الحلّاج… شهيد العشق الإلهي

Views: 106

وفيق غريزي

“الحلّاج”، هو ابو المغيث بن منصور البيضاوي، نسبة إلى مدينة البيضاء من بلاد فارس، الواقعة على الطريق بين البصرة وخراسان، ولُقِّب بالحلّاج لأنه كان يعمل في حلج القطن عند صاحب حانوت في مدينة واسط. 

ولد ابو المغيث حوالي سنة 244 هجرية ٨٥٨ ميلادية، وظل في قرية الطور الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة البيضاء. وانتقل مع اسرته وهو ما زال طفلا إلى مدينة واسط.

درس الحلّاج علوم الدين واللغة في مدرسة واسط، وقيل إنه حفظ القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره. وفي واسط، التحق بالصوفي سهل التستري، وأخذ عنه علم التصوّف، ومنها انتقل إلى البصرة في العراق، حيث تلقى خرقة الصوفية عن يدي الصوفي عمرو بن عثمان المكي، ومن شروط لبس الخرقة او المرقعة لبسها كلبس الكفن، لأن المتصوّف بعد ذلك يقطع الأمل من لذات الدنيا، ويطهّر قلبه من راحتها، ويكرّس عمره كله على خدمة الحق. 

 

ويشير المستشرق نيكلسون إلى أن للصوفية في الباس المريد الخرقة فلسفة معينة، ولبسها يرمز إلى جملة أمور منها: إلانسلاخ من الارادة الذاتية بالفناء في ارادة الشيخ. أما ابن عربي فيقول: “فلم نزل نُلبسها للمريد كما لبسناها، فننزع عن المريد جميع الأخلاق الرديّة مع الخرقة التي نلبسها له”.

ثم درس عن ابو بكر الشبلي وابو قاسم الجنيد. وبذلك يكون الحلّاج قد أخذ العلم عن اربعة من أشهر المتصوفين اطلاقا في تاريخ التصوّف الإسلامي. ويذكر المؤرخون انه بقي مرافقا الجنيد عشرين عاما، اخيرا انفصل الجنيد عنه خوفا من غلوه وغرابة أطواره.

وفي البصرة تزوج الحلّاج من ام الحسين بنت ابي يعقوب الأقطع البصري، واثمر هذا الزواج ثلاثة ابناء هم: سليمان وحمد ومنصور، وبنتا واحدة”. وكان زواج الحلّاج من ابنة الأقطع، الذي كان من أثرياء البصرة، سبب نفور وعداء معلمه عمرو بن عثمان المكي، لعدم رضاه عن هذا الزواج. ولما استمرّت الخصومة بين المكي والأقطع ذهب الحلّاج إلى معلمه الجنيد وطلب منه المساعدة لإنهاء هذه الخصومة، فأمره الجنيد بالسكون وترك الأمور تجري على طبيعتها”.

 

من البصرة انتقل الحلّاج إلى مكة في حجته الأولى، ومكث هناك سنة في حالة صوم وصمت دائمين، وقال ابو يعقوب النهرجوري:

” وجلس الحلّاج في صحن المسجد سنة لم يبرح موضعه إلا للطهارة والطواف، ولم يحترز من الشمس ولا من المطر، وكان يحمل إليه في كل عشية كوز ماء وقرص من اقراص مكة، وكان عند الصباح يرى القرص على رأس الكوز وقد قضم منه ثلاث قضمات أو أربعا، فيحمل من عنده”.

وعندما عاد من مكة إلى بغداد، لم يمكث فيها طويلا، بل اتجه نحو الاهواز ونبذ الخرقة الصوفية وارتدى لبس الفقهاء، كيما يتكلم بحرية مع المفكرين وعامة الشعب، واتبع الوعظ والإرشاد، واختلط بكل طبقات المجتمع، فصار له اتباع ومريدون كثيرون، الأمر الذي اثار حسد وكراهية بعض شيوخ الصوفية، وفي مقدمتهم معلمه عمرو المكي”. وعاد من الأهواز إلى الهند وملتان من بلاد السند وكشمير مع قوافل الأهواز التي تحمل البضائع، وهناك اطلع على الفكر البرهمي. وبعد فترة من الزمن عاد إلى بغداد، وأقام في منزله مسجدًا صغيرا دعاه “الكعبة حنبل “.  وفي النهار يجوب طرقات بغداد، أما واعظا او مناديا: “يا اهل الإسلام، أغيثوني، فليس يتركني الله ونفسي فاني بها. وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه”.

 

منذ حداثته كان الحلّاج يبحث عن المعنى والطريق الذي يرفع دعاء الروح إلى الله، ولهذا نجد الآراء التي اعتنقها ونادى بها كانت العشق الالهي، عقيدة الحلول والاتحاد. وهذه الآراء كان يقول بها ابو يزيد البسطامي والعقيدة البرهمية الهندية.

الدكتور ماجد فخري يقول في هذا الصدد: بدأ الحلّاج يتحوّل عن النظام الصوفي المعروف، فقد فارق حياة العزلة، ورسم لنفسه خطة الوعظ والإرشاد في المجتمع”. فقد اختلط كما سبق بشتى طبقات الناس، وأقر بأنواع من العقائد حيّرت معاصريه وزادت في صفوف خصومه.

العقل ومعرفة الحق 

إن النفس الكاملة هي المؤهلة لسلوك الطريق للوصول إلى الحق، على أن تلتزم الشريعة في سيرها وسلوكها، بحيث أن النفس السيئة طبعت على الغفلة والشك والشرك والرغبة والرهبة والغضب، فهي نافرة ناشزة كارهة وتركن إلى الشهوات وتفرح بالمطالب والراحات فرحا يظل يجري في العروق كما يجري السم حتى يميت القلب، وفق قول الحكم الترمذي. وثمة احوال على النفس أن تمر بها كما يعتبرها الصوفيون وهي:

  1. تطهير النفس من الشهوات 
  2. إبدال الشهوات بالمحبة 
  3. الإنغماس في العشق الإلهي
  4. الوصول الى الذات الإلهية 
  5. الفناء في الذات الإلهية 
  6. الحيرة 
  7. البقاء الدائم بالتوحيد بأن لا إله الا الله. 

 

والأفلاطونية المحدثة تعبّر عن اعتقادها بأن الحقيقة العليا لا تدرك بالفكر انما تدرك بالمشاهدة في الغيبة عن النفس عبر التأمل والاستغراق وصولا إلى الإشراق من جهة، وعن طريق العالم المحسوس من جهة اخرى . وهذا بعينه ما ذهبت اليه الصوفية من أن المعرفة الحقيقية لا تحصل عن طريق الحس والعقل، بل تحصل بنور يقذفه الله في قلب المرء بعد أن يكون تخلّص من شوائب نفسه، ومن عرف ربه واستغرق في الذات الالهية، استغراقا تزول معه التفرقة، ويحصل فيه الاتحاد والجمع ، فالتشابه واضح في طريق المعرفة بينهما .

والعقل عند الصوفية على خلاف بعض المذاهب والمعتقدات، فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله، وهو الدال على المنافع والمضار، ويعقل بقصد غاية وهي الاستدلال على الأشياء، حسب مظاهرها، لذلك فهو لا يحوط علما بالإلهيات والمعرفة اللدنية، التي هي نور الله يقذفه في قلب المرء. ولهذا ” نجد اختلافا كبيرا في تحديد العقل عند الصوفية بأعمال ظاهرية واستدلالات عمليه تظهر الحواس، وبين كونه ثاني الله وإبداعه وإرادته على الأرض، كما تعتقد الفلسفة اليونانية والمعتزلة”.

 

وبالتالي، الصوفيون لا يعتمدون العقل وسيلة للمعرفة، ويعتبرون العقل عاجزا عن الإحاطة بكنه الحقائق الإلهية، وان وراء طور العقل سور اساسه الحدس الديني يدرك به الانسان ما لا يدركه العقل. ويرى البعض، ان العقل محدود المعرفة لإدراك الحق، ونحن نسعى إلى الوصول للحق، ثم ان منهج الصوفية ” يقوم على مقامات وجدانية وانفعالات نفسية تهدف إلى عبادة الخالق، والفناء في حبه دون وسيط، حتى انهم تخطوا الائمة والانبياء. الحب الجارف – الطاغي على فكرهم وأعمالهم دون قيد او حدود، واندفاعهم النفسي المطلق لله، لا يخضع للعقل وأحكامه، بالرغم من ان ارادة الله على الارض ونعمته على من يرضاه من عباده”.

استشهاد الحلّاج 

أمر طبيعي أن تبرز المصاعب بشكل غير متوقع في طريق عمل متغاير عن الواقع والمعتقدات السائدة، لأنها تأتي لامتحان حماسة الفاعل. تأتي المصاعب والعوائق لاختبار وفاء المرء وصبره وإيمانه، وسنجد أنه كلما كان عزم الحلّاج كبيرا كلما كانت القوة المضادة اكبر، ولكنه لا يشعر بالإحباط ولا يستسلم ولا يتخاذل، بل تغلب على الصعاب بإيمانه الثابت بالله وبنفسه .

وكما مر معنا، فقد أثارت مواقف الحلّاج وأقواله غضب الفقهاء، وبعض المتصوفة، فاخذوا يطالبون بمحاكمته بتهمة الالحاد. وكان الفقيه محمد بن داود الأصفهاني يكره الحلّاج، فرفع أمره إلى المحكمة طالبا الحكم عليه بالقتل، ولكن القاضي ابن سريج عارض ذلك، بحجة أن الاتهام الصوفي لا يدخل في اختصاص المحاكم الشرعية، مما انقذ الحلّاج. وكانت الدولة العباسية التي تقف على شفير الانهيار، تقف من الحلّاج موقف الريبة والخشية. فقرر الوزير علي بن محمد الفرات، الذي كان يستغل ضعف الخليفة المقتدر، ليواصل نهبه للشعب ولتقوية نفوذه وسلطانه، فقرر ازالة العقبة التي تقف في طريق أطماعه، بإلقاء القبض على الحلّاج، ولكن الشرطة لم تتمكن من القبض عليه إلا سنة 913-914 ميلادية، وذلك في بلدة السوس في الأهواز، فحمل إلى بغداد، وأركب جملا وشهّر به ونودي عليه. وخلال وجوده في السجن رفض الفرار الذي كان من السهل عليه أن يغادره متى شاء، على غرار ما فعل قبله الفيلسوف اليوناني سقراط، وعلاوة على ما كان يتمتع به من كثرة الانصار والمريدين في دار الخلافة ذاته ممن يستطيع تسهيل فراره إذا أراد، ولكنه استخف بموت الجسد .

 

سجن الحلّاج سبع سنوات. وقد اجل الوزير ابن الفرات محاكمة الحلّاج خوفا من الأميرة “شغب” والدة الخليفة المقتدربالله، التي كانت تكن المودة للحلاج وتحميه من اعدائه. وفي العام 309 هجري 922 ميلادية وفي باب خرسان في بغداد، وأمام جمع غفير من الناس، ضرب الحلّاج الف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وعلّق على الصليب، وبعد ذلك أحرقت جثته ورمي رمادها في نهر دجلة .

يؤكد المستشرق ماسينيون ان موت الحلّاج اثبت ان لا بد من العذاب من اجل الخلاص. وان الصلب هو افتداء مقدس، ويظهر كل مسرى حياته وكل مشهد محاكمته، شبيها للمسيح من الخارج. فعلى الصليب قال الحلّاج: “قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك، وتقربا اليك، فاغفر لهم يا الله فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوه”. هذا القول يذكرنا بعبارة المسيح التي ناجى بها ربه وهو على صليب الجلجلة: “اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون”. وبعد استشهاده تحوّل الحلّاج إلى قديس وشهيد، وانتشر صيته في جميع انحاء العالم الإسلامي، في حين أن جلاديه قذف التاريخ بهم إلى عمق مزابله …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *