جورج شامي… شلّالٌ في الأدب وعاصفةٌ في الصحافة

Views: 952

د. غالب غانم

(الرئيس الأول لمجلس القضاء الأعلى شرفًا)

     سبعةُ عقودٍ من المكابدةِ والمغامرة، وشقِّ الوعِر ومغازلةِ الصّعب، وتحصين القلم والتّحصُّنِ بهِ… سبعةُ عقودٍ من إيفاءِ نذورِ الالتزام بالموقف الحرّ، وبالأدب الخضيب، حتى لم يعد ثمّةَ مجالٌ لفكاكٍ أو طلاق… سبعةُ عقودٍ شاء فارِسُها أن يُتوّجها بتقديمِ وديعتِهِ المعرفيّة إلى جامعة الحكمة، سليلةِ أمِّ البنين وعراقةِ الضّاد وعلمِ القانون ونهجِ الانفتاح. شاءَ ذلِكَ حين تكاثرتِ الأرغفةُ وامتلأتِ الأجاجين. عادَ ابنُ الحكمة اليها حاملاً عِرفانَهُ وهداياه، ومكْتَبَتَهُ وما تغلغلَ في أوراقِها من ضوء عينيه ومن أشواقهِ وكآباتِهِ وأسفارِهِ وخلجاتِ روحه… كلٌّ ذلك وصحبةُ الكتاب ولذّةُ النصّ(Le plaisir du texte) تمرُّ بلحظاتٍ حرجة، وسُلّمُ القيم ينداحُ وينقلِبُ فينالُ من الكلمةِ ومنازِلِها… فبورِكَ مَنْ تَقبَّل هذه التقدمةَ تكريماً لواهِبها. وبورِكَ الواهبُ الذي كلّما التقيْتُهُ –وَلْيَسمحْ لي بانعطافةِ الوجدانِ هذه- يتلفّتُ القلب نحو شطرةٍ من شطراتِ القرنِ العشرين، أوانَ كانَ أخاً لأخي جورج، وموهبةً سلكتْ طريقها إلى التفتّقِ والتّفجر بعُرفِ والدي عبدالله غانم. غابتِ الوجوه عن العين، ولكنّها لم تغبْ عن الجوارح:

   وتلفَتَّتْ عيني ومُذْ خَفِيَتْ          عنّي “الوجوه” تلفّتَ القلبُ.

***

    واسعةٌ بحارُهُ …جورج شامي… عميقةٌ أغوارُهُ، متوحّشةٌ أحلامُهُ (الصفاتُ مستمدّةٌ من إحدى قصصه). وفوقَ ذلك، عصيّةٌ تخيّلاتُهُ ومشوّقةٌ أسرارُهُ. كانت ولادتُهُ، على ما جاء في أوراقه، محفوفةً بالمرارة والمشاكسة، ومعهما الغيوبُ والأحلام. صغيراً صغيراً راح يَرقُبُ نجمةَ الصبح، وأرجوحةَ الأعالي، مسجّلاً نحوهما قفزاتٍ طفوليّة على الأريكة البلديّة في المنزل البيروتي المتواضع، ثم على النّافذة المسوّرة بقضبانٍ حديديّة محاولاً الفرار باكراً من المحظور والملقّنِ تلقيناً، فلم يسلَمْ لحظةَ ذاك من لسعات حِزام الوالد… ثم بعدها من صنّارة الخالة حائكةِ الصّوف كلّما تلعثم في دروس القراءة الأولى. هذا إلى مزاولته، وهو بعدُ طريُّ العود، أعمالاً موسميّة لقّنتهُ كيف تكون اللقمةُ مبلّلةً برذاذ الشقاء، وكيفَ يتناولُ القربانةَ ريّقةً حرّةً من يدِ الحياة… من هذه الأعمال جمعُ الخِرَق في معمل كرتون، والخدمةُ في أحد محلّات باب ادريس. وحينَ بدأ يزاول مهنةَ الحريّة، نادراً ما كان جيبُه يحوي أكثر من أجرة “السّرفيس”، وأحياناً التراموي. على أيّ حال، كانَ راكبُ التراموي عصر ذاك يدفعُ خمسةَ غروش للرحلةِ الواحدة من بيروتَ إلى بيروت، ويشعُرُ بالكفافِ والراحة، ولو واقفاً، هذا إذا دفع… وهو يشعرُ بالرخاء إذا دفعَ عشرةَ غروش ليستمتعَ بالرحلةِ جالساً.

  ولمّا كان إلفُ الثقافةِ هذا من عشّاق النّدوة اللبنانية، تهيّأ للاستماع الى محاضرةِ مثلّثةِ الحلقات لأحد الأدباء الفرنسيين، ولكن الدخول اليها كان، على غير العادة، لقاء بدلٍ مقدارُهُ ليرة لبنانية عن كلّ حلقة، فأوشك أن يُغادر منكودَ الحظّ لو لم يأخذ ميشال أسمر بيده ويمكّنْه من الدخول مجّاناً بعد أن أسرّ صاحبنا في أذن مؤسس النّدوة قائلاً:

   “ليس في جيبي سوى ربع ليرة أشدّ عليه طوال الوقت خوفاً من أن يهرب.”

   هذه الطوالعُ والأحداثُ الصّغرى، والأشجان ووجوهُ الصّراع مع اليوميّ والعارض وذي الأشواك والمخالب، وقصصُ الجيوب الفارغة لدى أصحاب التمنّع والتطلّع، ولدى أرباب العصاميّة وأساتذة الكرامة، ولدى مَنْ سَكَبَتْ عليهم اليدُ العليا دِيَمَ المواهب ما شاءتِ السّكب… هذه، ومثيلاتُها، كيف ننظر اليها؟ أأوسمةٌ هي أم انكسارات؟ أأسبابٌ للانضمام إلى لائحة الشرف أم مدعاةٌ الى الخجل؟ أسحاباتٌ ماطرة تجعلُ الينابيعَ تتفجّر والعبقريّاتِ تتكشّف أم أختامٌ وسدود؟

   لكَ في هذه البدوات، وفي المآزقِ التي تبسط أفخاخها لِلَجم الانطلاق… وفي كلّ جارحةٍ أو ضِيقٍ أو استبسالٍ لصونِ إباءٍ، أو أيِّ صراعٍ مع الدنيا… لك فيها كلُّ العزّةِ يا صديقيَ الكبير. لولاها لما كانت مسيرتُكَ الشخصية والكتابية والصحافية كثيرةَ القمحِ كثيرةَ الثمر. لولاها لكانت شخوصُ قصصك تماثيلَ من رخام، ولغتُكَ الصحافية كُوَماً من عظام. لولاها لكانَ كتبَةُ السيرةِ الذّاتية أصحابَ وجوهٍ مستعارة، وأمجادٍ مستقرَضة، وبطولاتٍ مزيّفة، وأقلامٍ مفطورة على التضليل والتدجيل. ولولاها لما تلتْ قفزاتِك الطفوليّةَ خُطى وتحليقاتٌ جعلتِ النّسر يشقُّ الأفق صعوداً، ويلاعب الغمام والرّيح… فغدوتَ في إثرِ ذلكَ شلّالاً في الأدب وعاصفةً في الصحافة.

 

د. غالب غانم بعيد إلقاء كلمته في الندوة

 

***

    لِمَ الكتابةُ إن اكتفتْ بالهيّنِ ولم يُغرِها العصيّ؟ إنْ لم تعبُرْ سهلَ الشائع إلى وعر الأصيل؟ إنْ كانت ثمارها مقطوفةً مما غرسَهُ سواك؟ لمَ الكتابة التي لا ترصُدُ كنزاً، ولا تشقّ درباً، ولا “تشجّ صخراً”، ولا تكشف سرّاً أو تخفي سرّاً آخر؟ لمَ الكتابةُ التي تكتفي بإسناد الظهر الى جدران المذاهب وسدود الثقافات وسواعد العبقريّات؟ لمَ الكتابةُ المقروءةُ سلفاً، والمنبوذةُ سلفاً، والساقطةُ سلفاً؟ لمَ الكتابةُ إنْ لم تنتمِ إليك… إلى ضوء عينيك وحَرِّ قلبكَ وخيبةِ أمانيك وتوتّرِ أعصابك وجموحِ خيالك وغربة وطنِكَ وأوتارِ عودِكَ وراياتِ حرّيتك؟

منذ أضاميمِ قصصه الأولى خرج جورج شامي عن اللونِ المحلّي، وعن النّمَطِ المُحلَّى. كانت الطريقُ معبّدةً فعادتْ الى حالتها البكر. وجَّهَ ريشته إلى الديار المحرّمة والكنوز المرصودة ليتحدّى الراهنَ ويُفجّرَ الكامن. جعلَ الجنس، مَرّاتٍ ومرّات، يطغى على الحبّ، والنّدمَ على الغفران، والسخريةَ على الإجلال، والشيطانَ على الملاك. آخى ما بين طقوسِ الماء وأعراس الدم. ضيّقَ الهوّة ما بين الحلم والواقع. مجّدَ البطولة واحتقرَ بعضَ مآتيها. ولكنّه، وهو المتضلّع من العربية منذ مدرسة مار مارون على يد النسيب بديع غانم، حتى مدرسة الحكمة على يد حبيبَيْ الضّاد حسيب عبدالساتر وبطرس البستاني، وازنَ بين لغتين: العربيّة التي صانَ عهودها ونادمَ بيانها وزار خزائنها المرمرية، والشّامية (نسبة اليه) التي جعلَ منها نقيضاً للأولى، فصاغها بالعاصفِ والحارقِ والرّافضِ والحادّ والنّاقمِ والمتأجّجِ والمنفرِّ واللامبالي، وعلى الأخصّ بالصادقِ والنّاطقِ على سجيّتهِ… إلى أن هدأ الجيشان، واستعاد الاتّصال بالينابيع الأولى، فراح يرتّل صلاةً من هنا، ويتناهى لياناً أمام ربّاتِ الحسن من هناك، ويُطلقُ مزموراً من مزامير الوله بلبنان من هنا وهناك، مثيلَ ما جاء على لسان إحدى بطلات قصصه:

   “أيّها الأبطال، هذا فستانيَ الأبيضُ قد لبستُهُ

    اتخذوني مع حبيبي إلى ظلّ سنديانة،

    لنصبحَ معاً حبّةً من تراب لبنان…

    ما أغلى ترابكَ يا لبنان، ما أطيب عُرفَك!

   أيّها المُثخن بالجراح، بشَعري سأمسحُ جراحاتك.

   أيّها المعذّب المتألّم، بقوّتي سأرفع عنكَ كأسَ العذاب…

                                      (من أبعاد بلا وطن)

***

    إنّ مَنْ تمرَّسَ بحريّةِ الأدب طوالَ ستّةِ عقود، ملأ العقودَ ذاتها بحضورٍ صحافيٍّ مضمّخٍ بأنفاس الحريّة ونشواتها وأثمانها. في الوطن وخارجَهُ. من المهمّاتِ الأصغرِ الى المسؤوليّات الأخطر. من زمن صفّ الأحرف والدواليب الى زمن الكومبيوتر والأعاجيب. في طفرةِ الصحافة الورقية وقبل بلوغها الوشيك الاضمحلالَ أو المُحال. للصيّفِ والضّيف وغَدْراتِ الزمان… تصحيحاً وثقافةً وسياسةً وحوارات، “ولملمةَ” أخبار ومواجهةَ مخبرين، وأسفاراً وإقاماتٍ في قلبِ الحدث، وأسبقيّاتٍ وافتتاحيّاتٍ ونجاوى ورؤىً، وأعياداً ومآتم… و”نهاراً ” و “حياةً ” وما اليهِما من الخُبزِ اليوميّ، وكامل مروّة وغسّان تويني وسواهما من قادةِ الرأيِ وحملةِ المشاعل… إنّ جوّاب الآفاق هذا، أَخَذ من أحقاقِ الأدب بمقدار رشّهُ على لغةِ الصحافة فابتلّتْ أحرُفُها ولم تَغرقْ. وأخذ من أصول الصحافةِ بمقدار نثَرَهُ في لغةِ الأدب فاتّسقت نبراتُهُ ولم تتكبّلْ.

   في أقصوصة “عَبَث” من مجموعة “قديشات آلوهو” ذاتِ العنوان العبثي أيضاً، يلتقي صحافيٌّ أديب في الطّائرة سيّدةً تُهيّئ في باريس أطروحة دكتوراه عن “مشاعر العبَث عند همنغواي”، ويدور بين الغريبين حوار ذكيّ يدلّ على أنّ لصاحبه يداً طيّعة في خلطِ الأسلوب الصحافي بالأسلوب الأدبي، تشهَدُ على ذلك نهايتُهُ العبثيّة التي خلطت الأمسَ باليوم، واللقاءً بالوداع، والأزرقَ الفيروزيّ باللوزيِّ الغامق:

   “ولمَحَ وحيد لونَ عينيها يتبدّل. حَوَلُ الحُسنِ يتحرّك في البؤبؤين ويتغيّر لونُ اليمنى أزرقَ فيروزيّاً، ولونُ اليسرى لوزيّاً غامقاً. وحارَ في أمرهِ. صادفَ مرّاتٍ هِرَرَةً بعينين مختلفتي اللون. أيُّهما كانَ لونُ الحيرة؟ أيُّهما كانَ لونُ الدهشة؟ أيُّهما كان لونُ الفراق؟ أيُّهما كان لونُ الوداع؟

  وتراءى اليه في العينِ اللّوزيّة الغامقة إمرأة أخرى غاضبة تأتي إليه على أجنحةٍ لم يكن ينتظرُها. أجنحةُ الزمن الذي مضى.”

***

  ويا أخي الكبير

  من وحيِ العنوانِ المعطى للندوة التي تجمعنا السّاعةَ، تذكّرت أنّني، على غِرارك، جُرِّبتُ باقتحامِ ميدانين، وبالتوفيقِ بين أسلوبين، وبتوقيعِ الترجّح بين حصاني القانونِ والأدب كما يوقّع العوّاد وتراً عتيّاً مع وترٍ شجيّ. كما يتركُ الكرّام زاويةً تنمو فيها زنبقةُ البراري. ولأجل ذلك، صحّ لي أن أدخلَ إلى ثنائيّةِ عالمكَ بتجربةِ العارف، لا ببصيرة القارئ وحدها. وإذْ لم أستسِغْ يوماً قولةَ مَنْ قال لقاضٍ خاضَ ميدان الكتابة، إنّه قاضي الأدباء وأديبُ القضاة، ما يعني أنّه ليس قاضياً ولا أديباً… إذ أُبْدي بالغَ التحفّظ في مواجهةِ هذا النوع من أنواع التصنيف الخالي من روحِ النقد ومن جوهرةِ العُمق…أختمُ قائلاً إنّك لم تَكُنْ أديبَ الصحافيين وصِحافيَّ الأُدباء. كنت، كما سبق البيان، شلّالاً في الأدب، وعاصفةً في الصحافة.

****

(*) ألقيت في ندوة بعنوان “جورج شامي الصحافي والروائي”، الخميس 30/5/2019، جامعة الحكمة، بمناسبة تقديم مكتبة المحتفى به الى جامعة الحكمة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *