خليل مطران…

Views: 6

شاعر لبنان والأقطار العربيّة

خليل مطران
خليل مطران
د. منيف موسى

“قال ابن الأعرابيِّ: قال رجل من العرب لرجل آخر لي إليك حُوَيْجة [وهي تصغير حاجة]. قال: لا أقضيها حتى تكون لبنانيَّة أي عظيمة مثل لبنان”. (لسان العرب، مادة لبن، ط. دار صادر، بيروت، م13، ص 378). وهذي حالي هنا، وقد طلب إليّ حاجة، وكانت لبنانيّة متناهية في الرفعة. أنْ أكتب في موضوع لبنانيّ له في الثقافة والحضارة والتأريخ مقام رفيع ومجد أثيل، ليدخل كتابًا عنوانه: “لبنانيات”، فكان الجواب: هاني (أي ها أنا) مُلَبٍّ، فالحاجة عظيمة، ولبنان وطني، وأنا له قلم مستجيب، وخادم أمين، وولائي له مطلق، وإيماني به إيماني بالله!

موضوعي الذي أنا كاتبه، قمين بالمرحلة اليوم، وبالكتاب الآتي في مكانه في بنائنا اللبنانيّ، والوطن الآن على حدِّ شفير، (العام 1915) وقد حاقت به الحِدْثان، وهو إلى السلام نهَّاض ومن أجله عمَّال، وفي دوره الرسوليّ الحضاريّ أنّه وطن الانفتاح والحُبّ والعقل والسلام، وشعاره الكبير: الحريّة! وحاجتي لبنانيّة محضّ، وهي حديثي عن الشّاعر البعلبكي كما أطلق عليه نابغتنا جبران، الشاعر خليل مطران، اللبنانيّ ولادة ونشأة والمصريّ إقامة ووفاة. وهو الشاعر العظيم الذي سمِّيَ “شاعر العصر”، إلى زمانه، الذي كان آنذاك من شعراء عصره بمنزلة أبي تمّام من الشعراء القدماء. حتى قال فيه نِدَّه أحمد شوقي أمير الشعراء في ذلك الوقت. إذ كان لمطران دور كبير وبدّاع في تجديد الشعر العربيّ: “… ولا يسعني إلاّ الثناء على صديقي خليل مطران صاحب المنن على الأدب. والمؤلِّف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشّعر وبين نهج العرب”. (Alprazolam) (مقدمة الشوقيات، ج1، ط 1898).

التحوُّل والتجديد

وفي بدايات التحوُّل في مسيرة الشّعْر العربيّ الحديث برّز خليل مطران داعية أوّل إلى هذا التحوُّل والتجديد في مقدمة ديوانه، الجزء الأول، المطبوع العام 1904، إلى أنْ يكون شعرنا شعرًا عصريًا و”له على سابق الشّعر مزيّة زمانه على سالف الدهر” ولا زال هذا قوله حتى وفاته … وأن يكون شعر المستقبل، “شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعًا”. وقد تبنّى هذا التجديد وعمل فيه ومن أجله ما أمكنه، وهو الذي قال في مجلة الهلال عدد تشرين الثاني من العام 1933: “إنّ الفنّ ينضج في جوّ من الحريّة، وهذه القيود الثّقيلة، قيود القافية الواحدة والوزن الواحد تتعارض مع حريّة الفنّ. على أنّ للقدماء طريقتهم، فما لنا لا نحاول أنْ تكون لنا طريقتنا … والذهن البشريّ لا يعجز عن الابتكار. وظاهر أنّ أسلوب الشاعر لا يتأثّر بالوزن والقافية ومن هنا نجد أنّ التجديد الذي أنشده لن يكون كاملاً في أسلوبه. غير أنّي سأجتهد وسع الطاقة في أنْ أُدخل على القديم ما يُلحقه بالجديد. وتلك آخر التجارب التي أعالجها من هذا القبيل. وعندئذ سأضع التّجديد، في الوزن والقافية والشّكل وفي المعاني أيضًا.” وقد جرّب وجدّد. وكان طليعة التجديد فكان له تلاميذه في الشرق والغرب من العرب من أمثال: أحمد زكي أبو شادي وجماعة “أبولّلو” وأبي القاسم الشابي والياس أبو شبكة وبشارة الخوري “الأخطل الصغير” وخليل شيبوب وسعيد عقل، الذي اعترف لمطران بأستاذيته فخاطبه قائلاً: “مُلْكٌ لك العَصْر، ذاكَ القَصْرُ ترصفُهُ/ذكراك. رُبَّةَ أمسٍ ضَجَّ فيه غَـدُ/…/مُعلِّمي أنْتَ فـي الحريَّتَيْنِ: هـوى/العُلى، وعَصْفيَ بالثُوَّار إن بَرَدوا”. وفي المُهاجَر الشماليّ: إيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران، وفي المُهَاجَر الجنوبيّ فوزي المعلوف، وأضرابهم …

وفي التجديد، وعلى الفنّ أن يجدّد دائمًا، إن يكون في مشاهدة مع الطبيعة والكون، والأدب فنّ! يقول كاتب السّطور هذه: “الأدب (والشّعْر منه، وهو واحد الفنون الجميلة) هو التعبير عن النّفس البشريّة بأسلوب فنيّ جميل خالد، والفنّ هو السموّ بالطبيعة إلى ما فوق الطّبيعة (أي المشادّة)، والجمال هو اقتراب الشّيء من مثاله الأعلى، (أي الخالق، والشّاعر خلاّق) والخلود صفة البقاء والديمومة … والشاعر، قلت: خلاّق هو أي مبدع، فالتجديد مراحل انتقال من التقليد إلى البدع والابتكار والاختراع والابتداع، والشعر الفنّ، هو عقل، وعليه ليكون خلاّقًا مبدعًا، أنْ يخالف الطبيعة، ومن هنا قول جبران: “أنا خالق أشكال” فالشّعر فنّ وقَوْل فيه عقل ووجدان وعاطفة وخيال. وخليل من هذا القبيل شاعر مخالف لما كان قبلاً مجدّد لما هو واجب أن يكون. ولذا قال في مقدمة ديوانه: “… وليس أكثر شعري بين الطرس والمداد إلا مدامع ذرفتها، وزفرات صعّدتها، وقطع من الحياة بدّدتها، ثم نظمتها فتوهمت أنّني استعدتها وقد عرض لي أنْ أبقيت في هذا الديوان خليطًا من المذهب القديم (أي شعر الصِّبا، والتقليد) ولكنّني لم أفعل إلاّ وقد طاوعت ضميري وسايرت اعتقادي فيما هو جدير بالبقاء على الدهر”. وهكذا كانت نزعته إلى التجديد والابتداع، فخطَّ نهج الوجدانية – الرومنسية في الشعر الجديد– الحديث، وحدَّد مسارها عند العرب وخطوطها، وأعلن بيانها في قصيدته الشهيرة “المساء” وغيرها من شعره الجديد غير التقليدي وغير شعر المناسبات عنده وهو كثير، فكان زعيم طليعة التجديد ذي الثقافة العربيّة الأدبيّة – الشعريّة المبدعة، والأصالة اللغوية الكلاسيكيّة. وما تنازل عنها، وقد ثقف اللغة الفرنسيّة والانكليزيّة وأجادهما لكنّه كان مبرّزًا في اللغة الفصحى الكلاسيكيّة لذلك، قال “مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة وعدم التفريط في شيء منها إلاّ ما فاتني علمه” (مقدمة ديوانه). ومع هذا جدّد في القصيدة العربيّة، فجعلها ذات وحدة في البناء والموضوع وفي جملة القصيدة في تركيبها “في تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كلّ ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحرّ وتحرّي دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر”. وقد أفاد مما عند الفرنجة في هذه النكتة، (والنكتة هي هنا: مسألة دقيقة أُخرجت بدقة نظر وإمعان فِكْر، والجملة اللطيفة التي تؤثّر في النَّفس انبساطًا”.

كان قيدومهم

وإذا كان مطران واحد ثلاثة قام الشعر (أقلّه) في النصف الأوّل من القرن العشرين على أعمالهم، وهم: مطران وشوقي وحافظ. وكان مطران قيدومهم، وكان ثائرًا على القديم، ناهضًا إلى الحديث، حريصًا أنْ يلائم بين شعره وشعر العصر، وله مذهب في جمال الشعر، مذهب يمثل شيئًا من المثل الأعلى الفنيّ في الشّعر إلى عصره. فقد كان الوحيد بين زملائه الشعراء الذي وجد الشجاعة في نفسه على تقديم شعره إلى القرَّاء. وفق كلام لعميد الأدب العربي طه حسين [راجع كتابه حافظ وشوقي].

وإذا كان مطران قد تثقّف بالثقافة العربيّة الكلاسيكيّة وأجاد لغتها بشكل لافت بين شعراء عصره، وإذ كان لقراءته التراث العربيّ القديم أثرٌ فيه، ماحقّق له باعًا في تضلّعه من العربية قواعدًا وهمًا في كمال الأعمال والأصالة في شعره، حتى في شِعْر المناسبات والإخوانيات والمراثي … كان للمتنيّ أيضًا، وابن الروميّ، وابن الفارض، وابي تمّام، والقرآن الكريم آثار في قراءاته ومطالعاته وشعره هذا في العربيّة، زد على هذا عنترة أيضًا.

وإذ يؤخذ بالثقافة الفرنسيّة ولغتها وآدابها، فيكون له أساتذة فيها أمثال: ألفرد دي موسّيه وﭭكتور هوجو وألفونس دي لامارتين وألفرد دي ﭭيني، ممّا سهّل له الطريق وفتح له أبواب الرومنسيّة الغربيّة ولا سيما الإفرنسيّة لينهد لها في الشّعْر العربيّ الحديث والمعاصر فكانت ثورته التجديديّة في شِعْر الطبيعة، وفي الموضوعات الشعريّة، والثروة اللغويّة، والعروض: تفاعيل وإيقاعًا وقوافيّ وتنوعًا وتجديدًا على تقليد، ثم في الصورة الشعريّة وسياق النصّ الشعْريّ. ثم كان مُوجدَ الشعر القصصيّ في الشعر العربيّ الحديث. وهو بدع أصيل وفريد في شِعْر العرب حديثًا ولعل ذلك متبدٍّ في مطولاته وقصائده الطويلة، وأشهرها: “النيرونيّة” و”مصرع بزرجمهر”. وإذا كان شِعْره الوجدانيّ تجسيدًا للمشاعر الانسانيّة والنّفس البشريّة وتبادل الشعور بينه وبين الطبيعة والأشياء الجامدة على طريقة “لامارتين” الشاعر الفرنسيّ في قوله: “أيّتها الأشياء الجامدة الفاقدة الحياة، هل لك أرواح تتّصل بأرواحنا، ولها قوّة المحبة كمحبّتنا؟” حتى قال في قصيدته “المساء” وقد شاهد غروب الشمس، كأنها دمعة الكون في حالٍ نفسيّة كئيبة نادبة: “فكأن آخر دمعة للكون قد/مُزجتْ بآخر أدمعي لرثائي/وكأنّني آنست يومي زائلاً/فرايتُ في المرآة كيف مسائي”. فقد كان رائد الشِّعْر الموضوعي الحديث في اللغة العربيّة، وذلك بفضل روائع قصائده المطوّلة في القصص الذي يمزج بين الوصف والدراما والتصوير.

وإلى الموضوعيَّة في الشِّعْر، لم يخرج مطران من أجواء الآلام والأحزان والذكريات والوجدان، وصدمة الحُبّ واخفاق الأماني، ونزعة اليأس والتّشاؤم، فكانت حياته شبه مأساة ولا سيما بعد أن أخفق في تجارته، وقد كان عاملاً في حقل المال والتجارة فخسر ثروته بعد غِنىً، فكانت قصيدته “الأسد الباكي”، ومنها هذا البيت الملحميّ: “أنا الأسد الباكي، أنا جَبَلُ الأسى/أنا الرَّمسُ يمشي داميًا فوق أرماسِ”.

رجل اجتماع ووطنيّة وإنسانيّة

وكان مطران رجل اجتماع وسياسة ووطنيّة وإنسانيّة وقوميّة، وأشد ما كان يقلقه قضيّة الحريّة ولا سيّما حريّة الصحافة والتّعبير. فهو ما جامل حاكمًا، ولا قَبِلَ مناصب، ولا هادن ظالمًا ولا عنا لمستعمر أو طاغٍ. وإلى ذلك كان من دعاة حقوق المرأة وإنصافها .. وقد آلمه الظلم والطغيان ليس في وطنه وبلاده العربيَّة بل في العالم كلّه، فكانت له قصائد في الدّفاع عن حقوق المواطنين والبشر. لذلك ناهض السلطة العثمانية – في زمانه – ودولتها، وقصائده في الدفاع عن الناس، تقع تحت اسم “الطغاة” أو سَمِّها: “حقد الأحرار على الظالمين”. وكأن مطران يدعو شعوب العالم إلى الانتفاضة في وجوه الظالمين العتاة. هذه الدعوة تتلخّص ببيته الشهير: “شيّدوا تاريخكم من نقض ما/شاده في أزل الدهر الطغاة”. لذا لقّب مطران بـ “شاعر الحريّة” وله في الحريّة قصيدة عنوانها: “تحيَّة الحريَّة” ومنها: “حُيِّيتِ خير تحيَّهْ/يا أُختَ شمس البريَّهْ/حُيِّيت يـا حريَّهْ/الشمس للأشباحِ/وأنــتِ للأرواحِ/كالشّمسِ يا حريَّهْ”.

وهو إلى نزعته الإنسانيّة كان قوميًّا عربيًّا، ولبنانيًّا مخلصًا لوطنه لبنان ولمصر. ولنا في قصائده خير شاهد، منها: “قصيدته في زحلة”، و”قلعة بعلبك” والمجاعة في لبنان وغيرها … ولذلك أيضًا صرف همّه إلى اللغة العربيّة وآدابها وأوطانها ويقينه أنّ علينا التعلُّق بلغتنا الأمّ، ومن واجبنا القوميّ والحضاريّ اتقان لغة ثانية أو غير لغة إلى جانب لغتنا الأمّ، وهو كان كذلك! ونلفت هنا، إلى أنّ مطران إلى جانب حفاظه على أصول الشِّعْر العربيّ وأصول التجديد، كتب الشعر المرسل ولا سيما في ترجماته والشِّعْر الحرّ أو الشعر المنثور؛ كما في قصيدته: “كلمات أسف” التي ألقاها في حفلة تأبين أستاذه الشيخ ابراهيم اليازجي. هذا الشاعر الذي أكتب عنه لبنانيّ: وأنا لبنانيّ. ولكنّني أترك القول للمصريّ الدكتور محمد مندور: هناك عملاق في الشعر العربي الحديث “هذا العملاق هو خليل مطران. [و] عبقرية مطران لم يتبدّد أريجها سدًى، بل لعلّ تلك العبقرية هي التي كانت نقطة البدء في تطوّر الشّعْر العربيّ الحديث، وتنوّع فنونه وتجديد معانيه واتجاهاته … وهو عَلَم وحده بحسب قول لعباس محمود العقاد”.

صورة نادرة من العام 1945 للرئيس اللبناني الأسبق الشيخ بشارة الخوري خلال تقليده مطران وسام الاستحقاق اللبناني المذهب من رتبة "كومندور"
صورة نادرة من العام 1945 للرئيس اللبناني الأسبق الشيخ بشارة الخوري خلال تقليده مطران وسام الاستحقاق اللبناني المذهب من رتبة “كومندور”

من هو الخليل؟

هو خليل بن عبدو مطران الوجيه البعلبكيّ الثريّ المحتفظ بالتقاليد الموروثة، رجل التجارة الذي اضطهده العثمانيون وفرقوا شمل عائلته. وأمّه ملكة صباغ الفلسطينة الأصل وبنت عائلة كريمة. ولد في بعلبكّ المدينة التاريخيّة اللبنانيّة العظيمة. وقد اختُلِفَ في تاريخ ولادته، ولكن المتداول بين الباحثين قد رسا على أنّ الخليل قد ولد في أوّل تموز من العام 1872، وتوفّي في 30 حزيران من العام 1949. فيكون قد عاش 77 سنة. تتحدّر عائلته من قبيلة عربيّة أصيلة نصرانيّة هي “الغساسنة” وقد اتّخذت المسيحيَّة دينًا والأرثوذكسية مذهبًا فالكاثوليكيّة فيما بعد. عاش في بعلبكّ طفولته وصباه، بين أحضان رياضها وغياضها وآثارها. وتلقى علومه الأولى على والده، ثم في “المدرسة الشرقيّة” للروم الكاثوليك في زحلة، ثم التحق “بالكليّة البطريركيّة” في بيروت وتتلمذ على أساتذة كبار أمثال: الشيخ ابراهيم اليازجيّ والشيخ خليل اليازجيّ وسليم تقلا مُؤسّس جريدة الأهرام في مصر. تخرّج في الكليّة البطريركيّة وله من العمر 17 سنة، وأتقن العربيّة والفرنسيّة، ثم الانكليزيّة.

شرع يقرض الشِّعْر في سنّ مبكرة، نظم قصائد ثورية ضد المستعمر التركي وهي غُفْل من التوقيع، فاكتشف أمره وطاردته السلطات العثمانيّة، حتى أرسلت من أطلق النار عليه ليلاً في سريره، في محلة الأشرفية في بيروت، ولكنه لم يكن هناك، مما اضطره لمغادرة وطنه فيمّم شطر الاسكندرية فباريس موئل الأحرار، ولاحقته السلطات العثمانيّة في باريس فقفل إلى الاسكندرية، عاملاً في جريدة الأهرام. وكان قد عزم على السفر إلى التشيلي أو البرازيل لمتابعة خدمة وطنه. وفي باريس ثقف الحضارة الفرنسية وآدابها. وفي العام 1889، زار وطنه لبنان وزار مسقط رأسه بعلبكّ وفيها نظم قصيدته “قلعة بعلبك”.

أنشأ المجلة المصريّة العام 1900، وكانت تهتم بالآداب والفنون والشعر والنقد، لم تعش طويلاً. ثم أنشأ في العام 1903 “الجوائب المصريّة” وهي جريدة سياسيّة. وفي العام 1908 نشر الجزء الأوّل من ديوانه. اهتم بالمسرح وبالموسيقى وتولّى إدارة الفرقة القوميّة للتمثيل العربي في مصر، ورأس جمعيّة “أبو لّلو” الأدبيّة، بعد وفاة أحمد شوقي …

اتّصف بنبل الأخلاق والفضل والمحبّة والوفاء على تهذيب نفس وقواعد عُليا في أخلاق وتربيتها، فكان صديق أصحابه ومعارفه وقد أجمعوا على الاعتراف بذكائه وعبقريته والثّقة به. وأقيمت له عدة حفلات تكريميّة في مصر ولبنان والأقطار العربيّة، حيث لُقّب بـ “شاعر القطرَيْن” (أي مصر ولبنان) وقبل وفاته بسنتين، أي في العام 1947 يوم السبت 29 آذار وفي دار الأوبرا في القاهرة أُقيمت له حفلة كبرى هي مهرجان دام تسعة أيّام حيث تبارى شعراء عصره في مدحه وتكريمه. فأُطلق عليه آنذاك لقب “شاعر الأقطار العربيّة”. وقد مثّل لبنان مندوبًا إلى ذلك المهرجان شاعر الأرز شبلي الملاط الذي قال فيه: “أنتَ يا صاحبي “الأمير” علينا/جُنِّدَتْ في صفائك الأمراءُ”. وإذ تعذّر حضور عميد الأدب العربيّ طه حسين المهرجانَ، فأرسل إلى الخليل رسالة، وممّا جاء فيها: “… إنّك زعيم الشّعر العربيّ المعاصر، وأستاذ الشّعراء العرب المعاصرين لا يُستثنى منهم أحد، ولا يفرّق منهم بين المقلّدين والمجددين. وإنما يسميهم جميعًا باسمائهم غير متحفّظ و لا متردّد …”

“وأنتَ علّمت أولئك أنَّ للغة أصولاً يجب أنْ تبقى، وحرمات يجب أنْ تُرعى، وحقوقًا لا ينبغي أنْ تضيع، وأنّ للحياة روحًا يجب أنْ تجري فيما ينتّج الكُتّاب من النّثر، وأنْ تسري فيما يقرض الشّعراء من الشِّعْر، وأنّ القصد هو ملاك الفنّ، وقوام أمره، لا في الأدب وحده، بل في الفنّ كلّه، بل في الحياة كلّها”.

وكلمات طه حسين هذه تؤكد قول مطران عن نفسه، وقد هذّبها وثقّفها وضبطها، فكان مفتاح شخصيّته. قال مطران في عدد مجلة “المقتطف” الصادر في حزيران “يونيو” من العام 1939: في المعاودة وحدها تاريخ تكوّن شخصيّتي، فقد كان هناك عاملان يفعلان في نفسي: شدّة الحساسيّة ومحاسبة النّفس، ومن هذين العاملين خلصت بتكوين نفسيٍّ على نمط خاص”.

مؤلفات مطران

ترك خليل مطران مؤلَّفات ثرّة: ديوانه، في أربعة أجزاء، مرآة الأيّام في ملخّص التاريخ العام، جزآن، الموجز في علم الاقتصاد، 5 أجزاء (ترجمة بالاشتراك مع حافظ ابراهيم)، التاريخ العام، ستة أجزاء، إلى الشباب، الإرادة، مجموعة فصول في أدب النّفس، الفلاح: حالته الاقتصادية والاجتماعية، (مصر، 1936)… وترجمات لشكسبير: تاجر البندقية، عطيل، هملت، مكبث. … وترجمات: السِّيد (Le Cid) لكورناي، سنّا، بوليكوت، هرناني، لڤكتور هوجو، الغريبة، لپول بورجيه. … وبشاره تقلا، أقوال الجرائد، مراثي الشعراء،  مختارات من أقواله، (مصر، 1902)، مراثي الشعراء في رثاء محمود باشا سامي البارودي، (مصر، 1905)، صدى الرثاء، في سليم بك صحناوي، (مصر، 1908). وكان مّما قاله في آخر حياته: “ماذا يريد الشّعْر منّي      /أخنى عليه علوُّ سنّي/هـل كـان مـا ذهَبَـتْ بـه/ الأيّام من أدبي وفنّي؟/…/خمدت بيَ النّار التي/     رَفَعَتْ بعين العصر شأني/هي شعلةٌ كانت تُنير/قريحتي، وتنير ذهني ..”.

نعم، هي بعض ملامح من شاعرنا اللبنانيّ العريق والعربيّ الصليب خليل مطران، وريث الرومنسيّة الفرنسيّة، وباني صرح الرومنسيّة العربيّة، وطليعة التجديد ورائدها في الشِّعْر العربيّ الحديث ونقده الذي يصحّ فيه قول الشاعر “العباس بن الأحنف” حين صَوّر نفسه: “كنتُ كأنّي ذبالةٌ نُصِبَتْ/تضيءُ للناس وهي تحترق”. والذُّبالة: فتيلة السِّراج، وخليل مطران كان الذُّبالة، وكان المنارة!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *