رحلات ومواقف طبعت مسيرة الــ99

Views: 60

البطريرك صفير دربه كانت شائكة كما درب الحق 

حبيب شلوق

في الأسبوع الأول بعد المئة، لا بد من استذكار خطوات خارجية افتتح فيها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير رحلات الإنتشار وزار المنتشرين متفقداً، وتبادل معهم الخبز والملح،وضمّد جروح الهجرة وسكب عليهم بلسم الرجاء.

في كل دولة حاكى البطريرك أبناءه كلاً بلغته،من أبناء البقاع إلى الجنوب والجبل وبيروت وصولاً إلى الشمال. هنا هجرة بسبب الفلتان الأمني وفقدان الأمن، وهناك خوف من تجدد الإحتلالات وهنالك جفاف في فرص العمل ونشاف في الإقتصاد، وفي كل مكان فقدُ ثقةٍ وتعلقٌ بحبال الهواء.

كلُ جاليةٍ …جاليات، وكلٌ يشكو للبطريرك ، ولكل شكواه. والبطريرك خاطب الجميع وأرضى الجميع أباً لكل بيئة. (bobbergdesigns.com) والأهم أن الجاليات التي نقلت اتجاهاتها السياسية معها، ولكن أي محنة تصيب فرداً منها انما تصيب الجميع.

الأكثرية الساحقة من المهاجرين تصر على لبنان السيد الحر المستقل الذي لا شريك له في أي من هذه الثوابت،وجزء كبير من هذه الأكثرية لا تفرّق بين سلطة إحتلال وسلطة وصاية ، وجزء آخر يرى اسرائيل الشر الأكبر وجزء ثالث عانى من ممارسات سلطة الوصاية السورية وخبر هو أو أحد أنسبائه مُرّ الإعتقال والسجن والتعذيب على يديها أو يدي هذا النظام اللبناني الحليف أو ذاك.

والبطريرك جاهز لكل جواب متمنطقاً بالثوابت البطريركية الوطنية التي لا تقر بأي مس بالسيادة ولا بأي انتقاص للحرية والقرار الحر، ولا بأي شراكة في السلاح ولا في قرار الحرب والسلم، ولا بأي تفريط بالعيش المشترك ووحدة الأرض والشعب، ولا بأي نوع من أنواع الإحتلال والوصاية.

وفي الأميركتين الشمالية والوسطى، ومثلهما أميركا الجنوبية وأوروبا بكل جالياتها تركيز على الوصاية السورية وسلب القرار الوطني، وفي أفريقيا إهتمام أكبر بانسحاب قوات الإحتلال الإسرائيلي خصوصاً من قرى أبناء هذه الجاليات حتى إذا ما وصل البطريرك صفير إلى أكرا عاصمة غانا في 28 أيار 2000 بعد ثلاثة أيام على الإنسحاب الإسرائيلي، رحبت الجالية الإسلامية بــ” الوطن المحرر قادماً تحت عباءة البطريرك”.

وفي كلماته في الولايات المتحدة الدولة الأهم بين دول القرار، خاطب البطريرك المسؤولين والجالية:”لبنان حُرِم قرارُه الحر واستقلالـُه وسيادتـُه منذ ربع قرن، مما انعكس سلباً على الإقتصاد ودفع الكثير من اللبنانيين إلى الهجرة، ونأمل في مساعدة الولايات المتحدة للخروج من الأزمة التي نعانيها”.

أما سوريا فـ”نريد معها أفضل العلاقات، ولكن يا جاري أنت في دارك وأنا في داري”.

وما دامت اسرائيل عدو لبنان بمسيحييه ومسلميه محتلة لبنان، عمل البطريرك صفير لدى دول القرار للضغط عليها لتنسحب، مخففاً من حدة مواجهته مع النظام السوري حتى إذا انسحبت اسرائيل استأنف انتقاده وبعنف أكبر لـ “الوصاية السورية”، مطالبا الإدارة الأميركية خلال لقائه الرئيس بوش الإبن بعد تعثر لقائهما عام 2001 ، بالضغط لانسحاب الجيش السوري واجهزته السياسية والأمنية من لبنان. وهذا المطلب أثاره مع رؤساء فرنسا المتعاقبين فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي، ومع البابا القديس يوحنا بولس الثاني والبابا بينيديكتوس السادس عشر، وأكثر من رئيس جمهورية في إيطاليا، ثم مع ملك اسبانيا خوان كارلوس والمستشار الألماني غيرهارد شرودر والأمير فيليب ورئيس مجلس نواب أسوج ورئيس حكومة بلجيكا. وحديث صفير هنا وهناك وهنالك، وفي لقاءاته أيضاً مع الرؤساء الأميركيين رونالد ريغان (1988) وجورج بوش الأب (1999) وجورج بوش الإبن (2003 و2008)، وهو أن لا شراكة عربية أو أجنبية في قرار لبنان. وهو نقلها إلى رؤساء وملوك وأمراء ورؤساء برلمانات وحكومات في دول زارها طوال 25 عاما من روسيا إلى البرازيل والأردن والكويت وقطر وأوستراليا وجنوب أفريقيا والمكسيك والأرجنتين والأوروغواي وغيرها وغيرها.

البطريرك مار نصرالله بطرس صفير

 

كذلك كانت له مواقف جريئة وواضحة رداً على اسئلة حساسة، وفيها أن “لـ”حزب الله” عقيدته وهي تحرير جنوب لبنان من الإحتلال الإسرائيلي، وكان منطلقه سابقاً جعل لبنان جمهورية اسلامية، إنما اليوم تغيّر هذا المنطق وبدأ التركيز على التحرير”. وأضاف أن العلاقة جيدة مع أركانه وهم يزورونني وألتقيهم” (كتاب “طريق العودة”).ثم إن اللبنانيين أبناء الجنوب الذين إضطروا إلى مغادرة لبنان ودُفعوا دفعاً إلى اللجوء إلى إسرائيل “باب النجاة الوحيد” لأنهم خافوا أن ينالهم أذىً، وليس لنا أن نصنّفهم إذا كانوا عملاء أو غير عملاء، انما القضاء هو وحده الذي له الكلام”.

وأبدى البطريـــرك صفير أسفه “لأن المواطنين الذين حول لبنان ـــ بلد الستة آلاف سنة حضارة ــ يتهافتون على انتزاع الجنسية اللبنانية، فيما نأسف لأن اللبنانيين عن جنسية سواها”.

يبقى أن البطريرك كان غالباً ما يبدو في غصة عندما يتكلم عن هجرة الشباب، كذلك هي حاله عندما يتحدث عن أبناء الشريط الحدودي، ولم يتردد في إيفاد المطران مارون صادر ممثلاً عنه في مأتم المسؤولين في “جيش لبنان الجنوبي” أنطوان لحد وعقل الهاشم،على رغم كل الإنتقادات التي وصلت إلى حد التخوين.

ولكن محاولة التخوين تتكسّر عند أقدام بطريرك العنفوان الذي لا يرضى بشريك للبنان على أرضه.

وفي قانون الإنتخاب البطريرك صفير كان مع الدائرة الصغرى، “وكلما صغرت تكون الأفضل”، إذ المطلوب أن يعرف النائب ناخبيه وهم يعرفونه. أما في إلغاء الطائفية السياسية “فينبغي أن تكون في النفوس قبل النصوص”.

وصفير الذي لم يذهب إلى سوريا حتى مع صديقه الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني كذلك لم يرافقه إلى القدس، لا يعرف “أين هو قصر المهاجرين هذا”، و”ما بقا تحرز نزور سوريا” إذ كان عمره بعد الإنسحاب السوري عام 2005 ، 85 عاماً، كذلك كان يرفض الإشادة به لأنه “أقوم بواجبي تجاه القطيع”، ويواجه التقريظ به بالقول:” خصصتموني بفضائل لا أعهدها في نفسي، إنما كرم أخلاقكم أملاها عليكم”.

ودرب البطريرك صفير كما درب الحق كانت شائكة…. لكنه كان “مفكك ألغام”.

وهذه أبيات قالها صديق طفولته ورفيق عنفوانه المونسنيور فيكتور كيروز في شيكاغو عام 2001 :

يا خادمَ الربِ دربُ الحقِ شائكةٌ

فاصمد تحقق لنا الآمال والرُكبا

إن حاربوك فلا تأبهْ بحربهُمُ

فصاحب الحق لا يجزو وإن غُلبا

فقبلك رب الكون قد غُلبا.

أما الخطابة والإرتجال المدعوم بأبيات شعر قديمة ولغة عربية راسخة وذاكرة مميزة، فكانت تلهب اللقاء ويقابلها شعراء بزجليات قروية تراثية تنضح بالعاطفة.

إنه بعضٌ من بعضٍ … من بطريرك لا يموت.

… سيدي سنعود إليك في كل مرحلة ضيق…وعندما نتوق إلى حكمة …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *