُ شربل هو أرضُ القداسةِ المُصانةُ من الدَّنس، والمولعةُ باللهِ الذي لم تُسفِرْ قلبَها إلّا له، ولم تعجمْ عودَ صوتِها إلّا ليصدحَ صلاةً له وابتهالا. لبنانُ شربل، حُقِنَ في الفاتيكان جرعةَ إنعاشٍ لأنه، في ذهنِ القدّيس، من سلالةِ الحقّ. 

إنّ شربل المُتقّشِّفَ والنقيَّ السّريرة، والملتزمَ بمذهبِ التأمّلِ الرّوحانيّ، تلقّى أسرارَ القداسةِ فَيضاً، لأنه تربّى في رحابِ الله، وما جالسَ غيرَه، وما مَلَكَ قلبَه سواه، وما فاتَهُ حدٌّ من حدودِهِ حتى صارَ الأَطبَعَ فيها. وقد فاضَت عليه النّعمةُ حالةً ذَوقيّةً وجدانيّةً، ويسَّرَت يدُ اللهِ له نظاماً لاهوتيّاً متكاملاً، حتى قولَبَتهُ طينةُ القداسة، وأطلقَت شرارةَ عجائبِهِ التي تشرحُ نفسَها بنفسِها، والتي تؤكِّدُ على أنّ اللهَ هو الجوهرُ اللّامتناهي الخير، وهو الفيّاضُ بجميعِ النِّعَم، وهو الحقيقةُ المطلقةُ التي ينبغي الولاءُ لها، لأنّ الولاءَ لله هو العنصرُ المحوريُّ للخلاص.

وبعد، عسى أن يُصبح الموزاييكُ اللبنانيّ متراصّاً كالموزاييك الذي شكّلَ صورةَ شربل الخالدةَ في الفاتيكان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *