بلقيس ابو خدود صيداوي… "دُمُوْعها" تغني!

Views: 10

 
تبقى العودة الى مجموعتها الشعرية أصدق تعريف بها وافضل مرجع عنها
بلقيس ابو خدود صيداوي… قصائدها تغوي و”دُمُوْعها” تغني
انطوان ابو رحل
 
بلقيس ابو خدود صيداوي شاعرة الصفحة الثقافية في “الانوار” بلا منازع…
على هذه الصفحة أغوتني قصائدها، وكنت أجد كلما قرأتها ما يدعوك الى ان تحتويه، وتضيع فيه.
قصائدها مسافات شعرية لم أجد لها اسماً الا أنها شعر ممرع، ممتع، ريان. وحين رحت أفتش على نتاجها وقعت على مجموعات قيمة لها، وهي: “همسات من سَبَأ ” (شعر 1980 في مطابع نصرالله)، “دُمُوْعٌ تغني” (شعر 1997 في مطبعة النور )، “بقاءٌ وزوال” (شعر 1998 في مطبعة النور)، “ري مي في الغاب” (مسرحية شعرية 1998 في مطبعة النور)، “ماري كوري” (بحث 2002 في مطبعة النور)، و”بيت الرِّمال” (شعر2009 في مطبعة النور).
تخال ساعة تقرأ بلقيس صيداوي ان الكلمة عندها صارت دلالاً حلالاً، واستحياءً، وخفراً، وأهوية صارت نسائم وربيعاً جاء في غير أيامه، وان الرقة صارت على يدها مدرسة للرقة.
ففي قصيدة ” شكوى” من ديوان “همسات من سَبَأ ” تقول: “يا طيوراً في الروابي/ لامِسي نَفْسي، وذوبي!/ هل رأيتِ السيف يَفْري/مُهْجَةً يومَ الحروبِ؟!/هَكذا يُفْرَى فؤادي،/يا لآلامِ المغيبِ”. (sdyouthservices.org)
وكلما استعدت هذه الابيات في “شكوى” اعتقد انك تسمع اصغاء الورق بمرور  كلماتها عليه، او انك تتشمم لكلماتها رائحة تبلغ منك حيث لا تبلغ رائحة الزهر وصليل السيف.
وفي قصيدة “خذني”، تتأوه بلقيس: “إن قلتُ: لا أهوى سوى قَلَمٍ/كنتُ النُّهى، والفِكْرَ في دُرَرِ!/ ترْتاحُ نَفْسي، كلما انسكَبَت/منه حُروفٌ .. عَذْبَةُ الأَثَرِ!”.
“مملكة سَبَأ”
“خذني” القصيدة التي تربت في أعماق بلقيس ابو خدود صيداوي كما تتربى لؤلؤة، هي قصيدة تسترجع وتستطاب وتمتعك بلقيس وتفرش لك من حبها، ووحدتها، وذهولها، “والفكر في درر” رياضاً لما تتسع له من فكر وحس، فتجلس اليها وتجالسها وكأنك تحت خيمة مطرزة بقطع من الحب والسعادة في “مملكة سَبَأ” تترجرج، وتتزحزح، ثم تمشي اليك كأنها “الملكة” وقد وعت الشاعرة بلقيس اي اسم تحمل فـ”سَبَأ” دولة، قامت قديماً في اليمن، في الجزيرة العربية بعد انقراض الدّولة “الحِمْيَريّة” في تلك البلاد، وكانت “مَأْرِب” عاصمة لها. اعتلت عرش هذه الدولة في عصر سليمان الحكيم، امرأة عظيمة هي الملكة بلقيس.
ويروى في بعض النُّصوص الاسطوريّة القديمة، أنَّ رحلة الطير “الهدهد”، قضاءً وقدراً، الى هذه المملكة أدت الى تحول في مصير الملكة بلقيس . لكن شاعرتنا في “همساتها” عبرت عن تلك المرحلة بقصيدة عنوانها : “فَتَنَتْ بلقيسُ الهُدهُد”: “فَتَنَتْ “بلقيس” الهُدْهُدْ”!/فَتَنَتْهُ، حتى أنْسَتْهُ/مِيعاد العَوْدَةِ “لِلسَّيد”…/ذي التاج السَّمْحِ …”سُليمان”/المَلْكِ العاتي، والمُرْسَلْ/للأرض العَطْىشى، للنّاسِ/برسالةِ رَبٍّ قُدْسيّة!”. وتضيف: “بلقيسٌ” في أبهى الحُلَلَ/ ولَدَيْها الحُسْنُ المرْئيُّ/تختالُ بتاجٍ، تَنْسَجِمُ…/ والعرش… رفيعٌ ملكيٌّ”.
خاضت بلقيس ابو خدود صيداوي في “همسَاتٌ من سَبَأ” وباقي دواوينها مغامرة ادبية اهدت اليها نعمة ان تنظم ما نظمت، واهدت الينا متعة ان نقرأ، بالموزون المقفى، ما كتبت، وما وقع منا موقع الرضى، وان نكتب على ما كتبت، كلما غلب علينا الشوق الى ما يثلج نفوسنا، ويبهجها، ويطيب لنا، ويحلو كلام عليه لأن فيه رجع صدى التاريخ وصمت، وتصوف، وصفاء، واصوات اذا القيت بسمعك اليها، وشغلت بها اذنيك، عادتك بأصداء تحرك منك دمع عينيك وتطيل، ابداً، متعة لقائك الشعري بها.
بلاغة المعنى والحسن
كلما توغلت في ديواني بلقيس “دُمُوْعٌ تُغَنيِّ” و”بَقَاءٌ وَ زَوَال”، تقرأ شاعرة ذات دل تمضي عمرها خارج عمرها، حتى اذا اعتدل ليلٌ ليذهب وانتبه فجر ليقبل، انكفأت الى ذاتها، فخلعت وشيها، وخرجت من زينتها لترتدي ليلاً آخر من صنع يديها، تمتع عينيها بوجهه، وتكل قلبها الى سره. ففي الوطنيات وفي قصيدة “نشيد الجيش اللبناني” تقول: “فِي الوَغَى، يَوْمَ الرَّدَى،/ مَنْ يُسَاوِيِنَا مَضَاءْ/وَمْضَةٌ مِنْ سَيْفِنَا،/تَجْعَلُ البَاغِي هَبَاءْ!”.
اليس في هذه الابيات ما يضاهي المتنبي في فخره؟!
وفي “نشيد الدفاع المدني” تقول باعتزاز: “عَزْمُنَا فَي الخَطْبِ حَاضِرْ،/كُلُّنَا نَهْوَى المَخَاطِرْ…/ نَبْذُلُ الأَرْوَاحَ طَوْعاً…/ فَالفِدَا رَمْزٌ وَخَاطِرْ/لَا نُبَالِي بِالرَّزَايَا،/نَحْنُ أبْطَالٌ تُغاَمِر”.
وفي قصيدة عن “كُتاب لبنان” تقول: “تِلْكَ الحَضَارَاتُ الَّتي سَطَعَتْ/لَوْلَا شُعَاعُ العَقْلِ لَمْ تَقُمِ/ الإِنْسَانَ في كُتُبٍ…/ تَبْقَى، وَيَفْنَى النَّاسُ في العَدَمِ”.
في هذه الاناشيد تذوب بلقيس ابو خدود صيداوي وتسكر وتنتشي من عمق فكرها على بساطة عرضها وكأنها تحدثنا ببلاغتين بلاغة المعنى وبلاغة الحسن في الشعر فاستهامت بتلك الاناشيد وراحت تنشرها مغناة جذلى فيعتريك منها طربٌ.
حريق من حب
اما في ديوان ” دُمُوْعٌ تُغَنِّي” فان بلقيس تعيش في حريق من حب، وفي شجو الف عاشق من هجر ألف معشوق، ليس بينهم الا ما بين ثغرين متعاشقين. وفي هذه القصائد تجد صدى من وجدك، من بعض عمرك، وكذلك كما في قصيدة “وجهان لوحدتي” تقول: “تحوي.. ومنْ ذاك الهَوَى../ باقٍ… ومِنْهُ لَوْعَتي!/ أَشْلاءُ تَخْتً مُتْعَبٍ/تَحْكِي حَكَايا عِزَّتي!”.
فالشاعرة بلقيس شاجنة، سحارة، واخذت من تختها المتعب “حكايا عزتها” فاذا هي شاعرة على جرأة نادرة وكأنها تأبى ان تسكر الا بكلمة تنضجها على جسدها، فتحبسها آناً وتحتبسها آناً. وانت تقرأها تحس انها احبت لا لينتهي وجعها بمن تحب بل لتداريه وتداوره، وتساريه وتسايره وتتسبب الى رضى الحبيب فتأخذ بيدك الى شعر، وعمق، وصداقة لا تزول.
فإذا قصائدها مخبوء حسنها في حسنها، موصول سرها بسحرها، مرجوع صداها الى صوتها، حتى اذا نظرت اليك اطلعت عليك فجراً ندياً.
وفي مسرحية “ري مي في الغاب” الشعرية اعجاز في السكب وكأنه شجو دفين مع روعة البساطة ووصال بالكلمة لا ترتوي منه.
وجميل في عندلة بلقيس ابو خدود صيداوي ان صاحبتها موقوفة ضلوعها على هوى لا مصابرة عنه ولا ملالة منه، قديم بعض العهد به، وجديد بعضه الآخر، بليان كتب حيناً، وحنان كتب حيناً آخر.
قصائد الشاعرة بلقيس لا تقرأ، انها تعاش في مسافات شعرية بها من الحسن ما لا يرجى حسن بعده إلا بها. وقد تولت عنك تلك الرقائق في الحب والحبيب وتركت لك من نفسها لهباً احمر كأنه عروق من جمر.
قصائدها تذكرك بحكاية بين شاعرة مثلها وشاعر آخر من فرنسا وتقول الحكاية : “يوم اصدرت الشاعرة الفرنسية لويز دو فيلموران كتابها sainte une fois  ارسل اليها جان كوكتو هذا الكلام: “يا للسحر في ما كتبت. قصائدك زجاجات خمر. رفاق سفر، انت وانا، على مركبة واحدة، وجهتنا ان لا وجهة لنا، مسافران نحن الى عالم خلبنا، ثم جفانا عن صلته، فخرجنا في اغباش الفجر الى لقاء الانسان فيه”.
اليست قصائد بلقيس ابو خدود صيداوي زجاجات خمر وتحتوي سحراً؟ وهل اكرم للانسان  – الشاعر من وقفة شهادة، تختصر طموح العمر… وتعبر عن قيم الابداع؟!
تسمع الشاعرة فتعجب، تسمعها فتطرب تقرأ دواوينها فتحبها كانسانة وكشاعرة معاً لان فيها خصائص فنية وفيها ايحاءات ثرية.
وتبقى العودة الى مجموعتها أصدق تعريف بها وافضل مرجع عنها لانك تجد فيها الذات الطبيعية، دون تكلف ولا تصنّع، وتحس الصدق والبساطة والعفوية، شأن ما يتميز به شعراء الطليعة.
 
 
 
 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *