البيت العتيق

Views: 401

د. جان توما

يحرسني الشجرُ كعسكر عائد من نوبته، يلملم الليلك من الدروب قبل أن يغرق في عطر الثلج.

يقف الشجرُ وحيدًا في مواجهة البرد. هاجرت أوراق أغصانه مع أوّل هبّة هواءٍ. تطايرت كبساط ريح ما بين ذكريات عمر ماءْ، ومجرّات لمعت في عتم السماءْ.

من قال للبيت العتيق أن ينتظر الذين راحوا في النسيان وتركوا أسماء أولادهم منسيّة على الحيطان؟ تطلّ النوافذ المغلقة على المدى، فلا ترى الآتين من رحيل، ولا تسمع قرقعة جرّ حقائب المهاجرين العائدين على حصى درب القادوميّة المهجور.

يفرك قرميد البيت عينيه ليسقط حبّات الثلج في غمرة انتظاراته. يفكّر في سنونوات الربيع الآتي لتشغله ببناء أعشاشها في مفاصله ليحيا. هو لا ينتظر في ضجره عودة السنونو فحسب، هو يبحث عن الصبيان الذين كانوا يلهون هنا في ساحة الدار، يركضون، يلعبون، يصرخون، يأمل عودتهم، فقد اشتاقت لهم عناقيد عنب كرمة المصطبة المتدلية بخجل، يقفزون على أكتاف بعضهم ليقطفوا حبّات عنقود فرح بشيطنتهم ولهوهم وضحكاتهم.

ما بال الفصول تتشابه في يومياتها المضجرة؟ غابت وجوه الصبية الذين كانوا هنا ، أخذهم الثلج خلف الهضبات. ما زال الأهل هنا، تغزل الأمّ بصنارتيها شال حكاياتها بانتظار عودة المستمعين، كذلك يلتحف الأبّ عباءة عمره المتعب، يقرأ في البساط الأبيض نهارات تعبه ولياليه. يغرقان معا في لهب حطب كانون النار التي لا تبرّد حرارة شوقهما، فيما برد التأوه الحزين  ورطوبة الحنين يردّهما كالثلج أنقياء.

***

*اللوحة للفنان حبيب ياغي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *