دوافع سياسية وراء التحقيق مع طه حسين

Views: 1189

مصر- حمدي البطران

طه حسين هو عميد الأدب العربي الحديث بلا منازع. كما أنه رجل صاحب فكر، وباحث حاول أن يفكر بحرية. غير أن الرجل تعرض لمحنة قاسية في مصر عام 1927بسبب كتابه ” في الشعر الجاهلي ” وأحيل الرجل للتحقيق أمام النيابة العامة. وفي النهاية حفظت النيابة العامة التحقيق. وأصبح المستشار محمد نور رئيس النيابة العامة الذي قام بحفظ التحقيق علما، ودخل التاريخ باعتباره صاحب قرار الحفظ لأشهر قضية ثقافية في تلك الفترة. ووصفته بعض الأقلام بأنه رجل القضاء المستنير.

غير أن الأمر لم يكن كذلك. ولم يكن محمد نور رجل قضاء مستنيرًا. ولكنه يمكن أن نطلق عليه رجل قضاء محترفًا.

كما أن قرار الحفظ لم يتخذه الرجل من تلقاء نفسه. ولكن القرار أملي عليه. طبقا للمبدأ المعروف في قانون الإجراءات الجنائية وهو التبعية التدريجية لرجال النيابة العامة. ومعناه أن رجال النيابة العامة يتبعون رؤساءهم. وأن الحالة الوحيدة التي يكون فيها رجل النيابة حرا في رأيه هي عندما يترافع أمام المحكمة فإنه يترافع فقط طبقا لما يمليه عليه ضميره. 

في بداية عام 1927تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف بشكواه إلى النائب العمومي مباشرة ضد الدكتور طه حسين الأديب المعروف وأستاذ الجامعة بأنه ألف كتابًا ونشره علي الجمهور باسم ” في الشعر الجاهلي ” ، وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب إليه الخرافة والكذب.

كما تقدم أيضا عضو مجلس النواب عبد الحميد البنان أفندي ببلاغ الى شيخ الأزهر الشريف ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع، وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية، كتابا أسماه (في الشعر الجاهلي) فيه طعن وتعدٍ على الدين الإسلامي، وهو دين الدولة بعبارات صريحة واردة تفصيلا في كتابه المذكور.

على الفور أرسل فضيلة شيخ الأزهر إلى النيابة العمومية تقريرا عن كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي مرفوع إليه من بعض علماء الأزهر الشريف.

وجاء في بلاغ شيخ الأزهر “أن المؤلف كذب في كتابه القرآن الكريم صراحة، وطعن فيه علي النبي صلي الله عليه وسلم، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين، وأتى بما يخل بالنظم العامة، ويدعوا الناس للفوضى”. وطلب شيخ الأزهر في نهاية تقريره  اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديم المؤلف للمحاكمة.

وفي تقرير كتبه رئيس القلم السياسي (البوليس السياسي) إلى الملك فؤاد في أول نوفمبر عام 1926 عن نفس الواقعة جاء فيه ما يلي:       

  • علمنا أمس حوالى الساعة العاشرة صباحا بعزم طلبة الأزهر، ومنهم الشيخ الفقي والشيخ محمد الأسمر على عمل مظاهرة والمناداة بسقوط الشيخ طه حسين، وقال الشيخ محمد الأسمر : سيروا بنا أيها الطلبة نحو المشهد الحسيني لنعلن هناك غضبتنا على الملحدين، لأن المولد يجمع كثيرا من طبقات المصريين، فصفق له الحاضرون، وحبذوا فكرته وخرجوا جميعا قاصدين هذه الجهة، وعند خروجهم قاصدين هذه الجهة هتفوا قائلين : ليسقط طه حسين [[1]] .

وبعدها مثل الدكتور طه حسين للتحقيق أمام النيابة العمومية.

ومع الخوف من نتيجة التحقيق وتأثيرها على مستقبل طه حسين الوظيفي في الجامعة، تلقى الدكتور طه حسين نصيحة من هيئة الدفاع عنه، والتي كان يرأسها عبد العزيز باشا فهمي بألا يجيب على أي سؤال للنيابة، وأن تكون إجابته دائما، لا أعرف.

وهي النصيحة التي سار عليها الدكتور طه حسين في أول التحقيق، ويبدو أنه أحس أن كرامته كأستاذ في الجامعة، ومكانته العلمية لا تسمحان له بأن يقف صامتا أمام محقق قرأ كتابه جيدا، واستعان بمراجع علمية قبل أن يبدأ التحقيق، وتسلح باتهامات تحط من أستاذيته وتتهمه بعدم الدقة.

لم يجد طه حسين مفرا من الإجابة على الأسئلة التي تقلل من شانه كباحث، وبدأ يرد على الأسئلة مضطرا لمجاراة المحقق.

كان المحقق الأستاذ محمد نور رئيس النيابة عنيفا أثناء التحقيق مع الدكتور طه حسين. وقد فند المحقق كتاب “في الشعر الجاهلي”، واتهم الدكتور طه حسين بالتناقض وعدم دقة البحث، وهو ما يتعارض مع اعتزاز الدكتور طه حسين بشخصيته وقدراته العلمية.

 وفي النهاية أصدر المحقق قراره بحفظ التحقيق.

ولم يكن قرار الحفظ الذي اتخذه رئيس النيابة نتيجة منطقية للمذكرة التي أعدها للتعقيب على التحقيق الذي أجراه.

المذكرة في مضمونها وتسلسلها المنطقي تعتبر مذكرة إدانة.

فالمذكرة لو نزعنا منها الأسطر الأخيرة التي تحتوي على قرار النيابة، نجد أنها تصلح بذاتها وبنفس عباراتها أيضا لطلب قرار الإحالة الى المحاكمة. فهي تحتوي في طياتها على أدلة الثبوت والأسانيد التي استند اليها المحقق. مما يدل على نية المحقق المسبقة من الإدانة بدلا من الحفظ.

ولم يذكر التاريخ أنه كانت هناك عوامل سياسية، وقوى متعارضة، وأحزاب متربصة. كلها تدخلت لتغيير مسار التحقيق من الإحالة الي المحاكمة إلى مجرد حفظ الأوراق [[2]].

فقد كان هناك نزاع ما بين حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين الذي ينتمي إليه الدكتور طه حسين، كانت الوزارة وقتها ائتلافية، وكان عدلي يكن رئيس حزب الأحرار الدستوريين هو رئيس الوزراء، وكان سعد زغلول رئيس حزب الوفد رئيسا لمجلس النواب، وقاد النائب عبد الحميد البنان نائب حي الجمالية ثورة نواب البرلمان داخل المجلس مطالبين بضرورة محاكمة طه حسين.

وتصاعدت الأزمة وبلغت ذروتها، وعندها هدد رئيس مجلس النواب سعد زغلول صراحة بطرح الثقة بالوزارة إذا ما تقدم المجلس بطلب للنائب العام بالتحقيق في الكتاب الذي ألفه طه حسين، ورفعت الجلسة دون الوصول إلى حل للمشكلة، وبعدها تواصلت الاجتماعات في بيت الأمة بين سعد زغلول وعدلي يكن، وتم الاتفاق على أن يتقدم النائب بشكوى شخصية للنيابة العامة، وأن تحقق النيابة في الموضوع وبعدها يحفظ التحقيق حفاظا على الائتلاف الوزاري.

أي أن الأمر لم يكن حفاظا على حرية الرأي والتعبير، ولكنها كانت صفقة اتفق عليها الطرفان حتى لا ينهار البنيان الوزاري المؤتلف الذي لم نعرفه اليوم بعد ثمانين عاما في ظل أحزاب هشة لا تقوي على المنافسة.

أي أن الأمر على خلاف ما سجلته أقلام البعض من أن رئيس النيابة محمد نور حفظ التحقيق حفاظا على حرية البحث العلمي كما يقولون، ولكنها تعليمات تلقاها ونفذها الرجل على خلاف ما كان ينوي في مذكرته التي تشهد بنيته المسبقة في الإدانة.

ولولا هذا الاتفاق السياسي الذي تم بين حزبي الوفد والأحرار الدستوريين لدخل طه حسين السجن وفصل من وظيفته بسبب تلك الشكاوى.

وجاء في قرار الحفظ “وحيث أنه مما تقدم يتّضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواقع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي ومع اعتقاده أن بحثه يقتضيها. وحيث أنه بناء على ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر فلذلك تحفظ الأوراق إداريا”ً.    
ورغم وقوف النيابة العامة في قرارها إلى جانبه، إلا أن طه حسين بكبريائه المعروفة قدم استقالته من الجامعة احتجاجاً على بعض الألفاظ التي وردت في قرار النيابة، والتي اعتبرها طه حسين ماسة بكرامته العلميّة.

كما أن الكتاب لم يصادر فعلاً، وإنما اكتفت الجامعة بأن اشترت من السوق النسخ التي كانت معروضة.

وترى السيدة سوزان زوجة الدكتور طه حسين: أن ما حدث له أرهقه. ولم يكن الدكتور طه حسين قادرا على فهم هذه الأحكام البليدة، وهذا التحيز الأخرق، وهذا الحقد الحاسد، وهذا الرياء، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي اقتياده إلى النيابة، بعد أن صادروا كتابه والحملات القاسية في الصحافة، والشتائم، والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا، أمام باب الحديقة خلال عدة اشهر”.

كل هذه الأحداث كانت تذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيرا. وخلال هذه المحنة القاسية، ظل بعض الأصدقاء أوفياء لطه حسين ولم يبخلوا عليه بدعمهم المعنوي ولا بتضامنهم الصريح والواضح، بين هؤلاء لطفي السيد الذي تتحدث عنه السيدة سوزان بكل احترام ومحبة.

وبسبب أفكاره التحررية عوقب طه حسين وتعرض لمحنة ثانية في ربيع عام 1932 والتي أسمتها زوجته السيدة سوزان بسنة المجاعة.

 فقد فصل من عمله كأستاذ بالجامعة بسبب أفكاره ومواقفه التحررية. وفي هذه المرة كان أعداؤه متربصون به، ويرغبون في سحقه حقا، حسب تعبير السيدة سوزان التي تضيف قائلة: “لم يكتفوا ـ أي الأعداء ـ هذه المرة بطرده من الكلية التي كان عنوانا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا أيضا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه وأغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبإنذارالهيئات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضا للعمل”.
دامت هذه المحنة الجديدة حتى عام 1934. 

وكانت المقاطعة تامة من جانب اغلب المؤسسات الجامعية والصحافية. وحدها الجامعة الاميركية تجرأت ودعت طه حسين لإلقاء بعض المحاضرات التي لاقت إعجاب الشباب المتحمس لأفكاره [[3]] .

 ****

[1] – جريدة الأهالي العدد 1258 في 14 ديسمبر 2005. مقال نبيل ذكي

[2] – الدكتور عبد العظيم أنيس. مقال بمجلة الهلال عدد فبراير 1992

[3] – معك . تأليف  سوزان طه حسين، ترجمة بدر الدين عرودكي، دار المعارف 1982              

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *