خليل حاوي… النايُ والرِّيح

Views: 84

د. جورج شبلي

( بمناسبة إزاحة السّتار عن تمثالٍ له في 31 آب 2019 )

عندما أُصيبَ الشّعرُ فجأةً برَعشة، كانَت ولادةُ القصيدةِ الأولى من رَحِمِ عبقريّةِ خليل حاوي، هذا الذي انتقلَ من مِهنة ِبناءِ الحَجَرِ الى احترافِ بِناء الجَمال .والجمالُ معه

لم يكن بسيطاً أو عارِضاً، بل كانَت قَولبتُه مُعَقَّدةً أنيقةً ومُنضَبِطةً بمعاييرِالقِيَم، هذه

التي اكتُنِزَت في شخصِ حاوي وتَفَلَّتَت في شعرِه، تُساهمُ في صياغةِ الجمالِ المُطلَق .

الجَمالُ مع حاوي مظلوم، لأنّه لم يُترَكْ على طبيعتِه، فالشاعرُ مُتَسَلِّطٌومُتَشَدِّدٌلم يعقدْ صُلحاً مع الجمال، فهو يريدُ أن يَرقى به الى الكَمال،من هنا فالجَمالُ المُمكِنُ لا يُصادَفُفي قصائدِه، واحتمالُتَبَنّيه مَردود .وكأنَّ الجَمال، وهو “الجِسرُ” بين العقلِ والحسّ، يُمارِسُ فوقيّةً  أَجبَرَته عليها عنجهيّةُالشّاعرِ القَلِقةُ باستمرار،ولكنْ غيرُ الخائفةِ من المنافسة، فتَراكُمُ الذّوقِكفاءةٌ لمتتوفَّرْ للكثيرين . والجمالُ ليس مسألةً نسبيّةً مع حاوي، مهما اختلفَتِ المدارسُ الفلسفيّةُفي وَضعِ أقيِسَةٍ لتحديدِه، أو مهما اجتهدَ الابتكارُ الفنّيُّ في إخراجِ تعريفٍ تجريديٍّ له بتعابيرَ ملموسة .إنّه، معه، شبكةٌ من العلاقاتِ الغامضةِالتي يَصعُبُ رَصدُ تشغيلِها للشّعورِحتى يَصِلَ الى حالِ الإحساسِ به .

د. جورج شبلي

 

لم يبتكرْ حاوي نموذجاً مُحَدَّداً حبَسَ شاعريّتَه بين دَفّتيه، ولم يكتبْ مزاميرَ مُزَخرَفةً للتِلاوةِ بقصدِ الدُّعاءِ والابتهال، فشعرُه ليس فنّاً للفنّ، والزّخرفُ ليس عنصراً أصيلاً في لغتِه . من هنا لم تكنِ القيمةُ الجماليّةُ مَقصودةً لذاتِها، بل لإثاراتٍتفرّعَت في اتّجاهاتٍ عِدّة. (Tramadol) وقد تناولَتِ الكونَوالحياةَ والنّفسَ، في إطارٍ من الرّموزِ والتّجريدِ، للوصولِ الى يقينٍ فلسفيٍّيَتطاولُ معه الإدراكُحتىشفافيّةِعوالمِ الرّوح، بعيداً عن “نهرِ الرّماد” .وعلى هذا جاورَ حاويالثورةَ في الشّعرِ والواقع، وخلّصَها من ترابيّتِها، وقَلَّدَها بُعدَها المُتَجاوِزَاللَّصيقَبفكرةِ الوجودِالمُنبَعِث من التّراب.هذه الثورةُالتي لطالما خَذَلَت ظنَّه بها، فتمطَّت فوقَ” بيادرِ الجوع “،وشوّهَت حسَّ النّهوضِوأجهضَت فَهمَ القيامة، فلم يكنْ بدٌّ له من الموتِ عنها، للاستعاضةِ بدمِه عن حضارةِ الفِداء .

حَمّلَ حاوي شعرَه الحديثَضريبةَارتفاعِ مَنسوبِ الرّموزِ الفلسفيّةِالصّارِمةِواللغةِ الحَدسيّة، ولكنْمندونِ الانزلاقِ في السورياليّةِ المُبهَمة، ومن دونِ تَهميشِ مُراسَلةِ الحواس. وهذاما شكّلَ انعطافاً عن تِقنيّاتِ الشّعرِ المَكبوتِفي الميتافيزيقيا من جهة، وعن أَبعادِ الواقعِ الحسّيِّالبَحت،هذه التي تُفْقِدُ الصّورةَ بلاغتَها من جهةٍ ثانية .فالرّمزُ في قصائدِ حاوي، والمُتَعاطِفُ مع ثقافتِه الفلسفيّةِ المُتمادِية، سندبادٌأسطوريٌّيفرضُ طقوسَه على الصّورةِالتي تمتازُ بجِدّتِها،وبامتلاكِها القدرةَ الإيحائيّةَعلى نقلِ القارئِ الى ما تعجزُ الكلماتُ عن تَبيانِه، فيلتقطُه بالحَدس . ألم يعتبرْ ” أدونيس” أنّ الرّمزَهو”اللغةُ التي تبدأُحينَ تنتهي لغةُ القصيدة “.

أمّا الفلسفةُ في المستوياتِ الدُّلاليّة، فلم تأخذْ بُنيةَ القصيدةِ الى أُفُقٍ مُشَوَّش.فالعلاقةُ بين

المفاهيمِالفكريّةِوالشّعرِ عندَ حاوي، هي علاقةُ تَكامُلٍ لا تَناقُض، والغايةُ منهاالبحثُ عن منظومةِ القِيَمومبادئِ المعرفةِ، للتّسليمِ بها مُنطَلَقاً للوصولِ الى إجاباتٍحولَ أسرارِ الوجود .ومهما يكن، لم يَسمحْ حاوي للفلسفةِ بأنْ تَطغى على الشّعرِ في نِتاجِه،ذلك ما يُؤدّي الى بُطلانِه،بل طعّمَ بها الصّورةَالشّعريةَلتبدوَ أنقى وأعمقَوأكثرَ شَحناً للإيحاء،فلا يُترَكُ مجالٌ للشكّ، بعد ذلك، فيمشروعيّةِ جمالِها ولا في مَخزونِه .

لقدِ استطاعَ خليل حاوي،رأسُالرمحِ في الشّعرِ الحديث،أن يختصرَ التجربةَ الإنسانيّةَوكأنَّ له عيناً ثالثة، وهو المُقتَنِعُبأنَّ الشّعرَ الذي له مَلمَسٌ واحد،يُعيدُنا الى ينبوعِ الإنسانِ الأصفى، مهما تَبَدَّلَ الزّمن .

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *