دراسة شاملة عن ابن الرومي الرجلُ والشّاعِر

Views: 574

د. عمر الطبّاع

 كان نموذجاً لظاهرة التوليد في عصره، تلاقت في شخصيته عناصر غنيّة روميّة أو يونانية، وفارسيّة وعربيّة، انعكست في حياته كرجل واتضحت معالمها في صنيعه كشاعر. وكان لمزاجه وعوامل حياته وعصره الأثر الأقوى في تلوين شاعريته بألوان بعيدة عن الطراز العربي البدوي منه والحضريّ، فكان لذلك كلّه غريباً في سيرته وغريباً في فنّه، حتى غدا في نظر بعض النقاد أشبه بالطائر الذي يغرّد خارج سربه.

ذاك هو ابن الرومي عليّ بن العباس بن جريج.

أولاً: العصر

 عاش ابن الرومي في القرن الثالث للهجرة (٢٢١- ٢٨٤ هــــ) فأدرك نهاية العصر العباسي الأول ( ١٣٢ – ٢٣٢ هــــ) وقضى معظم حياته في العصر العباسي الثاني ( ٢٣٢ – ٣٣٤ هـــ).

وعاصر ثمانية من الخلفاء : الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتزّ والمهتدي، والمعتمد، والمعتضد، ولكنه لم يحظ عند واحد منهم.

وقد عرف هذا العصر عند بعض المؤرخين بالعصر التركي، لتميّزه بسيطرة الأتراك واستلامهم المبادرة في شؤون الدولة، وبات الخلفاء تحت رحمة القادة والجند من الترك يولون ويخلعون ويقتلون على هواهم. ويروى أنه عندما تولّى المعتزّ سُئل المنجمون في أحد المجالس: ” كم يعيش الخليفة، وكم يبقى في الخلافة؟” فقال أحد الظرفاء: ” ما أراد الأتراك”، وضحك كل من في المجلس.

وكان من نتائج استبداد العنصر التركي، انتشار الفوضى، واضطراب حالة الأمن وكثرة الدسائس. وقد أدّى سوء الأحوال السياسية والخوف من تألّب الجنود عليهم إلى اصطناع الخدم يستعين بهم الخلفاء في حماية أنفسهم من الأتراك، فوقع البلاط العباسي تحت تأثير نفوذهم ووصل بعضهم إلى المراكز الخطيرة، ولا سيما في عهد الخليفة المقتدر الذي اقتنى نحو أحد عشر ألف خادم، أكثرهم من الروم والسودان.

وكان من الطبيعي أن يبقى العرب بعيدين عن الاضطلاع النافذ بأسباب الحكم، بعد أن حلّ نفوذ الأتراك، مكان النفوذ الفارسي، الذي كان قوياً في العصر العباسيّ الأول. وعندما رغب المتوكل في نقل مركز الخلافة إلى الشام ليقرِّب العرب ويدفع بهم الخطر المحدق، عجّل الأتراك بقتله.

ولقد جرّأ خروج السلطة من أيدي الخلفاء العباسيين، الولاةَ في الأمصار على حقوق الدولة فكانوا يتمنعون عن إرسال المال المترتب إلى الخزانة العامّة، وكان هذا إيذاناً بانسلاخ الإمارات واستقلالها تدريجياً عن بغداد.

*

انعكس الاضطراب السياسي، في الحياة الاجتماعية والأخلاقية، خلال هذا العصر فقد كان الناس عرضة للقتل والنهب والمصادرة. وتفشّت الرشوة، وساءت الأحوال الاقتصادية أحياناً بسبب الاحتكار وإخفاء الأموال وصون الثروات في منأى عن مطامع الوزراء والقادة.

ولقد أصابت طبقةٌ عوامل الإثراء بالمكر والخداع حيناً، وبالجور أحياناً، ونالت الحاجة من الكادحين عمّالاً وصنّاعاً، فإذا المجتمع طبقتان: عليا ودنيا، أو خاصّة وعامّة. تعيش فئة حياة الترف والعبث، وتحرم أخرى إلا من الجوع والحرمان. وتشتد النقمة في نفوس الضعفاء وتتوافر محفّزات الثورة، وتتكرّر المحاولات لتبديل الأوضاع وتغيير أنظمة الحكم. ويشهد ابن الرومي إحدى فتن العصر الكبرى: فتنة الزنج في البصرة.

*

وفي هذا العصر ضعف سلطان الدّين في النفوس، وتأثّرت العقيدة بأساليب الجدل والمنطق، فتعدّدت المذاهب والفرق، واشتد الصراع بين أصحابها، وتحوّلت العواطف الدينية من الإيمان الصادق، إلى التعصب المقيت، فإذا العصر صورة قويّة للتداعي والانحلال في أغلب نواحي الحياة العامة، باستثناء الجانب الفكريّ.

*

ظلّت الحياة العقلية في هذا العصر آخذة في الازدهار، حثيثة الخطى نحو آفاق أوسع؛ فلم يصبها ما أصاب الحياة العامة من أسباب الاضطراب. وعلّة ذلك أن التطور الفكري لا ينكفىء لمجرد ما يطرأ على المجتمع من أحداث سياسية وظروف ماديَّة. لقد تفاعل العقل العربي مع تيّارات الفكر الدخيل، ولئن كان العصر العباسيّ الأول عصر ترجمة العلوم الدخيلة، فإن عصر ابن الرومي كان عصر التأليف في هذه العلوم بالذات.

 وقد ظهرت ثمار هذا التفاعل في شتّى أبواب المعرفة، في العلوم العقلية، والدينية واللسانية، وانعكست ثمرات هذا الايناع في الأدب، كتابة وشعراً.

أ – العلوم العقلية:

– ففي هذا العصر خاض كثير من العرب ومفكري الإسلام في البحوث العقلية، فألفوا في الفلسفة والمنطق، والطبيعيّات، والموسيقى، والحساب والفلك. ومن هؤلاء الكِنْدي، والفارابي (٣٢٩هــــ) الذي يعتبر أول من وضع الموسوعات العلمية، ومنها كتابه ” إحصاء العلوم” ومنهم الأطباء كابن ماسويه ( ٢٤٣ هــــ)، وابن سهل (٢٥٥ هــــ) والرازي (٣٢۰ هــــ) الذي اشتغل في الكيمياء، وله في الطب ” كتاب الحاوي” عدّد فيه الأمراض وطرق معالجتها.

وعنى العرب في هذا العصر، بالجغرافيا، وتميّز علماؤهم في هذا الباب بالإكثار من الرحلات للتعرف إلى أصول البلدان والتحقّق من صحة الإخبار. وقد بلغ من اتساع معرفتهم بهذا العلم أنهم كشفوا عن أخطاء كثيرة وقع فيها بطليموس. وقد ألّفوا في الجغرافيا، الخاصّة والعامة، ومن أشهر أقطاب هذا العلم ابن خرداذبّة، واليعقوبيّ الذي تميّز برحلاته وأسفاره العلمية للاطلاع على أحوال البلدان بصورة مباشرة وقد ألّف في هذا الصدد ” كتاب البلدان”.

واتسع نطاق علم التاريخ في هذا العصر، ولم يعد مقتصراً على سيرة النبي وأخبار الفتح، بل تجاوز إلى التاريخ العام. ومن أشهر المؤرخين في التاريخ الإسلامي البلاذري (٢٧٩ هــــ) صاحب ” فتوح البلدان”. وممّن خاض في التاريخ العام اليعقوبي ( ۲۷۸ هــــــ)، والدينوريّ (۲٨٢هـــــ) والطبريّ ( ۳۱۰ هــــ).

ب- العلوم الدينية واللسانيّة:

أما في العلوم الإسلاميّة، فقد ظهرت مذاهب الفقه بتأثير حركة النقل في الفلسفة والمنطق، وتطور علم الكلام الذي أسسه علماء الإسلام للذود عن العقيدة بالأدلة العقليّة. ومن أبرز الفقهاء أبو حنيفة، ويعتبر أبو هذيل العلاّف (٢۳٢ هــــ) من أشهر رجالات المعتزلة في هذا العصر.

كذلك ظهرت مراجع علم الحديث من مثل صحيح البخاري، لمحمد بن أبي الحسن البخاري (۲٦٥ هـــ)، والجامع الصحيح للقشيري ( ٢٦۱ هـــ)، وكتاب السنن لابن ماجه ( ٢٧٣هـــ)، ومن مشاهير هذا الباب أبو داود ( ٢٧٥ هــــ) والترمذي ( ٢٧٩  هــــ)، والنسائي ( ٣۰۳ هــــ).

وفي العلوم اللسانية مهّد اللغويون لوضع المعاجم بتآليف أوليّة في هذا الباب، وشغل النحاة بتأليف المختصرات في علم النحو وانقسموا إلى بصريين وكوفيين، واحتدم النقاش بين الفريقين حول مسائل هذا العلم. فمن علماء اللغة السجستاني (٢٥٥ هــــ) والمبرّد ( ٢٨٥ هـــ)، ومن النحاة المشهورين المازني ( ٢٤٩ هــــ)، وأبو العباس ثعلب ( ٢٩۱ هــــ) والزّجّاج ( ٣۱۱ هــــ) وأبو جعفر النحّاس ( ۳۳٨ هــــ).

ح – الكتابة والشعر:

ومن معاصري ابن الرومي بين الأدباء والكتّاب الجاحظ ( ٢٥٥ هـــ) وابن قتيبة      ( ٢٧٦هــــ)، وابن أبي الدنيا ( ٢٨۱ هـــ)، وقدامة بن جعفر ( ٣٣٧هــــ) وابن عبد ربّه ( ٣٢٨ هـــ) وأبو بكر الصولي ( ٣٣٥هــــ). وهؤلاء من أبرز الذين انقطعوا للتأليف في الأبحاث الأدبية والعلمية. فكتب الجاحظ في البيان والخطابة، والحيوان، والنبات، والمعادن، والنوادر. واشتغل ابن قتيبة بالنقد الأدبي، ومن أشهر كتبه: عيون الأخبار، والشعر والشعراء، وأدب الكاتب والإمامة والسياسة. ووضع ابن عبد ربّه العقد الفريد، وهو أشبه بموسوعة ثقافية لعلوم هذا العصر.

وقد أحاط ابن الرومي بالجوانب المختلفة من هذه الثقافات والمعارف، وتجلّى أثر هذا الاطلاع في إنتاجه الشعريّ، كما سيتّضح.

*

ثانياً: السّيرة والأخبار

هو عليّ بن العبّاس بن جريج، وقيل جوجيس، يوناني الأب، فارسي الأم ويقال له   ” ابن الرومي ” ويكنّى يأبى الحسن. كانت ولادته على ما يروي ابن خلكان سنة    (۲۲۱هــــ- ۸٣٥ م ).

ومن شعره في أصله اليوناني الذي ردّ به على المتعصّبين للعرب قوله:

ونحنُ بنـــو اليـــونـانِ قومٌ لنا حِــجـــى        ومــجـــدٌ وعيــدان صلابُ المعاجـــمِ

وربما دُفع إلى الفخر بهذا النسب، في مواضع كثيرة من هذا الشعر، فأشاد بأبيه ونعته بالكرم، ورفعة الشأن والمنبت على طريقة العرب. كأن يقول:

وكمْ من أبٍ لي ماجدٍ وابن ماجدِ           له شرفٌ يربــي على الشرف المُربـــــي

إذا أمطرتْ كفــّاه بالبذْلِ نــوَرت             له الأرضُ واهتزّت رباها من الخصبِ

وقد يكشفُ عن آمال أبيه فيه، ورعايته إياه وإعداده لعزّة المكانة، حين يقول:

شادَ لي السورَ بعد توطـــئـــة الأ                   سِّ أبٌ قــــال: أنتَ للشــــــرف

أما أمه فتدعى حسنة بنت عبد الله السجري، وهي فارسية بدليل قوله:

كيــــفَ أغضـــي على الدنـــيِّـــة والفر               خُـــؤُولــــي والـــرّومُ أعمــــامــــي

ومن خلال رثائه أمّه نتعرف إلى شيء من شخصيّتها، فقد كانت ذات ورع وتقوى تقوم في الليل للعبادة:

طوى الموتُ أسبابَ المحاباة بينَنا               فلستُ وإن أطنــبـــــتُ فيـــكِ بمُتـــهَمِ

لقد فجعتْ فيك الليالي نفوسَها                   بمحـــــيــيةِ الأسْحارِ حافـــظـــةِ العتمِ

فلا تعْدمي أنسَ المحلّ فطالما                  عكفتِ فآنستِ المحاريبَ في الظلمِ

وكان لابن الرومي أخ يدعى محمّد، وقد فجع بموته بعد مصابه بأمّه:

بأخٍ شقـــــيـــقٍ بعد أُمٍ بــــــرّة                       بالأمس قــطّـــعَ منـــهمـــا أقـــرانــــه

 نكب ابن الرومي بجميع أفراد أسرته ، بأبيه وامه، وأخيه وخالته، فبقي لا معين له الدهر يعضده، ولا ملاذ له في الشدائد يدخل العزاء على نفسه.

وكان تزوج ليجد راحة بعد العناء، وأمنا بعد القلق، وأنسا يدفع الوحشة، فرزق أولادا ثلالثة رأى فيهم نعمة الإيراق بعد اليباس وأطلالة الأمل بعد اليأس.

وأصغر هؤلاء هبة الله وأوسطهم محمد، وأما أكبرهم فلم يذكر اسمه. ولكن الدواهي لم تغفل عينها عن إيذائه ، فاقبل الموت ينتزع من دنياه الواحد تلو الآخر من صبيته، حتى ثكلهم جميعا فبكاهم، ثمرزئ بأمهم بعدهم فبكاها هي الأخرى:

      وكان ابن الرومي مولى لعبيد الله بن عيسى ، ابن العباس ، وقد تغنى بولائه للعباسيين كما بنسبه فقال:

قومي بنو العباس حلمهم                   حلمي، كذاك ، وجهلهم جهلي

مولاهم وغذيُ نعمتهم                      والروم حين تنصني أصلي

 

شبابه

في ديوان ابن الرومي كثير من الأبيات الدالة على صفاته الجسمية، والأخلاقية وما أصاب شبابه الغض من الضعف ، وما آل إليه حاله من الضيق والنكد بعد فقده ثروته.

      ويبدو أن انغماسه في اللهو، ودأبه على الملذات ، سلباه قواه وافقداه محاسن شبابه وهو لا يزال فتي أمرد: 

سُلبت سواد العارضين وقلبهُ            بياضهما المحمود إذ انا أمردُ

     وقد وهن جسمه ، فتقوس ظهره، وضعف سمعه وبصره:

واضحت قتاةُ الظهر قوس متنها       وقد كان معدولا  وإن عشتُ فخخا

واحدث نقصانُ القوى بين ناظري    وسمعي وبين الشخص والصوت برزخا

    وادركه المشيب باكرا ً، فشكا من ظلم الليالي :

وظلمُ الليالي انهن أشبنني            لعشرين يحدوهن حولٌ مجرمُ

    وباتت له مشيئة مضطربة لشدة هزاله:

إن لي مشيةً أُغربلُ فيها           آمناً أن أُساقط الأسقاطا

   واصبح نحول جسمه ، ووهن عظامه مدار تأويل الناس:

أنا من خف واستدق فلا يُث       قلُ أرضاً ولا يسدُ فضاء

يقول القائلون ضويت جدا         ولم تنضجك أرحام النساء

    ولم تقف ملامح ابن الرومي عند هذه الصورة التي رسمها بريشته، بل تعدتها إلى الصلع وقد علل صلعه بلبسه العمامة حيناً، لدفع البرد أو للوقاية من الحر ، فقال :

تعممت إحصاناً لرأسي برهةً        من القر يوماً ، والحرور إذا سفع

عزمت على لبس العمامة حيلةً       لتستر ما جرت علي من الصلع

     فبات، على هذه الحال، مع سدة شغفه بالحسان، غير أهل إلا لمجالسة أهل الورع، أو أن يعتزل في الفلاة ويتحاشى مساجد الجمع في الفلاة:

شغفقتُ بالخرد الحسان            وما يصلح وجهي إلا لذي ورع

كي يعبد الله في الفلاة ولا        يشهد فيه مساجد الجُمع

ثروته:

      كان ابن الرومي رجلاً سيء الطالع، منكود الحظ، تسلط عليه النحس، وأمعنت صروف الدهر في ظلمه، ولم يدع له الدهر فرصة للعزاء: تشوه شبابه فتقطع عليه حسرات، أخرست المنون بلابل روضه، فاعتصر الحزن حناياه، وبات مطمعاً للغوائل تترى عليه.

     كذلك نكب في ثروته: أتى الحريق على ضيعة له والتهمت النار ثمار عنائه، واضطره لئيم إلى بيع داره، واغتصبت امرأة عقاراً يملكه، وحصد الجراد زرعاً انتظر أكله وجنيه:

أعاني ضيعةً ما زلتُ منها       بحمد الله قدماً في عناء

حدوثُ حوادث منها حريق      تحيف ما جمعتُ من الثراء

ولي وطنٌ آلت ألا أبيعه         وألا أرى غيري له الدهر مالكا

وقد ضامني فيه لئيمٌ وغرني     وها أنا منه مُعصمٌ بحبالكا

تهضمني أنثى وتغصبُ جهرةً    عقاري، وفي هاتيك أعجبُ معجب

لي زرعٌ أتى عليه الجرادُ        عادني مذ رزئتُه العوادُ

كنت أرجو حصاده فأتاه         قبل ان يبلغ الحصاد الحصادُ

     بعد هذه النكبات لم يكن عجيباً أن ينال منه السقب، ويلتوي عليه القوت الطفيف، ويستجدي عطاء ذوي اللؤم، فيتأوه من الحرمان، ويهون في أعين الناس: يعدونه بالعون طعاماً او كساء فيخلفون، فيسوء ظنه بالآدميين، وبالدهر والصديق، وقد تُرك وحيداً للمحن، والكآبة، والأوصاب:

يلتمسُ الناس الغنى فيصيبُهم     وألتمسُ القوت الطفيف فيلتوي

لي في درهمين في كل شهر     من فئام ما يطردُ الحوجاء

وارتكابُ الديون إياي في        ظلك يهجوك باللسان الفصيح

إنك إن ما طلتني المواعدا       واضرم الصيفُ الأجيج الصاخدا

أخلاقه:

    تاثر ابن الرومي بالوراثة المزدوجة في نسبه، فكان موضع تجاذب بين نفسيتين ومزاجين:

    فأبوه على ما يظهر دنيوي الهوى واقعي النزوع، الحياة عنده تهيؤ للمقبل من الأيام، بدليل اهتمامه ببناء صرح ولده ونفحه إياه بحب الأمجاد. وامه على خلاف ذلك، تميل إلى الزهد، وتجد اللذة الروحية في الخلوة الليلية للتجهد.

   ولعل هذا التجاذب غير المتكافئ قد ترك انكاساً سيئاً في شخصية ابن الرومي، فإذا هو مادي متطرف في ماديته من ناحية، وإذ هو متردد متهافت القوى لا يقوى على نضال أو سعي- من ناحية ثانية. وقد صور ذلك أحسن تصوير حين قال:

أذاقتني الاسفارُ ما كره الغنى              إلى وأغراني برفض المطال

واصبحتُ في الاثراء أزهد زاهد          وإن كنتُ في الأثراء أرغب راغب

حريضاً جباناً أشتهي ثم أنتهي            بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب

ومن راح ذا حرص وجُبن قإنهُ          فقيرٌ أتاهُ الفقر من كل جانب

تنازعني رغبٌ ورهبٌ كلاهما           قويٌ، واعياني اطلاعُ المغايب

    لعل هذا التنازع في شخصية ابن الرومي من اهم وسائل الكشف عن نفسيته، وتفسير ما كان يعاني من تقلب المزاج، واضطراب الذاتية. فهو دقيق الحس، كثير الوساوس والظنون، شديد الخوف والجبن. ومثله لا يقوى على الجلد، ولا يملك جرأة على تحدي الصعاب، فينكفئ وينكص، وتستبد به الهواجس فيتمثل المعاطب في كل ظاهرة، ويخيل إليه أن الهلاك يتعقبه عند كل بادرة، فإذاهو أسير شكوك وتطير، يتمنى لو يدرك كزامن الغيب ويتطلع إلى المصير قبل المسير، وإذا هو بحكم هذا المزاج الغريب ضعيف المنطق ، واهي الإرادة، ينقاد لمشاعره وعواطفه، ويقع في متناقضات، فتصيبه الخيبة في آماله، ويعتريه القنوط في مسالكه، وتمتلئ آفاقه بالكآبة، ويصدمه الياس فيعلن سخطه على الدهر، ويتهمه بالمحاباة:

رأيت الدهر يرفع كل وغد            ويخفضُ كل ذي زنة شريفه

كذاك البحرُ يرسبُ فيه دُر            ولا تنفكُ تطفو فيه جيفه

    وليس غريباً أن يتعرض ابن الرومي لسخرية المجتمع، أو أن يُتهم عند الناس بأنه طريد القدر، وبأنه يجلب النحس والشؤم، وهو الرجل المتطير الذي لا يفتأ في سلوكه اليومي يظهر الغريب من أطواره وعلله النفسية. وقد جر عليه هذا السلوك العديد من المصائب والنكبات بإقراره واعترافه.

تلك كانت ملامح من حياة ابن الرومي، وأخباره، وصفاته وطبائع مزاجه، وجدناها بارزة في شعره الذي سنلم بأبرز أغراضه.

ثالثاً: الشاعريّة

* خواطره:

هذا التنازع في شخصية ابن الرومي، لا يعلل لنا أخلاقه، واضطراب سلوكه وحسب، بل يفسِّر نظرة الشاعر إلى الحياة وطبيعةَ خواطره فيها؛ أو بالأحرى فلسفته الذاتية، أمام معضلات الوجود الكبرى.

ويلاحظ الباحث عن مذهبه، في المتناثر من آرائه، أنه متجاذب من طرفين، يصعب التوحيد بينهما: المثال والواقع. يرسم الأول بعقله، ويحسّ الثاني بجوارحه، فينعكس أحدهما في الآخر، فيبدو المثال استحالة، ويتراءى الواقع غايةٌ في البشاعة.

يقف الشاعر، بفعل من تكوينه غير المتكافىء، عاجزاً عن الملاءمة بين الطرفين، لا يرتفع إلى المثال فكراً وسلوكاً، ولا يهبط إلى الواقع اعتقاداً وسيرة، فيبقى موزّعاً حائراً، يرتضي المثال ملاذاً للعقل، ويصوِّر الواقع من خلال آلامه وفشله.

وحتى نفهم ابن الرومي حقّ الفهم، وجب أن نتأمله في الاتجاهين:

  • مذهبه العقلي

لم يكن ابن الرومي رجلاً حكيماً، ولا فيلسوفاً ليبدع مذهباً عقلياً. فلئن كان له شيء من هذا القبيل، فهو ليس من نسجه الشخصي، لأنه ليس له من أصحاب التجريد، فمذهبه العقلي نوع من أنواع التبنّي الفكري، انتخاب من ركام المعتقدات الكثيرة التي ضجّ بها عصره، واصطرعت في بيئته.

وفي حدود هذا الانتخاب، لم يكن ابن الرومي ليجد الارتياح الفكري في واحد من المذاهب: الصوفية، والباطنية، والجبرية.

” فالصوفية” روحانية، لا تنسجم مع أفقه المادي، وتقيم هوة واسعدة بين إيمان القلب، وثورة الجوارح.

” والباطنية”، ازدواجية: بين الباطن والظاهر، وهي تتناقض مع ابسط مقوّمات شخصيته: الصراحة، التي يتعذر عليه معها الأخذ بمبدأ ” التقيّة”.

أما” الجبرية” فتتنافى مع الإيمان السائد، لأنها تتّهم- في ثناياها- الذات العليّة بالظلم.

وهكذا ارتمى ابن الرومي في أحضان ” مذهب التوحيد” أو مذهب الاعتزال كما هو مشهور. لأن مثل هذا المعتقد، يهبه الاطمئنان إزاء معضلات الغيب، طالما هو في ارتباك دائم أمام مشكلاته اليومية، على الرغم من التعارض بين مبادئ المعتزلة، وميوله ورغباته الحسيّة.

  • الاعتزال في شعره

وقد – صرَّح ابن الرومي بعقيدته الاعتزالية في مواضع كثيرة من شعره كقوله:

أأرفـــــــــضُ الاعــــــتـــــزالَ رأيـــــــــــاً                            كـــــــلا، لأنّــــــي به ضــــنــــيـــــنُ

وكان يتخذ هذه العقيدة شفيعاً له عند بعض ممدوحيه من أهل الاعتزال، فيعلن إيمانه بوحدانية الله ونفي الشريك عنه، كما يصف الله بالعدل ويرفعه عن مرتبة الظلم. ومن هذا القبيل مدحه العبّاس بن القاشي، بأخلاق المعتزلة فهو لا يرى له عذراً في أن يحرمه من عطائه، أو يمنع عنه نواله:

إن لا يكنْ بيننا قُربـــــــى فآصــــــرةٌ                  للدين يقطعُ فيــــــــها الوالــــــدُ الولـــــــدا

مقالةُ ” العدل والتوحيد” تجمعُــــــنا                         دونَ المضاهين من ثنَّى ومن جحَدا

كن عندَ أخلاقك الزّهر التي جعلتْ                 علــــــيك موقـــــوفـــــةً مقصــــــورةً أبــــدا

لا عذرَ فيما يُريني الرأيُ علَّــــــمــَه                للمــــــرءِ مثـــــلـــــك، ألا يــــأتــــــيَ السدَدا

وقد حاربت المعتزلة معتقد ” الجبرية” التي تنفي الإرادة الإنسانية واعتنقت مبدأ الاختيار، لأنه من موجبات ” العدل الآلهي” وبه أكدت ضرورة الثواب والعقاب. وقد تأثر ابن الرومي بمقالتهم فقال:

الـــخيــــر مصنوعٌ بصانعِهِ                          فمتى صنعتَ الخيرَ أعقَبكا

والشرُّ مفعولٌ بفاعلــــــــــهِ                          فمتى فعلتَ الشرّ أعطَبَكـــــا

هذه هي الخطوط العامة في مذهب ابن الرومي العقلي، رأيناه على ضوئها رجلاً صحيح الإيمان، يبني اعتقاده في قضايا الحياة الكبرى على أساس فكر

سليم، يقرّ بإرادة الإنسان، ويقول بالحرية والاختيار ولا ينكر العاقبة بما فيها من ثواب وعقاب، ويتهيَّب جانب الخالق، يعظمه ويُكبره، ويسمو به الظنّ، ولا يتهمه بالظلم، لأنه وهب الإنسان قدرة على التمييز بين طبيعة الخير والشر.

 فما هو الترابط بين هذا المعتقد المتفلسف وبين المعتقد الدنيوي أو قل آراء الشاعر في القضايا التي تمسّ سلوك الإنسان اليومي، وطباع البشر وأخلاقهم؟

 

*

مذهبه الوجودي

لا صعوبة في تحديد مدى التباعد بين المسلكين، فلم يجد ابن الرومي في واقعه إلا الفشل ولم يقطف إلا الخيبة. اهتدى بالعقل إلى خلاصه الأشمل، ولم يهتد إلى النجح في المجتمع، لأنه كان من الوجهة العقلية أسير أهوائه، طيّعاً لنزواته وعواطفه. واجه دنياه بالمثال الاجتماعي الذي رسمه عقله، فحلم بشرف المكانة على أساس من تقدير الكفاءة والمعرفة. وانتظر أن تبتسم له الأيام، فإذا هو يرى نفسه في الحضيض، يعلوه الأنذال، ويتفوّق عليه الأراذل، ويتقدّمه الجهلة. فسخط على مقاييس الناس، وعاد باللائمة على الحظوظ، وعزا إليها ما ينتابه من الضّيق والعوز، وقلّة الرزق.

 هكذا علَّل ابن الرومي شهرة البحتري، إذ قال:

الحظُّ أَعْمــــى ولولا ذاك لم نَرَهُ              للبُــــحْتـــريِّ، بلا عَقْلٍ ولا حسبِ

 أ – حتمية القدر

فالقدر محتوم، يختار الإنسان فعله، ولكنه لا يضمن نتيجة هذا الفعل. أنه يريد الهناءة، ويتطلع إلى السعادة، وقد لا يكتب له القدر إلا الطالع السيء، وشقاء الجدّ. والحيلة غير نافعة، فالمقدر كائن لا محالة:

وإذا أتــــاكَ من الأمـــــور مقــــــدَّرٌ                    وهربـــــتَ منه فنحوَه تتوجّه

 وسلطة القدر غير محدودة، وإنما هي مطلقة، لا تشمل الأحداث الكبرى، الخارجة عن الإرادة الإنسانية، كالصحة والمرض، والعطب والسلامة، وحدها، بل تحيط بكل دروب الحياة، وتسيطر على شؤون المعاش، ودوعي الكسب. قد يسعى الإنسان ولا يفلح في نيل صبوته، وقد يقعد عن كفاح، فتأتيه الأماني طيِّعة، ويوافية الرزق داني العطاء، ذلولاً:

الـــــرزق آتٍ بلا مطالـــبــــةِ                       سيــــــانَ مدفــــوعُـــه ومجـــــتذبُـــه

إنه منطق الضعفاء وسلامة الفطرة، وليس منطق الأقوياء المغالبين، هو انعكاس نفسية ابن الرومي: وشخصيته الاتكالية. يندفع وراء هذا المنطق، ويشتط في اندفاعه ويلجأ إليه في تعليل ظواهر الحياة:

وقع ابن الرومي فريسة هذه السلبية، وأورثه الاستسلام لمشيئة الغيب التخاذل في معركة الدنيا، فلم يجد في المسألة ذلاً وبات بين إقدام وإحجام، وابتعد عن نظرية الاختيار عند المعتزلة تهرباً من الملامة، وتبريراً للهزيمة، وضاع بين الرغائب، والخوف من المعاطب، وتمنّى لو يعلم المصير قبل المسير:

أخافُ على نفْسِي، وأرجو مفازَها           وأستارُ غيبِ اللّهِ دون العواقـــــــبِ

ألا من يُريني غَايتي قبلَ مَذْهبي           ومن أينَ؟ والغاياتُ بعدَ المذاهبِ

 ب- إنعدام الفروق

ضعف الإنسان أمام المجهول، والإرادة السلبية أمام جبروت الغيب المقدّر، وما كتب في لوح القضاء، من مراتب الرزق، والاقتناع بالعدل من جهة الله، دفعت ابن الرومي إلى استكمال مذهبه الوجودي، فزالت أمامه الأبعاد، واستوت الأشياء، وتقاربت الأضداد، وانعدمت الفروق بينها. فكل شيء له مذاق واحد، هو مذاق العدم والانتهاء: القدر يعطي، ثم يأخذ، والزمن يهب ثم يسلب، ففي نعمة المنح تكمن بلوى الحرمان، وفي هناءة الهبة يتحفز شقاء المنع. وهكذا كل ما في الوجود: الحب ينطوي على الكره، والسرور على الحزن، والأمل على اليأس، والأمن على الخوف، ومن اسعفه الجَدّ فامتلك، لن تفوته الهزيمة أمام القضاء الأكبر، أمام المصير الهائل، مصير الزوال والموت:

 ومَن كانَ في عيشٍ يُراعي زواله                  فذلكَ في بؤسٍ وإن كان في نعمِ

جـ- لا ثبات في طبيعة الأشياء: كل موجود رهن التناهي إلى ضدّه، الصيرورة تلف كل شيء في طبيعة الزمان:

ومــحبــوبـُه رهـــنَ مــكــــروهِـــه                ومـــكـــروهُه رهـــنَ مــحبـــوبـــِه

ومــــأمـــونـــُه تحـــــتَ محــــذورِه               ومــــرجُــــوّه تــحـــــتَ مرهوبـــــِه

وريـــبُ الزمــــانِ غــــذا كائـــــنٌ               وغالــــبــــهُ مــــثـــلُ مـــغـــلوبِــــه

د- انعكاس القيم

هذا التحول من وضع إلى آخر، بانعدام الفواصل بين وقائع الوجود وحالاته، وما عاناه ابن الرومي من الأحداث المؤلمة أفضيا به إلى الاعتقاد بأصالة الشرّ في الحياة وانعدام المُثل، فالحياة عنده بلا نظام، بلا قانون. فالناس لا يدركون نصيباً من غبطة، أو عزِّة من وجاهة، بالقدر الذي يبذلونه من جهد، وإنما هي السوانح والفرص أو قل المحاباة:

يتمتّع الجاهل بدنياه ويمرح، ويُحرم عالم ويتألم. الأخيار منبوذون مهملون، يغمرهم النسيان، ويضيعون وسط الدرب، والأشرار يشرئبون بأعناقهم ويتطاولون تحفّ بهم مواكب التعظيم:

رأيتُ الدهــــرّ يرفـــع كــــلَّ وغْـــــدٍ                     ويخفضُ كلّ ذي زنـــــةٍ شريفَه

كذاكَ البــــحرُ يرســـبُ فيـــه درٌّ                     ولا تنفـــكُّ تطفــــو فــــيه جِـــــيفَه

 ويقول:

فليس ينفكُّ ذو علـــمٍ وتجربـــةٍ                     من مأكل جشبٍ أو مشرب رنقِ

وذو الجهالةِ منها في بُلَهْنِيَةٍ                     من مسمعٍ حسن أو منظر أنقِ

هــــ- الحملة على البشر

ولكن ما هو مصدر البشاعة في الوجود؟ أما الله، الجوهر الأول، فمنزّه عن النقص، لأنه خير محض. فالشر في الإنسان، وهو فاعله. إنه موجود في طبعه كائن في تركيبه. وهكذا انتقل ابن الرومي من سوء الظن والتشاؤم بالدهر، إلى النقمة على البشر: يعزو شرور هذا العالم إلى خساسة الطين الذي جبلوا منه.

أعلن ابن الرومي هذه الجبرية، ووقع في تناقض الرأي. وكأنه أقام حدوداً فاصلة بين العالمين: العلوي والأرضي، ولم يكن فيلسوفاً ليبحث عن العلاقة بين الجوهر والمادة، وكيف يصدر الشر عن الخير. إنها دواعي السخط على واقعه المرير، وعلى المجتمع الذي انتبذه، دفعته إلى القول بأصالة الخبث وعناصره في جبلة الناس. وقد أوغل في هذا الاعتقاد، ورأي الصلاح غير ممكن لأن كل معالجة للخلق زيف، ولا بد للشرّ من أن يسفر عن وجهه المقيت، في آخر المطاف:

ولا بدَّ أنْ يلؤمَ المرءُ نازعاً                        إلى الحمأ المسنونِ ضرب لازبِ

و- تمجيد الشباب

لا فروق بين الأوضاع، ولا اختلاف بين الناس، لأنهم ينحدرون من الخساسة واللؤم، ولو تجمّل بعضهم بالأخلاق، وستر عيوبه وراء طلاء المكارم. وقد لا ينكر ابن الرومي أنه من هذه الطينة اللعينة، ولكنه عاجز عن مقابلة الشرّ بمثله، فإذا هو يتقبّل الحياة بالهرب، لا بالمواجهة، ليجد عزاءه في الشباب، يذيب آلامه في لذّاته: والحياة بدون الشباب، مناحة، عذاب لا يفوقه شيء:

لعمركَ ما الحياةُ لكلِّ حـــيِّ                        إذا فقدَ الشبابَ سوى عذابِ

فقلْ لبناتِ دَهْري فلْتُصِبني                        إذا ولّى بأسهُمِــــــها الصِياب

ولابن الرومي خواطر كثيرة في الصداقة، والعزلة عن الناس، والقناعة، والصبر، والجهل… وكلّها تتصل، من قريب أو بعيد بشخصيته المتطيرة، وسوء ظنونه، وإيثاره العافية على النضال، كما تتصل بكراهيته الناس، ومزاجه الأنطوائي.

 

*

هذا هو عالم ابن الرومي، عالم الخواطر السوداء، والكآبة الكالحة، والتشاؤم المظلم، والهواجس والظنون الثائرة، حيث يعزّ اليقين، ويسود القلق وينعدم الأمن، ويتضاءل الرجاء، وحيث الأمنيات تتحطّم في طيّات المجهول، فلا يرى ابن الرومي إلا الإغراق في اللذة سبيلاً إلى انتظار القضاء المحتوم:

فبادرِ الدهرَ بالمناعم واللـــــــ                       ـــذّاتِ، واحذَرْ من وَشْكِ مُرْتحلِ

 ألم فن المديح عند العرب ، منذ الجاهلية ، باتجاهات شتى ، وتناول الخلال الحميدة والشمائل الكريمة ، فخص الشعراءُ الملوك بآيات الثناء ونعتوهم بالعزة والقدرة البالغة والجلال والهيبة ، والقوة والبأس ، والكرم الذي لا حد له، ووصفوا الوزراء بالسياسة والحزم ،وسرعة البت والانجاز ، والحنكة والدهاء ، وسداد الرأي والإصابة . وأطروا القادة بالشجاعة والجرأة ، والبطش بالعدو والضرب على بد المفسدين ، ونسبوا إلى العلماء الفكر الثاقب وعمق الاطلاع ، والاحاطة بالمعرفة ، والمنطق والروية ، وحضور البديهة.

ولم يقتصروا في المديح على هذه المناقب الرئيسة وحدها بل ألموا بكل المحامد والمزايا حتى غدا ديوان المديح في شعرهم – غلى ما فيه من روح التكسب والتزلف ن والمبالغة المقيتة والرياء – أحيانا ، سجلاً للمكرمات والأخلاق السامية ن والمثل العليا .

ولا يجد الدارس كبير عناء للدلالة على اخفاق ابن الرومي في المديح : فقصائده في هذا الفن تطغى على سائر ألوان شعره ، وممدوحوه ليسوا من القلة في شيء ، فعددهم يتجاوز الأربعين ، وهو مع ذلك يدأب في تصوير حاله من الحرمان ، ولا يفتا يقر بخيبته ، وتحطم رغائبه ، وتخلفه عن مراتب المتقدمين من الشعراء :

أسخطتُ إخواني وأخفق مطمعي     فبقيتُ بين الدور والأبواب

  • أسباب فشله:

ولئن اتخذ المؤرخون من فشل ابن الرومي في المديح ، وكساد بضاعته عند أعيان زمانه ، وضآلة مكاسبه بالشعر ذريعة لاهمال دراسته وإغفال العناية باخباره ، والترجمة لحياته ، فإننا واجدون في التعرف إلى أسباب هذا الفشل ملامح كثيرة من أخلاقه وشخصيته وطبيعة شاعريته.

وقد تضافر على هذه الظاهرة العديد من العيوب : بعضها في شخصه ، وبعضها في شعره ، وبعضها في عصره .

أ – عيوب شخصيته

* الشخصية المادية : أما عيوبه الشخصية ، فمنها ما يتصل بهيئته وشكله ، ومنها المرتبطة بمزاجه وطباعه . ومع اعتقادنا بأن تألق النجم في مواقف الإشادة بالكبراء ، لم يكن دائماً حليف المادحين ذوي القسمات الحسنة ، إلا أن ابن الرومي الشاعر بلغ حداً من التداعي في صفاته الجسمية حتى بات مكروهاً في مجالس الأمراء ، ومثار نفور الممدوحين من الروؤساء .

* الشخصية المعنوية: ولم يكن ما أصاب بنيته واعضاءه من قبح التشويه وانطفاء النضارة ، ليسبب خيبة فأله عند أهل زمانه ، لو تمتع بخصال الشاعر المادح ، رزانة واتزاناً ، وسلامة طبع ، واعتدال مزاج ، وقدرة على المداراة والمصانعة ، وجرأة في اقتحام الاسفار نهوضاً إلى سعي وتطلعاً إلى فوز . إلا انه كان متهافت النفسية ، حذراً إلى حد الأحجام ، متطيراً إلى درك الجبن ، كثير الظن إلى درجة التوهم ، مسرف الاحساس، يقع فريسة الشكوك . لهذا هان في نظر المجتمع ، وزاده هوناً اعترافه بسقم الطباع وجاء سلوكه اليومي يشهر بعلل ذته ، واعتبر الناس أوصابه واوجاعه ، من سوء فعاله ، فلم يرثوا كثيراً لحاله ، ولم يأبهوا لما ألم به من الدواهي والنوازل ، فحرموه العطف وأخلفوا في عطائه قوتاً يسد به جوعه ، أو كساء يستر به عريه ، إلا في الندر ، فإذا هو ثقيل الظل عند ممدوحيه ، لا ترتاح نفوسهم إلى مرآه ، ويوجسون من لقائه ، ويتحاشون مثوله بين أيديهم ، فيطول مكوثه على أعتابهم حتى يؤذن له بالدخول ، فيثور على الحجاب ويهجوهم لإغلاقهم الأبواب والحؤول بينه وبين مجالس السادة :

وكم حاجب غضبان كاسر حاجب     محا الله ما فيه من الكسر بالكسر

إذا ما رآني عاد أعمى بلا عمى       وصم سميعاً ما باذنيه من وقر

ب- عيوب مديحه:

وقد انعكست هذه الشخصية الضعيفة التي لا تتفق وسيرة الشاعر المداح في فن المديح عنده ، فتحولت القصيدة في كثير من أجزائها عن غاية هذا الفن . ولم يوفق ابن الرومي للفصل بين واقعة اليومي وواقعة الفني ، فإذا مشكلات واقعة تقتحم عليه ساحة المدح ، فتاتي اشعاره معرضاً لأنينه وتظلمه من الدهر والناس .

* الشكوى : داب الشعراء على ان يفتتحوا المدح بالنسيب يخلصون منه برفق إلى إكبار الممدوح والثناء على مكارمه ، أما ابن الرومي فغالباً ما يستهل مدحه بوصف حظه العاثر ، ونجم سعده الآفل ، فتراه يشكو من الشيب والفقر ، ويكثر من البكاء على الشباب ، فيدخل الانقباض على نفسية الممدوح ويفشل في إرضائه ، كما في مدحه ابن المنجم حيث يطيل في هذه المقدمات الكئيبة كأن يقول :

ظلمتني الخطوب حتى كأني       ليس بيني وبينها من حسيب

سلبتني سواد رأسي ولكن       عوضتني رياش كل سليب

عوضتني أخاً المعالي عليا      عوضٌ فيه سلوةٌ للحريب

* الخوف : وربما حمل الممدوح منة الانتقال إليه ، حين يبدأ بذكر مشاق الارتحال وإظهار مخاطر الأسفار فإذا هو يقصر عن الشعراء الذين برعوا في مثل هذه الحلبة ولم يأبهوا لصعاب الطريق ومشقة الظعون إلى الممدوح . ومن هذا القبيل ما جاء في مديحه ابن ثوابه:

وأما بلاءُ البحر عندي فإنه     طواني على روع مع الروح واقب

* السؤال : وببواعث الحاجة الملحة ، لا يتردد ابن الرومي عن التردي في مواقف الاستجداء جاراً ممدوحه إلى الصغار ، حين يجعله يستقبل “المدفعين عن الأبواب “، على حد قوله في مدح علي بن يحيى :

يتلقى المدفعين عن الأب     واب منه بالبشر والترحيب

ويسبق ابن الرومي شعراء الكدية في أساليبهم ، حين يجأر بالدعاء راجياً الله الإبقاء على الممدوح ، ليلقي إليه بالمديح على علاته وينال منه البر والإحسان :

أدام لك الله المكارم والعلا     فإنهما شيءٌ إليك حبيب

وأبقاك للمداح يلقون مدحهم     إليك على علاتهم وتثيبُ

* العتاب : ولعل حرمانه الشديد ، وتعليقه الآمال الكبار على ممدوحه للظفر بما يقضي حاجته ، دفعاه إلى الاعتقاد بان له عند الممدوح حقاً صريحاً أو ديناً مستحقاً ، متناسياً لجهله لوازم هذا الفن ممدوحه وواجب تعظيمه ، حتى توغل بعيداً في أساليب الاستجداء المقيتة ، وانقلب على الممدوح يكيل له الاتهام ، ويرميه بظنونه ، منتهياً إلى العتاب الشديد في أكثر الأحيان ، كقوله في ىل طاهر :

أرى الشعراء حظوا عندكم     سواء عييهم واللسن

سواي فإني أراني أمرأ     هزلت ، وكلهم قد سمن

ج- أثر العصر

هذا الحرمان الذي أصاب ابن الرومي لم يكن صنيعه وحده ، فقد تعاون عليه العصر وما رافق العصر من أوضاع انعكست آثارها في مكانة الشعر مع اتساع حركة العلم وارتفاع سأن الكتابة وزيادة خطورة الكتاب ، وانشغال رجالات الدولة بأحدث السياسة المضطربة ومتاعب الرئاسة والتنافس على السلطة .

وكان ابن الرومي ضعيف الطموح ، غير أهل للغلاب ، وليس جديراً بالمزاحمة ، فقعدت به النوائب عن السعي ، فتقدمه الشعراء. ولم ينهض إلى مزاحمتهم فاكتفى بعرض شعره على الكتاب والأدباء فاستخفوا به وردوا عليه مديحه وانهالوا عليه نقداً وتجريحاً ، وانقلب عليهم ساخطاً هاجياً :

قل للذين مدحتهم فكأنما        مُسخوا كلاباً غير ذات خلاق

ردوا علي صحائفاً سودتها     فيكم بلا حق ولا استحقاق

ما كان مثلي مادحاً أمثالكم      لولا اتهامي ضامن الأرزاق

* شاعر الوصف 

للوصف في اللغة مدلولان : أحدهما نعت الشيء يما فيه ، والآخر هو تبيان أحواله بصورة جميلة حتى قيل :”وصف الشيء حلاه وجمله “

وكلا المدلولين لا يخرجان بالوصف عن الموضوعية والواقعية وإلى هذه الغاية أشار قدامة بن جعفر فقال : ” الوصف إنما هو ذكر الشيء يما فيه من الأحوال والهيئات …-  وأحسن الشعراء – وصفاً من أتى في شعره أكثر المعاني التي الموصوف مركب  فيها ، حتى يحكيه ويمثله بنعته”

والعيب في تحديد قدامة ، أنه لا يرى فرقاً بين وصف العالم الأشياء ووصف الفنان إياها ، وهو مذهب الذين يعتبرون الفن محاكاة للمرئيات والمنظورات بواسطة الحواس الظاهرة ، وخاصة البصرية .

مع ان ابن الرومي لم يهمل الواقع في نماذج وصفه المختلفة فهو يشرك حواسه في إبراز ملامح الموصوف ، إلا أنه لا يبدو من أصحاب الاتجاه “الموضوعي” الذي يقدر الموصوفات في ذاتها. بل هو من اصحاب الاتجاه “الذاتي” لأنه يقوم ما حوله بوجدانه معتمداً في ذلك على أسلوبين : ” الترابطية” و “المزاجية”:

-ففي الحالة الاولى، كان قادرا على تأليف بين أطراف متباعدة أصلاً: كالربط بين الطبيعة والمرأة ، وبينها وبين ” جمال الطفولة.

-وفي الحالة الثانية، يضفي على موصوفات الطبيعة خصائص إنسانية تكشف عن طبيعة النفسية ومزاجه.

وهاتان النزعتان ، تجعلانه من أصحاب ” المذهب ” الابتداعي في الوصف أو “الرومنطيقي” ، وتنأيان به عن أساليب التقليد التي رسف بها غيره من شعراء الوصف الآخرون.

هكذا نراه يتأثر بالطبيعة تأثراً وجدانياً عميقاً ، ويتصور كائناتها تصوراً باطنياً ، فيلونها بتخيلاته الشعورية ، ولا يتقيد بخصائصها وحقائقها الموضوعية.

ومن نماذج وصفه الطبيعة وصفاً ابتداعياً مقطوعته المشهورة فd وصف الرياض:

وريــاض تـخـايــل الأرض فيها             خُيلاء الفتاة في الأبراد

ذات وشي تناسجته سوار                    لبقاتٌ بحوكه وغواد

شكرت نعمة الولي علي الوسمـــ            ـي ثم العهاد بعد العهاد

فهي تُثنى على السماء ثناءً                  طيب النشر شائعاً في البلاد

من نسيم كأن مسراه في الأر                واح مسرى الأرواح في الأجساد

حملت شُكرها الرياح فُأدت                  ما تُؤديه ألسن العواد 

منظر معجب تحيةُ أُنف                      ريحُها ريح طيب الأولاد 

تتاداعي بها حمائم شتى                     كالبواكي وكالقيان الشوادي

من مثان مُمتعات قران                      وفراد مُفجعات وحاد

تتغنى القران منهن في الأيــ                ـــك وتبكي الفراد شجو الفراد

يصف ابن الرومي ,في هذه الابيات , لوحة الرياض الزاهرة , تزهو بها الأرض عند مقدم الربيع , زهو الفتاة بأثوابها الفاتنة ’ ويتراءى طراز الخمائل , كأنه من حوك السحب الواكفة: فالطبيعة في غلالة هذا السحر , الذي أعقب مطر الربيع , ترسل شكرها إلى الأعالي , نسيماً مضمخاً بأريج الأزاهر , وعبق الورد والريحان , يسري في الأرواح فينشيها كما تحيا الجساد بسريان الأرواح فيها , حتى كأن الرياح رسول يحمل عرفان الأرض إلى السماء بنعمة هذا العطاء الذي يزخرف أديم البسيطة بوشيه المختلفة الألوان.

…ويغيب الشاعر , بكل كيانه في هاتيك اللوحة البديعة : في الروضة العذراء ، تثير مكامن اعجابه ، وفي شذى الكمائم المتفتحة تنشره أصابع الدفء وئيداً رفيقاً , فيجد في هذا الشميم براءة الأولاد وطيب جمالهم وحسنهم.

…ويروح , في هذه الاستكانة , يصيخ إلى الحمائم المغردة في الأيك , فيتخيلها وهي شادية وباكية , تشدو منها الناعمة في فرحة اللقاء ومسرة الوصال , وتبكي الملتاعة بوحشة الإنفراد وكآبة الوحدة.

وبتأثير هذه “الابتداعية” في وصفه, اختص مذهبه في رسم معالم الطبيعة بسمتين : “المثالية ” و “الخيالية الخلاقة” فهو يتخطى أصباغ المرئيات الظاهرة , والقسمات البادية في “الرياض” , إلى ايحاءات بديعة , ومعان جميلة . وبهذا الحافز الباطني , ارتفع من حدود ” الوصف التصويري ” إلى أفق  ” الوصف التجريدي ” فرسم الطبيعة الساكنة رسماً حياً طريفاً.

هذا المذهب الفني في وصف الطبيعة , يجسم موهبة ابن الرومي في “التشخيص ” فهو يلتقط صور الأشياء وأشكالها بحسه الظاهر , ثم يحيل هذه المحسوسات , إلى حسه المشترك , المنفعل بوجدانه العميق فتتحول هاتيك المحسوسات رؤى إنسانية وتخطر أمامه شخوصاً من عالم الأحياء , بحيث تستوعب هذه الطاقة ” التشخيصية ” إحساسه اليقظ , وشعوره المرهف , وتتوغل بمصورته , من ” الانفعال الظاهر ” إلى ” الانفعال الباطن ” , فتغدو آلة الإحساس عنده مجرد وسيلة لتتنقله إلى اتحاد بالطبيعة يماثل اتحاد الصوفي بالذات العليا.

وهكذا يغيب الشاعر في أرجاء عالم الكون غياباً حلولياً , يؤوب معه بمختلف من العواطف : فلوحة الرياض تتداعى أمامه صورة , ولوناً وزخرفاً , وتتداعى فوق ذلك , حركة حية , وحنيناً إلى دنيا المرأة , والطفولة , وإذا بعالم الطبيعة هو عالم الشكل : ” ذات وشي تناسجته سوار …منظر معجب …” وإذا هو كذلك : ” عالم النفس ” يشرئب على مرقاة من البيان : “خيلاء الفتاة في الأبراد… ريحها ريح طيب الأولاد … كالبواكي وكالقيان الشوادي”. وقد تتصل جوارحه بأغوار ” نزعة الجنس” فيترجم معطيات الطبيعة ترجمة عاطفية مختلجة بمسرات اللقاء ونشوة الوصال حيناً : “تتغنى القران منهن في الأيك” , وموسومة بآلام الهجر والحرمان حيناً آخر : “…وتبكي الفراد شجو الفراد”.

  من خلال تحليل النص, وتقويم معانيه ’ تنكشف عن “عاطفة” الارتياح إلى “الطبيعة” و”حب” عالمها. ويعتبر “عنصر الشعور” , أبرز العناصر في عملية هذا الخلق الأدبي. ويصح أن ننعته, بالغنى والحيوية والاستمرار فهو يشتمل على ثلاث نزعات من شانها الولوج بنا إلى أجواء الشاعر النفسية , وهي:

أ-النزعة الجمالية:وتتجلى في إعجاب الشاعر بلوحة الرياض وأصباغها الفاتنة التي أبدعتها ريشة الربيع أو الطبيعة الخالقة , وتصور ذلك في ضوء شخصية المرأة (البيتان الاول والثاني).

ب-النزعة المثالية:إذ ربط الشاعر بين مثالين : العطاء والوفاء فتراءت له فتنة الرياض الزاهية , عرفاناً بالخير الأسمى , بهبات العالم العلوي (الابيات الاربعة التالية).

ج-النزعة الذاتية:يثير الروض الأنف في الشاعر عاطفة الحنان الأبوي , كما يوقظ فيه غناء الطير الحنين إلى المرأة , والإحساس بمسرة الوصال وألم الحرمان (الابيات الاخيرة)

ومن الخصائص البارزة أن عنصر الشعور هو أبرز العناصر في عملية هذا الخلق الادبي .ويصح أن ننعت العامل “الوجداني” بالغنى لاتصاله بعدد من المشاعر الجمالية والذاتية ةالانسانسة : فهو يعكس إحساس الشاعر القوي بمفاتن الطبيعة ومكامن السحر فيها , والركون إلى لوحاتها من ناحية , وتجاوز قسماتها البارزة إلى ثناياها الموثبة للوجدان , من ناحية ثانية , كما يرسم عالم الشاعر الخاص , ومثله الاعلى في الحياة : الارتياح إلى الجمال , وحب الطبيعة الخيرة ’ والحنين الى براءة الطفولة , والتوق الى المرأة.وطغيان العنصر العاطفي في هذا الوصف اذاب الجانب العقلي في حدود الناحية الشعورية , فتحولت القيمة العقلية قيما وجدانية , وارتفع ابن الروم من نطاق الموضوعية واغرق في المذهب التحرري او الرومنسي , فلبست الافكار عنده ثوبا فضفاضا من العاطفة اختفت وراءه كل آثار الفكر المجرد.

أما خيال الشاعر فمن النوع الوجداني وهو خيال جامع يشمل مختلف الإحساسات البصرية والسمعية واللمسية، ويصح أن يعتبر في جانب منه خيالاً بيانياً لاحتفال النّص بضروب من الاستعارة: ” ورياض تخايل..” ” تناسجته سوار..” ” فهي تثني..” والتشبيه: ” .. خيلاء الفتاة” ، ” من نسيم كأن مسراه ..” ، ” ريحها طيب الأولاد..”، ” كالبواكي وكالقيان الشوادي” .

ولكنّ عمل الخيال لا يقتصر على الناحية البيانية والتفسيرية بل يلامس ناحية الخلق والإبداع بما في النص من قدرة على التشخيص، جعلت ابن الرومي يبثّ الحياة في كائنات الطبيعة حتى باتت أشبه بالكائنات الإنسانية، فقد تصوّر الأرض تختال برياضها، وتمثّل الرياح رسولاً بينها وبين مصدر العطاء في الكون، وبدا له الطير شادياً ومنتحباً.. وهكذا امتزج عمل المصوّر والرسام في هذه القطعة وتمازج العملان بما هو أكثر حركة وحياة من عمل المثال، فلم تعد الرياض بثوب الربيع ألواناً وحسب بل غدا مشهداً زاخراً بالحياة، وإنسانية الحياة .

أما من حيث المباني التي أفرغ فيها الشاعر تجربته الشعورية، فالألفاظ في مجملها فصيحة بعيدة عن النفور خالية من الغريب والحوشي، دقيقة الاستعمال تشهد للشاعر بالتمكن من اللغة والإلمام الجيد بمعجمها. أما العبارات فتتميز بالوضوح، ويغلب عليها الإسهاب والإطالة.

ومع أننا لا ننكر توفر الملاءمة بين مباني النصّ ومعانيه إلا أننا لا نراها ملاءمة مكتملة الظلال والإيحاءات. ومردّ ذلك استيفاء الشاعر معانيه في إطار المنطق التعبيري، وإحاطته بالفكرة إحاطة تامة، وربطه بين أجزاء الكلام ربطاً محكماً يعوق عند المتذرق مجال التخييل . فالمشاكلة عند ابن الرومي تفتقر إلى الإيقاعات الصوتية، والجرس الداخلي في العبارة، فهو من هذه الناحية يقصّر عن مرتبة البحتري الذي أغنى ديباجته بالقيم الموسيقية .

هذه الخصائص الفنيّة، التي طالعتنا بها مقطوعة ابن الرومي في ” وصف الرياض” تتضح لنا في أكثر القصائد والمقطوعات التي تناولت الطبيعة:

– فالشاعر يمزج بين حبه ” المرأة” وحبه ” الطبيعة” ، فيصور الطبيعة تأخذ زينتها مع تباشير الربيع، فتتبرج بعد حياء، فعل المرأة حين تهم بلقاء الرجل:

 تبرّجت بعد حياءٍ وخفر                           تبرّج الأُنثى تصدَّت للذّكر

  • ويلاحظ في هذا الوصف أن خيال ابن الرومي يؤدي معاني التصوير والتشخيص، ويتجاوز الترجمة عن إحساس الشاعر إلى الترجمة عن تفكيره، فهو ينتخب الكلمات، انتخاباً فنيّاً، انتخاب إيحاء، لا سيما لفظة ” تبرّجت” التي تبرز تعاطف الأرض والربيع، وهو تعاطف يمليه وجدان الشاعر وذهنه وبالتالي ظمأ ابن الرومي الدائم إلى الجمال ، إلى شهوات الحب المحروم أو المكبوت، الحب النهم الذي لا يعرف انتهاء إلى ” الارتواء” أو ” الأشباع”. وهذا الاشتهاء المنهوم يلوح في انشغال تفكير الشاعر المحموم بالمرأة وهيامه برياض حسنها.
  • إنّ الحبّ الكبير بين الطبيعة والربيع، يبرز في كل كائناتها، فالشاعر يسترق السمع إلى نجوى الأغصان، وتداعي الطير، وهو يصف لوحة الفجر الضاحكة:

هبّت سحيراً فناجى الغصنُ صاحبَه                موشوشاً، وتداعى الطيرُ إعلانا

وُرْقٌ تُغنّي على خُضــــْرٍ مُهدّلـــــــــــة                تسمو بها، وتشمُّ الأرضَ أحياناً

تخالُ طائــــــــــرَها نشوانَ من طـــــرَبٍ                 والغصنَ من هزِّه عطفَيْه نشْوانـا

 إن نفور ابن الرومي من مجتمعه، دفعه إلى حالة من حالات ” التعويض” .

فالفراغ الذي عانى منه في دنيا الناس، يحوّل أرجاء الطبيعة إلى مهرجان زاخر بالحبّ والحياة: تتنادى الطيور عند السحر معلنة عودة النهار، وتصل الأغصان ما انقطع من نجواها، بالأمس، ويشدها الشوق إلى الأرض لتتنسم عبير التربة تارة، وتتشرّب شعاع الضياء تارة. والألفاظ في هذا الأداء الأخّاذ ليست صنيع المجاز ولغة البيان، بقدر ما هي ثمرة الإحساس الدافق والانفعال القوي بالطبيعة انفعالاً ” وجودياً” يجعل كل ما فيها ” ذواتاً” شاعرة: فالأغصان تتناجى في وشوشة، والطير تتداعى في غناء: الطبيعة تعطي الشاعر لذة الجوارح وسكينة الحنايا، والشاعر يعطيها بدوره عبارة قلبه، واختلاجات روحه.

  • وإذا كانت يقظة الطبيعة مع الفجر، تشعر ابن الرومي بجمال الحياة فإن هجعتها في المساء توحي إليه معاني الفراق والزوال:

إذا رنّقت شمُس الأصيل ونفّضت            على الأفق الغربي ورساً مُذَعذَعـــــــــــــــا

وودّعتِ الدنيـــــــــــا لتقضيَ نحبـــــها           وشولّ باقي عمْـــــرها فتشـــــــعشـــــــــــــــعـا

ولاحظت الــــــــنوارَ وهي مريضــــــةٌ             وقد وضعت خدّاً إلى الأرض أضْرَعـــــا

كما لاحظت عوّاده عينُ مدنــــف             توجّع من أوصابـــــــــــه ما توّجعنـــــــــــــــا

تعكس هذه الأبيات الحالة ” المزاجية” في مذهب ابن الرومي الابتدائي، فيرسم بنظرته السوداوية، موكب النهار الآخذ بالأفول، فإذا المغيب لوحة شاحبة وكأنه يتطير من مشهد الشمس وقد راحت شعلتها تخمد، وأجيجها ينطفىء تاركة دنيا الأرض في وحشة السكينة، وإذا النبات والأزاهر يعلوها وجوم ويلفّها أسّى، بعد أن تقلّص امتداء الدفء وتلملم شعاعُ الضياء.

هذا المزاج المتطيّر، يجعل ابن الرومي فريسة الوهم والقلق، كلّما قرأ في كتاب الطبيعة، أسطراً سوداء، وأحرفاً قاتمة الظلال، فهو يحب في هذا الكتاب معاني الخير ومعالم العطاء؛ تفرح أعماقه بوابل الحسب يحيي موات الأرض:

 فسخــــا وأسعـــــدَ حالـــبَيْــــه بدرّةٍ                     مــــنـــه، ســواعــــدُ ثــــرّةٌ وعُــــــروقُ

ويغبط الوحش والطير على ما تقدّم مائدةُ الربيع من مطاعم وخيرات، كلّما استحالت دموع الغمام إلى حلّة نبات ضاحك:

ضحك الربيعُ إلى بكاءِ الـــدّيم                    وغدا يسوّي النبتَ بالقممِ

تجــــد الوحوشُ به كـــــفايَتهـــــا                     والطيرُ فيه عتيدةُ الطعمِ

 ولكنه يكتئب حين يطرد الصيف ربيع الأرض، إذ يلوح به الخريف الباهتَ يأتي بصفرته على أصباغ الأرض الزاهية، وخيوطها المشرقة، وضحواتها المتبلجة.

في موصوفات ابن الرومي تتلاقى أبعاد نفسية محبة للحياة والجمال، تستعيض عن

” روابط الاجتماع” بروابط الوفاء في أرجاء الكون الفسيح، في الحدائق الفيحاء، والربى الخضراء والقمم المعشوشبة وكأنه في مسرح الطبيعة الكبير، شاعر يضم بين جوانحه الخافقة قيم الفنون جميعاً، وقدرتها على التمثيل والابداع .

شاعر الغزل واللهو

كانت سائر مقوّمات شخصية ابن الرومي تنأى به عن مجالس مجتمعه الجادّة. وتشدّ إلى عالم الطبيعة، أو تغريه بأجواء اللهو، في الحانة، في دنيا القيان والغناء، مدفوعاً إليها بإحساس المنهوم، وجوارح المحروم. يكشف عن مواضع الفتنة في المرأة، يجدها في دلّها وإغرائها ، في نظراتها الجارحة، ولحاظها الحالمة، في حديثها العذب، وغنائها السالب.

وكما تعددت لوحات الطبيعة الكونية في شعره، تعددت أضواء هذه المجالس الغنائية، يسلطها الشاعر على ” الجواري” الرافلات بالحسن، اللابسات الشفوف، المتألقات الوجوه بسنا الجواهر والقلائد، وهنّ حانيات على أوتارهن، عاطفات على عود أو مزهر عطف الأمهات على بنيها.

وبين مجموعة هذه القصائد، التي نسج ابن الرومي خيوطها من ليالي بغداد الضاجة بالنغم الحلو، والهزج العذب، وأحاطها بإطار من أنفاسه المحمومة، اللاهفة إلى العناق بين تناغم الصورة والصوت… قصيدته في ” وحيد المغنية” . والتي يستهلها بقوله:

يــا خــلــــيــليّ تـــيــمــتــنــي وحـــيـــد                    ففؤادي بها معنّى عــــــــــميـــــــد

غادَة ذاتَـــهـــا من الغُــــصــــْن قدٌّ                    ومن الظّــبــي مـــقـــلتــانِ وجــيــدُ

هكذا يترجم ابن الرومي في مطلع القصيدة عن ولعه الشديد بوحيد، وتعلقه بها إلى درجة الوله، فقد أذل حبّها قلبه وتركه في عناء ونصب.

وكأنه شاء أن يبرر هذا التتيم بأسباب من وطأة حسنها الصارخ، فانتقل إلى تعداد مفاتنها، فرسمها لنا غادة لينة الأعطاف، ذات عينين حوراوين، وجيد كجيد الظباء، سكن الليل فوق هامتها فصبغ فرعها بسواده، وقبّل الورد خديها فطبع أكمامه على وجنتيها فإذا هي تياهة بثوب الشباب، مزهوّة بنضارة الصبا. ولو أن مفتوناً بها سأله وصفها لكان سهلاً أن يقول: إنها أحسن الأشياء، ولكان عسيراً أن يحيط بمواطن هذا الحسن.

وينطلق الشاعر من التشبيب بوحيد إلى التغني ببدائع صوتها، فهي إذا غنّت بدت ساكنة الأوصال لا تجحظ لها عين، ولا تبرز لها أوداج. مديدة الصوت لا يصيبها فيه فتور ولا انقطاع، ولا يعتريه ضعف أو بلادة. وهو مختلف الايقاع، متعدد ملامح الحسن حدّة وسكوناً، تتآلف مقاطعه في تلاؤم حتى ليتيه الشعر على أجنحته اختيالاً حين ترجّع في غنائها وتلفّه بتموجات من عذوبة دلّها ورقة شجوها.

ولا يفوت ابن الرومي أن يصف تأثير هذا الغناء في سامعيها، فهي تخرج الحليم عن رزانته، وتأخذ بلبّ العاقل فتغويه وهي مثيلة ” معبد” و ” ابن سريج ” في الغناء، و

” زلزل” و ” عقيد” في الضرب على الأوتار، وإذا غنّت الأحرار فتنتهم وأذهلتهم عن أنفسهم فإذا هم عبيد لديها، أتباع لمكامن صوتها الرائع الأخاذ.

وينتقل الشاعر من جديد، إلى تأكيد ولعه بحسن وحيد وحبّها فيبسط ذلك في إطار الوفاء لفاتنته: فهو يعرض عن دنيا حسان يسعين إليه لانشغال قلبه بصاحبته، مبرراً لهفته إليها بسلطان الاغراء في صوتها وصورتها، فهي فريدة في هذا الجمال المزودج، لا نظير لها فيه ولا نديد: لا ينجو من هواها كبير أو صغير. يجد فيها الأول نعمى الشباب وأحلامه فيتهافت على أعتابها ويشيب الآخر قبل حين المشيب وهو واقع في بلوى هيامه بدروبها الصعبة الشّاقة.

ويسترسل ابن الرومي في تصوير هواها المستبد به ، ترافقه أطيافه في حلّه وترحاله لا يجد محيداً عنه، فهو يحيط به من كل وجه، فكأنه الشيطان العاتي يسدّ عليه كلّ سبيل.

وتحت وطأة هذا الافتتان الصارخ، يتساءل في شدة عن طبيعة الحسن في وحيد: كيف لا تملّ العين رؤياه، أهو شيء لا يدعو إلى السأم، أم أنه يتجدد باستمرار مجسداً كل معاني اللهو، منظراً ومسمعاً؟

وفي هذا الفتون المحموم يذيّل ابن الرومي قصيدته بعتاب وحيد. فإذا هو عتاب متألم محررم، ظامئ إلى حلاوة الوصل، ضائق بالصدود والهجر، يعيش معلّلاً نفسه بأمنيات من الرضى. ومن خلال هذا العتاب يصور وقع نظرات الجمال في نفسه: النظرات القاتلة التي لا يقوى على احتمالها، والنظرات التي تخلده بما تبعث في كيانه من عوامل الامتاع. وفي هذه وتلك يبدو حائراً في أمر وحيد وهي تترك الصحاح مرضى، يذوبون نحولاً، وهي كالغصن الناعم الغضّ، يزوره طيف حبها، فيسلبه لذة الرقاد، فيظل ساهداً مشغولاً بالنجوى والنسيب.

هذه المعاني التي تعرّض لها ابن الرومي، ذات طبيعة مركبة، فهي تجمع بين الانفعال، والشعور، والتجربة، وتمزج بين الاحساس والفكرة. ولكن هذا المحتوى المركّب يكاد يتلاحم في إهاب عاطفي واحد: ” الإعجاب بالجمال” .

فإذا اعتبرنا هذا الاعجاب الذي ينظم هذه الانعكاسات النفسية المختلفة، هو العاطفة الرئيسة في القصيدة، فإن هذه العاطفة بالذات تنتظم بدورها متعدداً من معطيات الوجدان أبرزها حبّ الحياة ولذات الحياة، متجسدة في ” مثال” الشاعر، مثال الجمال نفسه: التناغم في شتى أفانينه وضروبه.                 

هكذا يتضح أن الطبيعة المركبة لهذه المعاني هي ثمرة ذائقة جمالية ورحبة الأبعاد. فابن الرومي يدرك الجمال باحساس الجميل فينفعل بالشك المتلائم الجزئيات، والنغم المتوازن الايقاعات، ليرتقي بهذا الادراك الحسّي، إلى الادراكين الشعوري والفكري، يستمد الأول من تجاربه الوجدانية في النوعيّات الجمالية ويتسمد الثاني من معرفته في الجماليات المجرّدة وبعضها نتاج الحقائق الجمالية النابعة من ثقافته العقلية وبعضها الآخر وليد قدرته على استخلاص الماهيّات الجمالية من المحسوسات المرئية.

بتحليل طبيعة المعاني الواردة، لا سيما ما تعلق منها بغناء وحيد وجمال أدائها، يتضح المقصود من ” المزج بين الاحساس والفكرة..” فالشاعر يتذوق الجمال بالتواجد الذي يتحققه بين ماهيته في العقل، وتأثيره في الحس: فهو يتجسد” الصورة” في الموضوع، ويحكم على ” الموضوع” بالصورة، أو القياس الصوري..

والمعاني المتقدمة تنأى عن السطحية، وترتفع بالوصف إلى الأصالة الفنية، المدعمة بالفكر الناقد، والعقل المثقّف، فقول ابن الرومي في وحيد:

وغريرٍ بحسنها قال: صفها قلت: أمران هيّن وشديد يسهل القول: إنّها أحسن الأشياء طرّا، ويعسر التحديد

… هذا القول يكاد يدخل في بعض مذاهب ” الجمالية ” وخاصة المذهب المثالي، الذي يعتبر الجمال نوعاً من الكمال المطلق، ويقرّ بصعوبة تحديد طبيعة هذا الكمال. وبالامكان التأكد من ثقافة الشاعر الجماليّة، بالوقوف عند الجانب الوصفي، الخاص في هذه القصيدة بأداء وحيد في الغناء أو بالأحرى جمال أدائها. فقد أيّد ابن الرومي إحساسه بروعة غنائها في نطاق القواعد الفنية والجمالية، المتعارف عليها في دنيا الموسيقى واللحن. ومن هذه القواعد : التلاؤم في أبعاد الصوت، مع مراعاة التناسب في المسافات الصوتية، ” تتغنى كأنها لا تغني” والتوازن بين الايقاعات:

” من هدوُ ليس فيه انقطاع وسجو..” والتقارب بين الأنغام بالترجيع الموزون ” فتراه يموت طوراً ويحيا ” مع المحافظة على وحدة التأثير ” طاب فوها وما ترجّع فيه…”  وغير ذلك من محاسن الصوت وإجادة اللحن .

وكما تؤكد هذه الأوصاف عمق المعاني، وغناها بالفكرة، والحقائق الموضوعية، تؤكد كذلك خصب العاطفة وحيويتها وقدرتها على الاستمرار:

وأول مظاهر الغنى الشعوري، ميزة ابن الرومي في تحويل معطيات التجريد، إلى معطيات وجدانية، فهو لم يسق قواعد الغناء في إطار الموضوعية البحتة، وإنما أسبغ على عقله المثقف لباساً من الشعور الأخاذ يتبدّى لنا في قوة إحساسه بالغناء البارع، وتمثيله هذه البراعة بالتصوير، سلباً كما في قوله: ” تتغنى كأنها لا تغنّي” وإيجاباً: ” لا تراها هناك تجحظ عين لك منها ..”

أما حيوية العنصر العاطفي فممنوط بقوة التأثير والإيحاء وكلاهما مرتبط بخاصيّة ثانية من خصائص ابن الرومي في الوصف، وهي ميزته في تجسيد أحاسيسه بالتمثيل الواقعي الصادق والإحاطة بالموصوف بالقدر الذي يتطلبه اكتمال هذا التمثيل .

 إنّ الإلمام بمعانيه المتقدمة يحمل قسراً على تخيل جوّ الغناء الحافل بما يثير نشوة السامع، وينتزع إعجابه ولا ريب في إن توافر عوامل الإيحاء في التعبير العاطفي من أسباب بقاء أثر ” العاطفة” في العمل الأدبي، فابن الرومي لم يخرج في وصفه صوت وحيد عن حدود الواقع، فهو وإن جعل أداءها نموذجياً فامكان وجوده لا يخرج إلا حدّ الاستحالة. أضف إلى ذلك أن استمرار تأثير الباعث العاطفي يعود كذلك إلى وحدة الانفعالات الشعورية المتعاقبة في هذا الوصف والناشئة من الربط المحكم بين المعاني، كما سيتضح في الكلام على أسلوب القصيدة .

والخيال في هذه القصيدة من النوع الأدبي، وهو على الغالب خيال تصويري وتأليفي أكثر منه خلاقاً أو إيحائياً: فابن الرومي لم يتعدّ وهو يشبّب بوحيد جانب الشكل، ولذا كان غزله أغرق في الحسّ وأنأى عن الوجدان لا يرتفع إلى لطائف الأخيلة الروحانية ولكنه يحوم طويلاً عند نواتئ الصورة وقسماتها المرئية. وقد استنفد تقريباً أكثر طاقة خياله البصري والسمعي في هذه الأبيات. فرسم وحيد المغنية، عيناً، وجيداً، وشعراً، وخدّاً، وعكف على مختلف المحسوسات والألوان الملائمة لهذا الرسم التصويري.

كذلك رسم ” صوت وحيد” فأجاد التوفيق بين أبعاده في نطاق الأصول الغنائية . ثم إن إحاطته بجزئيات الموصوف لم تركز على الأهم وحسب، بل تعمد الإلمام بكل تفاصيل الموصوف فلم يدع للمتذوق مجالاً للاستيحاء وإن كان هيأ له أجواء الاستمتاع.

ولئن قصّر ابن الرومي دون ” الخلق” و “الإلحاء” فقد استوعب في وصفه وتصويره طبيعة البيئة وملامح العصر. ففي القصيدة أثر من واقع الحياة اللاهية في بغداد بما فيها من سعي إلى لذات الحس وآثار الحضارة المادية، تلك الآثار التي استهوت الناس على اختلاف طبقاتهم . فقد أومأ غير مرّة إلى ذهاب وحيد بعقول القوم كبارهم وصغارهم، فهي إذا غنّت الأحرار ” ظلوا وهم لديها عبيد” وفي ” هوى مثلها يخفّ حليم .. ويغوى رشيد”.

 وفي الوصف يتعانق أثر هذه الحضارة المادية، بحضارة العصر الفكرية، ما دامت القصيدة تكشف عن ثقافة ابن الرومي العقلية، وأقل ما فيها تأثر أسلوبه بالمنطق، وولعه بتتبّع المعاني وتفصيلها.

وإذا كانت هذه القصيدة قد زودت بخطوط عامة من واقع بيئة الشاعر، بخلاف أكثر قصائده المتعلقة بالمآدب، والملاهي، والقيان، فهي قوية الدلالة على عالمه ودخائل نفسه، وطبيعة مزاجه. فهي معرض صادق لشخصيته، المادية والمعنوية، ولئن كان وصفه الرياض ينم على حبّ الطبيعة والاطمئنان إلى كائناتها، فإن وصفه القيان وليالي الغناء ينم على حبّ الحياة والتطلع إلى مسرّات الحواس فيها. فهو من عبّاد اللذة، مسرف الإحساس بالجمال المادي إلى درجة النهم متنبه الحواس إلى درجة  الإغراق في أضواء الشكل، قليل النفاذ إلى لباب الجوهر، فهو ينفعل بالحسن انفعالاً ظاهرياً متلظياً بالشهوة والتوق الملحاح، لا يجد سبيلاً إلى راحة الجوارح ما دام تائها عن معارج الروحانية. لا توحي له المرأة أكثر من مفاتن الجسد. ولذا كان توغله في درب اللذة يؤدي به إلى منعطف الألم، لأنه التوغل الذي يلقي به في هوّة من الشراهة لا قرار لها، فتراه يحس دائماً بالحرمان من متع الحواس. وهذا يفسر تجدد مفاتن ” الجمال الشكلي” في عينه بفقدان الارتواء ” أهي شيء لا تسأم العين منه.. أم لها كل ساعة تجديد” . كان يدرك جوهر الأشياء بالعقل، دون القلب. وكان العقل يملي على حواسه أفاقاً من الجماليات المادية تعجز ذاته عن بلوغها، فيقع تحت وطأة الشكوى ويلج إلى أنين القنوط، والخيبة، ويندفع في العتاب المتهم، والاتهام العاتب:

حظّ غيري من وصـــلكــــم قرّة العين                 وحــــظــــّي البـــــكـــاءُ والتسهيــــــــدُ

 أما الأسلوب فبعيد عن الزخرفة المصطنعة، فابن الرومي لا يتكلف أسلوبه، ولا يوغل في الصناعة اللفظية. والقصيدة المتقدمة تمتاز بالوضوح، تكاد تكون خالية من التنافر، ومراعية شروط الفصاحة في المفرد والمركب. ولكن الشاعر يبدو مولعاً بأداء المعنى الواحد بصيغ مختلفة، وهكذا تتسم أبياته بظاهرة التكرار والترادف.

أما في الجانب البياني فقد عمد الشاعر إلى العناية بالتشابيه في كثير من أبياته:

  • في البيت الثاني شبّه قامة وحيد بالغصن، وعينيها وجيدها بعيني الظبي وجيده.

 وفي البيت التاسع شبه امتداد نفسها في الغناء بدؤوب عاشقيها على الهيام بها.

كذلك شبّه وحيد في الغناء والطرب ببعض المشاهير في هذين الفنّين أمثال ابن سريج وزلزل وعقيد.

– وقد يرتقي في بيانه من التشبيه إلى الاستعارة والتشخيص، يستعير الاختيال للنغم ” فيه حلي من النغم مصوغ يختال فيه القصيد”. ومع أنّه لا يوغل في صناعة البديع، إلا أن قصيدته لا تخلو من بعض جوانب هذه الصناعة، فتراه يجانس بين ” وحيد” و ” التوحيد”، ويلحّ أكثر على الطباق ” يموت طوراً ويحيا”

” بسيطه والنشيد” ” الوعد والتهديد” ” الصحاح والمرضى” ” فهي نعمى” وهي بلوى”. ومن ألوان بديعه توكيد المدح بما يشبه الذم:

عــيــبــهــا أنــهــا إذا غــنــّت الأحــرار          ظـــلّـــوا وهـــم لــديــهـــا عـــبـــيـــد

ويلاحظ أن هذا البيت شمل الطباق كذلك بين أحرار وعبيد .

تلك أبرز الخصائص المعنوية واللفظية والبيانية التي تجلّت في هذه القصيدة والتي لتكشف عن نواح غير قليلة من أثر العصر والبيئة وثقافة الشاعر ونفسيته ومزاجه.

وعلى وجه العموم يكاد يكون الوصف مظهر شاعرية ابن الرومي الخلّاقة وعبقريته، حتى  اتسمت جميع أغراض شعره بسمة هذا الفن. ولم تقتصر موصوفاته على الطبيعة والمرأة، فقد تجاوزهما إلى آفاق رحبة لم يسبقه إليها الشعراء ببواعث كثيرة من مزاجه وطباعه وأخلاقه وواقعه، من مثل:

  • وصف الأطعمة والفاكهة:

فهو يصف المآكل والفواكه وأنواع الحلوى بباعث من نهمه وشرهه، إذ كان ذا معدة شيطانها رجيم :

لَـهـْـفـي عَـلـَيـهـا، وأنــا الَزّعـيـمُ                بـمـعـدةٍ شـيـطـانُـها رَجــيــــمُ

فاجتمع في شعره وصف الدجاج، والسمك، والقطائف، واللوزينج، والزلابية، والموز، والعنب، والتفاح. حتى كاد يختصّ بوصف المآدب ولذات الطعام. (Klonopin)

وقد أذكى حرمانه حدة نهمه وساعده على الدّقة في هذه الموصوفات فلم يقف عند اللون والشكل بل تعدّى إلى المذاق، فأجاد في التشبيه والمقارنة، وتأثّر بمشاهد الأطعمة فانفعلت حواسٌه، فلم يأت وصفه لها بصرياً بل منساقاً مع مذهبه الوجداني الذي تقدّمت الإشارة إليه.

وفي حدود هذه الخصائص تبدو الدجاجة أشبه بأوزة، وكأن جلدها تبر ولحمها لجين، وتراه يشتاق إلى السمك المشويّ، اشتياق الإنسان إلى من يحب كقوله:

ويا حـبـّذا إمعانـُـنا فيه ناضـجـاً                     كـمـا جاءَ من تنّـوره المتـوقـــــــّدِ

وإني لمشتاقٌ إلى عَودِ مـثلــِه                     وإن كنتُ أبدي صفحةِ المتـجلــّد

وفي وصفه العنب الرازقي، يهمل مقاييس الواقعيّة ويلجأ إلى التخييل يستوحي شكل العنب من عالم المرأة، وشفافيته من الضياء والنور:

ورازقــــيِّ مُــخــــطـــفِ الخُـــصــــورِ                    كــــأنّـــــهُ مـــخــــازِنُ البـــلّـــِور

ويلجأ إلى التصحيف في وصفه الموز، ويتخيل القلوب تنازع الأحشاء للفوز به، وفي هذا دليل على ” انطوائيته” في الوصف:

إنه الفوزُ مثلَ ما فقدُه المــو                تُ لقد بانَ فضله لا خفاءَ

ولهذا التأويـــل ســــــمّاه مَـــــوزاً                من أفادَ المعانيَ الأسمــــاءَ

نكهةٌ عذبةٌ وطـــــعـــــمٌ لــــذيــــذٌ                 شاهدا نعمةٍ على نعمـــــــاءَ

لو تكونُ القلوبُ مأوى طعامٍ                نازعتْه قلوبُــــــنا الأحشـــــــاءَ

 

  • وصف أهوال السفر..

وكان ابن الرومي ضنيناً بحياته، جباناً، حريصاً على البقاء، فأورثته هذه الصفات الحذر من مخاطر السفر، فوصف مشاق الارتحال، وأهوال الانتقال فوق لجج المياه ولم يفته وصف السفن تتلاعب بها الأمواج فوق متن دجلة، وجسّمت له أعصابه الضعيفة وخياله البعيد وجهله بالسباحة هذه المخاوف ودفعته الظنون إلى أن يتوهم للنهر مكراً وخداعاً:

لدجلةَ خِبٌّ ليسَ لليمّ إنّـــهـا         تُرائي بحــــُلْمٍ تحتَه جهـــــلٌ واثِــــــــبِ

تَطامنُ حتى تَطْمِئنَّ قلوبنـــا          وتغْضَبُ من مزحِ الرّياحِ اللواعبِ

إذا هاجتْ بها الريحُ هيجةً         نُزلزلُ في حومـــــــاتِهـــــا بالقــــــوارِب

 

  • وصف ذوي العاهات:

نضيف إلى جدول موصوفاته وصف العناية بالطرديَّات كصيد الطير وما يتصل بذلك من وصف الرماة، وأدوات القنص، ووصف العاهات والأشكال القبيحة.

 وقد ذاق ابن لارومي هناءة الوصال وآلام الصدّ والهجران فوصف النساء صورة وطبيعة في ضوء شعوره نحوهن:

ثمارُ صــــــــدقٍ إذا عاينتَ ظاهرهــــا          لكنها حينَ تبلو الطعمَ خُطبـــــان

تجاورت في غصونِ لسنَ من شجرِ        لكن غصونٌ لها وصلٌ وهُجرانُ

*

ولم يكتف بوصف المحاسن والمقابح فيما يبرز للحسّ الظاهر منه وحسب، بل كان يستقرئها في العادات والطبائع، في خصال الناس وشمائلهم، غير أن هذه الصفات المعنوية لم تكن تتكشف له بالتحليل الصائب والنظرة السديدة، فعل علماء الأخلاق أو النفس، وإنما من زاوية النقد التأثّري، والانطباعات التي تستقر في ذاته تبعاً لسلوك الآخرين تجاهه وصنيعهم معه. وقد أمدّته خيبة الآمال، وما تراءى له من غدر الزمان والأصحاب بميل شديد إلى الانتقاد، ومن جميل ما قال في هذا الوصف المعنوي، هذا الحوار بينه وبين هنوات أحد أصدقائه، ومنه قوله:

يا أخي، أين ريْعُ ذاك اللقاءْ؟                     أين ما كانَ بينـــنا من صفاءِ

كشفت منكَ حاجتي هنـــــــوات                     غُطِّيَـــت برهــــــةً بحسنِ اللقاءِ

تركَتْني ولم أكنْ سيءَ الظنِّ                      أُسيء الظنـــــــونَ بالأصــدقاءِ

قلتُ، لما بَدَتْ لعيني شــــنعاً                      رُبَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ

ليتني ما هتكتُ عنكنَّ ستراً                       فثويتنَّ تحتَ ذاك الغطاءِ

قلن: لولا انكشافُنا ما تجلّتْ                       عنك ظَلماء شُبهةٍ قتماءِ

هذه النماذج المختلفة تؤكد ميزة الشاعر الوصفية، وتعدد العوامل التي هيأته للبراعة في مجالاتها المختلفة.

*

تلمّ بالإنسان في حياته أحداث وأرزاء، تثير فيه الحزن، وتذيقه اللوعة والحسرة، وربما استدرّت مدامع عينيه، وانتزعت آهات أعماقه… ويبقى الموت الحدث الأعظم، والمصاب الأكبر في الوجود الإنساني، لأنه المأساة الأفدح، وإرادة القدر التي لا تردّ، ومشيئة القضاء الذي لا يقهر.

أمام حتمية هذه المأساة، وقفت الإنسانية منذ الأزلية، تعبر عن عاطفة الألم كلما امتدت يد الغيب، لتعطل بالموت فعل الحياة في الإنسان. فالرثاء هو التفجّع على الميت، وبكاء فضائله، وتصوير مشاعر الوجدان حيال حادثة الموت. ولا ريب في أن هذا اللون من العاطفة قد ارتقى خلال الأعصر، حتى استوى فناً من الفنون الغنائية، وشكلاً من أشكال الأدب.

وتختلف طبيعة أدب الرثاء باختلاف صلاة الراثي بالميت، وشخصية المرثي. وربما كانت نظرة الشاعر إلى الحياة ذات أثر في تلوين الرثاء بلون معين من الشعور، أو طبعه بطابع خاص. فما هي أنواع الرثاء تبعاً لهذه العوامل؟

*

وللرثاء، بالنظر إلى تفاوت حظّه من العاطفة، والغرض الذي يرمي إليه، ثلاثة أنواع: الرثاء العاطفي أو (الندب) والرثاء المديحي أو (التائبين) والرثاء الحكمي أو (العزاء) :

فالرثاء العاطفي وهو هذا الرثاء الصادق الملتاع، الذي ينمّ على الحسرة الشديدة والذهول إزاء هول الموت، والجزع من خطبه، مفعمة بالتوجّع، وحرقة الأحشاء، مليئة بالتأوّه، تحمل مشاعر الثكل، أو الترمل، أو التيتّم، وما شابه.

وبتناول الرثاء العاطفي :

  • رثاء ” الأهل والأقارب” ومن ينزل منزلتهم. والشعر العربي حافل بهذا الضرب، نجد فيه رثاء الابن، والأخ، والزوج، والأم، والزوجة، والصديق، والأحبة.

وللرثاء العاطفي ناحيته التي تتصل بالمشاعر الدينيّة أو القومية. فمن قبيل ” الرثاءِ الديني” رثاء النبي وآل بيته، ورثاء الراشدين، ومن تلاهم من الأئمة. ومن قبيل       ” الرثاء القومي” رثاء شعراء الفرس البرامكة بعد النكبة التي حلّت في عهد الرشيد.

  • وقد أضاف الشعراء إلى وتر هذا الرثاء الحزين، إيقاعاً جديداً ألا وهو ” رثاء الدول” و” البلدان”، وبكاء ” الحضارات القديمة” ” والممالك الزائلة”. ونحن واجدون في الشعر العربي، رثاء إمارتي المناذرة والغساسنة، ودولتين بني أمية وبني العباس، كذلك بكى شعراء الأندلس دولة العرب في الأندلس، حين هوى نجمها وأفل مجدها.

ومن أروع المراثي التي قيلت في بكاء المدنيات الغابرة سينية البحتري في وصف الايوان ، ولابن الرومي قصيدة في ” رثاء البصرة” بعد فتنة الزنج، كما سنرى. 

والرثاء المدحي: هو الذي عناه قدامة بن جعفر بقوله: ” ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك، مثل كان، وتولّى، وقضى نحبه. وما أشبه ذلك” . فهذا التحديد ينطبق على ما يسمى ” التأبين” ولا يشمل غيره من أنواع المراثي، ولا فرق بينه وبين المدح، كما يرى قدامة، إلا ذكر ما يدل على أن المقصود بالثناء والتعظيم قد ولّى وهلك. وهو يقول بعد الذي تقدم من عبارته: ” وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه، لأن تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح به في حياته” . ويقول ابن رشيق: ” وليس بين الرثاء والمدح فرق إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود به ميت”.

ومع أن تحديد كل من قدامة وابن رشيق، كان تعريفاً عاماً لهذا الفن إلا أنه أكثر ملاءمة لرثاء الصنعة، التي تعوزه طاقات الوجدان المنفعل والمتأثر بحادثة الموت. ولذا نرى هذا اللون قائماً على براعة الأداء، وحسن اختيار المعاني، والدقة في تصويرها فهو أقرب إلى ” الفن المدروس” منه إلى ” إلى الفن المطبوع”، لأن الشاعر لا تصله بالميت تلك الصلات القوية من القرابة والإخاء، أو العقيدة، وسواها، فيحاول أن يستعيض عن عطاء القلب بعطاء الفن، ولذا اعتبر تأبيناً، وسميناه رثاء مدحياً لأن غايته إكبار زعيم راحل، وإجلال ذكراه.

 ومن خصائص هذا الرثاء، حسن التصرف فيه، بسمات المدح، ” وهو أن يكون الحيّ مثلاً يوصف بالجود، فلا يقال كان جواداً، ولكن يقال ذهب الجود، أو فمن للجود بعده، أو ليس الجود مستعملاً مذ تولّى”. ومثل ذلك في سائر الصفات.

وقد تناول الشعراء في هذا الضرب تأبين الملوك، والخلفاء والأمراء، والوزراء، والقادة، وكذلك كبار القوم وسادتهم، وعلماء الأمة وأدبائها ورجالاتها. ومن الأسباب التي كانت تروّح لهذا الأسلوب، حياة الشعراء بأبواب الخاصة من السلاطين والحكام، وأصحاب الثروات والوجاهة، وفوزهم بنوالهم وهبات كرمهم، فإذا أصاب الموت واحداً من هؤلاء الممدوحين، عمد المادح بالأمس إلى الرثاء اليوم، ولو من باب التظاهر بالوفاء، كأن يلتفت شعراء هذا الفن إلى مآثر أمثال هؤلاء الراحلين، يعدّدونها ولا يجدون حرجاً في الخروج عن الحقيقة وولوج أبواب المبالغة.

والرثاء الحكمي: هو الذي دعاه البعض ” رثاء التعزية” أو ” العزاء”. وهذا النوع شبيه برثاء المدح من ناحية، ومتميز عنه من ناحية ثانية. فقد تجد فيه تعظيماً للخطب، إشادة بما كان عليه المرثي من النبل والسمو والسماحة والكرم؛ ولكن الشاعر يميل إلى تخفيف المصاب، وإدخال الصبر والسلوان على القلب المفجوع فيجنح إلى تصوير الموت، ويمعن في خواطر العدم، والفناء، وقد يضرب الأمثال بالأمم الغابرة، والملوك الأوائل الذين نزل بهم قضاء الدهر، فلم تردّ عنهم سلطة ولم ينفعهم عزّ ولا صولجان.

وقد بلغ أبو العلاء المعري ذروة ” الرثاء الحكمي”، بل ربّما حوّل المرثية فلسفة قاتمة كئيبة، ومن أدل شعره على هذه الظاهرة، قصيدته الدالية في رثاء أحد الفقهاء والتي يقول فيها:

غَير مُجدٍ في مِلَّتي واعتقادي                     نوحُ باكٍ ولا تَرنّـــــــــُم شـــــــــــادِ

وشبيهٌ صوت النعيِّ إذا قيسَ                     بَصْوتِ البشير في كُلِّ نـــــادِ

صاح هذي قبورُنا تملأُ الرّحْبَ                    فأين القبورُ من عَهْدِ عـادِ؟

تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجبُ                      إلاّ من راغِــــبٍ في ازديــــــــــادِ

 وخلاصة القول إن العزاء، قد يكون في رثاء العاطفة، ورثاء التأبين، وقد يكون مستقلاً. ولا ريب أنه بدأ ساذج الفكرة، بسيط الدلالة ثم ارتقى بتقدم الزمن حتى بات قريباً من المعاني الفلسفية كما وجدت عند أبي العلاء.

تلك كانت لمحة عن طرائق الرثاء عند الشعراء، جعلناها تمهيداً لدراسة بعض جوانب هذا الفن عند ابن الرومي.

*

ويتشعب الرثاء عند ابن الرومي إلى ثلاثة أنواع: شخصيّ، ومعنويّ، واجتماعيّ.

  • الشخصي:

أما رثاؤه الشخصي فيقتصر على الأهل والأقارب، ومن كان في منزلتهم كرثائه المغنية بستان، و” يحيى بن عمر” الشهيد العلوي. ويضم رثاؤه مجموعةً من النماذج قلّما نجدها عند شاعر آخر، فقد أفجعه الدهر بموت الأم والأخ والخالة، كما أصابه في أولاده الثلاثة وزوجته، وتركه في وحشة الحياة ينتظر مصيره المحتوم. وربّما اجتمعت خصائص هذا اللون في رثاء ولده الأوسط ومطلعه:

بُكاؤكما يَشفِي وإن كان لا يُجدي    فجُوداً فقد أودّى نظيرُ كما عنـــدي

ألا قاتَلَ الله المنايــــــــــــا ورمْيَـــــها     مِنَ القوم حبّاتِ القلوب على عَمْدِ

تَوَخّى حِمامُ الموتِ أوسَطَ صِبْيَتي   فَللَّه كيفَ اختارَ واسطةَ العــــــــــقدِ؟

 يعبّر ابن الرومي في رثاء ولده الأوسط عن إحساس الأب المنكوب بإحدى فلذاته، عن الفراغ الذي يظل فراغاً، فيتمثل الأبناء في دنيا الآباء، كالجوارح من الإنسان، لكلّ مكانه في أفق النفس، لا يملأ أحدهم زاوية الآخر من هذا الأفق: إنه الحب الكبير الموزّع، لا يجور بعضه على حيّز الآخر، إنه الحب الذي لا يرتضي في مقاييس الشعور مقاييس الكم، ويبقى غير قابل للتكافؤ أو التعويض.

ويسترسل ابن الرومي في الترجمة عن أساه بهذا الفراغ، الذي يزداد عمقاً، ويلذع فؤاده لذعاً كلما نظر إلى ولديه الباقيين، دون أخيهما الراحل، فيوجّه خطابه إلى هذا الأخير معلناً أقصى درجات اللوعة، غير واحد إلا الوحشة، زاهداً في كل ما حوله. ويختتم هذا الرثاء بالدعاء، يستمطر الرحمة لولده من كل غيث منهمر:

عليك سلامُ اللَّهِ مِنّي تحيّةً          ومن كلّ غيْثٍ صادقِ البرق والرّعْدِ

لا يلتزم ابن الرومي في رثائه بالمعاني والصور التقليديّة، إلا قليلاً من مثل استقساء الغمام ومخاطبة العين، واستدرار الدمع:

بكاؤكما يشْفي وإن كانَ لا يُجْدي           فجُودا فقد أَوْدى نظيرُكما عنْدي

إن فداحة الخطب، وعمق الجرح لا يقتصران على عبراتٍ مسفوحة فرثاؤه يتميّز بالانفعال الصارخ، ومشاركة الحواس وسائر أبعاد الكيان، بحيث يعطل الألم طاقة الروح، بل ووظيفة الحياة في وجوده، فلا سبيل عندئذٍ إلى عزاء، بل كلّ معالم الأنس تهيج عنده ضرام الحزن:

أرى أخويْك الباقيَين كليهما          يكونان للأحـــــــــزان أورى من الزّنــــدِ

إذا لعبَا في ملعب لك لذّعَا          فؤادي بمثَل النّار عن غير ما قصدِ

فما فيهمَا لي سلوةٌ بل حزازة        يهيجانها دوني وأشقى بها وحــــدي

*

وبتأثير هذه المشاركة يلعب التصوير دوراً بارزاً في مراثيه، فابن الرومي يحملنا على التعاطف مع أرزائه، بالاستعاضة عن المألوف من أساليب التفجع كالمبالغة والتهويل، بتشابيه حيّة مثيرة كأن يصف لحظة التحوّل من ضجّة الحياة إلى ضجعة الموت، يصوّر ولده الأوسط وقد ألّح عليه النزف، فشحب لونه وتحوّل عن حمرة الورد، إلى صفرة الجادي، وتلاشت نضارة الروح وبهجتها فيه كما يذوي القضيب من الريحان.

وإذا رثى الشهيد يحيى بن عمر، تمثّله فوق جواده يتلقى طعنات أعدائه، حتى يهوي إلى الأرض ويعفّر بالترب جبينه، فإذا نحن أمام لوحة تبعث الحقد على قاتليه:

كأني أراهُ والرماحُ تنوشــــــــــــُه                      شوارعَ كالأشطان تُدلى وتُخْلَجْ

كأني أراهُ إذ هوى عن جوادِه               وعفّر بالتربِ الجبييُ المشجّجُ

وفي هذا الرثاء يتجلى تشاؤمه وعناده القدر، وعدم ارتياحه إلى حكم القضاء، وفقدان الوسيلة إلى الصبر والعزاء:

محمّد ما شيء توهّم سلوةً                 لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد

 *

ففي ضوء هذه الميزات يعتبر الرثاء الشخصي من أصدق أغراض الشعر ترجمة عن نفسية ابن الرومي، فهو بين شعراء هذا الفن، كالخنساء وجرير، ومتمّم بن نويرة وأبي ذؤيب الهذلي، أكثرهم نواحاً وأقدرهم على إثارة المشاركة الوجدانية.

  • الرثاء المعنوي:

ومحور رثائه المعنوي التحسّر على الشباب، ومن خلاله تطالعنا ملامح مذهب خاص في فلسفة الوجود والعدم، كقوله:

لعمرك ما الحياة لكلّ حيّ                         إذا فقد الشبابَ سوى عذابِ

  • الاجتماعي:

ولم تكن هذه المناحات المتتابعة لتطوي ابن الرومي على قروحه الذاتية، فقد كان وجدانه الرحب يتسع للمآسي العامة، يشارك فيها بآهاته وغضبه، حتى لتغدو من قبيل الرثاء الاجتماعي أو الإنساني. فقصيدته الجيميّة في مصرع يحيى بن عمر على يد آل طاهر، قادة بني العباس لم يكن ندباً للشهيد، بقدر ما هو ندب للعلويين من آل البيت، ودعوة إلى صدّ الطغيان وردّ المظالم عن دوحة النبوّة السامقة.

ورثاؤه البصرة لم يكن دمعة يذرفها شاعر على مدينة حلّ بها الدمار والخراب وأُذيق أهلها ألواناً من القتل والتنكيل، بل صرخة إنسانية نعى فيها الضمير الإنساني، بالذات:

ذادَ عن مُقْلَـــــــــتي لذيـــــــذَ المنامِ                   شُغْلُها عنهُ بالدّموع السجامِ

أيّ نومٍ من بَعدما حلّ بالبصرة                    ما حَلَّ من هــــــناتٍ عِظـــــــــامِ

إن هذا لأمـــــــــــرٌ مـــــــن الأمــــورِ                    كاد أنْ لا يقومَ في الأوهــامِ

  نظم ابن الرومي هذه القصيدة، في رثاء البصرة، مصوِّراً نكبتها على يد جماعة الزنج.

وقد حلّت النكبة بالبصرة في القرن الثالث الهجري (255ه) في عهد الخليفة المعتمد. وكان الباعث على هذه الفتنة، أو الثورة، كما يسمّيها المؤرخون اتساع الهوة بين طبقتين في المجتمع العباسي: طبقة النبلاء من الحكام والقادة، وطبقة العبيد من أصحاب الحرف والمهن اليدوية، وأكثرهم من الزنوج الذين كانوا الذين كانوا يعملون في ضاحية البصرة إما في زراعة الأرض واستصلاحها، أو في استخراج الملح، والذين كانوا يعانون من الذلّة والفقر.

ويبدو أن رجلاً من ذوي الطموح، الطامعين بالسيادة يدعى عبد الله بن محمد الورزنيني- زعم انتسابه إلى الأسرة العلوية- هو الذي أثار هذه الفتنة، وألّب العبيد في البصرة، وسواها من مدن العراق، على سادتهم، حتى اجتمع له منهم أتباع يقدّرون بالآلاف الكثيرة. فولّى على فريق منهم علياً بن أبان المهلي وأمره بدخول البصرة، فكانت الفاجعة، ونكبت المدينة في أهلها، ودورها، ومساجدها. وغلب عليها الزنج قرابة أربعة عشر عاماً، حتى تمكن ” الموفّق” أخو المعتمد من القضاء على جموعهم وتخليص المدينة منهم..

وقد ألهبت تلك المأساة شعور ابن الرومي، فنقم على صاحب الزنج، الذي قتل آلاف الأبرياء، وهتك الحرمات، وأزال معالم العمران في حاضرة من حواضر الدولة آنذاك.

*

في هذه القصيدة، يعزف ابن الرومي، لحن رثاء وجداني غنيّ بالمشاعر الحزينة، متعدد ملامح الأسى، غير أن هذه المرثية تنأى به عن ” المآسي الذاتية” التي لمسنا طبيعتها في بكائه ولده الأوسط: فقد وجد ابن الرومي، في البصرة التي استبيحت حرماتها، مأساة من نوع آخر، ليست من فعل القدر، وإنما هي من صنيع الإنسان بأخيه الإنسان، فكانت دمعته – وهو يتأمل ما حلَّ ب ” البصرة الزهراء” سواء في وقوفه أمام مسرح النكبة عينه، أو، وهو يستعيد في مصوّرته، ما شاهده من معالم الخطب وآثاره – ذات طبيعة جديدة، ببواعثها وآفاقها.

فلئن كانت القصيدة من باب الرثاء، فالرثاء فيها ليس مجرد تعبير عن هول الموت، وقضائه الذي لا يرد وقدره النافذ. لقد دنا ابن الرومي في هذه المرثاة من مرتبة ” الشاعر الاجتماعي” وحلَّق أكثر في معارج ” الشاعر الإنساني” فجاء رثاؤه تبعاً لموضوعه وأسلوبه رثاء اجتماعياً وإنسانياً، وباتت القصيدة عند المؤرخين تصنّف في ” المراثي العامة ” لا الخاصة، رثاء المدن والحضارات، حين تعصف بها أعاصير الخراب والدمار. ولئن حددنا فرق ما بين طبيعة هذا الرثاء الاجتماعي، والرثاء الشخصي يبدو مهما أن نحدّد مكانة هذه ” المرثاة”، في الأدب الإجتماعي، حتى نفهم ابن الرومي حقّ الفهم، ونقف بالتالي على ميزاته في هذا الضرب من الفن الرثائي، الذي يبدو رثاء ثائر، أكثر منه رثاء نادب. إنه الرثاء الذي يثور على الثورة، ويغضب على الغضب، ما دامت الفاجعة التي زلزلت تلك الحاضرة العبّاسية، امتداداً لثورة المظلوم على الظالم، ونقمة المحروم على المترف، الرافل بأثواب التي حاكها المحروم نفسه، بعطاء يديه، بجسمه المكدود بكل ما في هذا الجسم من عروق تنبض، وأنسام حياة تتردد.

لم يقف ابن الرومي، كشاعر اجتماعي على بواعث هذه النكبة، بل صوّر نتائجها. وهكذا كانت نزعته الإجتماعية في هذه القصيدة نابعة من نزعته الفرديّة. لم يلق على نفسه لفظة ” اللماذ” ليتحرى أسباب تلك الثورة، من قريب أو بعيد، لذلك لم يدرك أن النكبة، كانت انتفاضة، ولم يعلم أن الانتفاضة ردود فعل الإمتهان والإذلال وما يولدان من كراهية وحقد، يقبعان في زوايا ” الباطن” حيناً ولا يتلاشيان. ثم يتفاقم مدّهما إلى ذروته، وفي هذا التفاقم يتراءى التدمير، والهدم، والإحراق، والقتل، والتمثيل الشنيع في الأجساد والأرواح فعلاً جميلاً، لأنه التعبير الوحيد الذي يريح المظلوم من عذاب غضبه المكبوت على الظالم .

إننا لا نجد في هذه القصيدة مثل هذه الإلتفاتة الفاحصة عند ابن الرومي. فهو ليس شاعراً مؤرخاً، والتاريخ في شعره ليس يستند إلى مذهب ابن خلدون، الذي رفض أن يكون عمل المؤرخ مجرد حوادث توصف وألحّ على أنه ” نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق”.

وهكذا يفقد ابن الرومي صفة ” الشاعر المحقّق” أو الملتزم. فهو بعيد عن مجالات الحكمة في شعره، قصدنا حكمة الاستطلاع العميق والنظرات الثاقبة في خفايا الظواهر وبواطنها. ويبقى ابن الرومي ملتزماً بعدم الإلتزام، شاعراً مصوراً، يتصل وجدانه بالمرثيات المماثلة، دون الماورائيات الأصيلة، وله في ذلك دوافعه وأسبابه فما هي هذه الدوافع والأسباب؟

 *

في طليعة البواعث التي حتّمت جهل ابن الرومي حقيقة الأحداث والحركات الاجتماعية، إغراق في الذاتية، وفي الذاتية الضعيفة المستسلمة التي لا تثور على الوقائع أو نتائجها إلا لأن هذه الوقائع والنتائج تتهاف إزاءها شخصيته، وتجعله طعمة للألم. فبكاؤه البصرة، ونقمته على مثير الفتنة، وإثارته الإرادات للقضاء على الزنج والانتقام منهم، كل هذه المواقف الوجدانية باعثها الأصيل هروب ابن الرومي من الألم المتأتّي من مواجهته ” البشائع” بأشكالها المتباينة التي تولّد نفور واشمئزازه، كأن يلتقط هذا المشهد من مأساة البصرة.

” غير أيد وأرجل بائنــات                          نبذت بينهنّْ أفـــــلاقُ هــــامِ

” ووجوه قد رمّلتها دماء                          بأبي تلكم الوجوه الدّوامي

 وقد استطاع الشاعر أن يدعم عاطفة الأسى، ويوقد سعيرها في النفوس باستقصاء حشد من العواطف، كاشفاً عن براعة فذّة في إثارة المشاركة الشعورية، والقدرة على ” الايحاء” و ” التمثيل” فحرك، بهذا الخيال التصويري شعور الرغبة في العيش الآمن، بإثارة القلق في النفوس التي لم تهزها الرزيئة:

” كم أغصّوا من شارب.. كم أغصّوا من طاعم ..” وهكذا أتى على مختلف العواطف والروابط الإنسانية:

  • عاطفة حب الذات: كم ضنين رام منجى، فتلقوا جبينه بالحسام.

ب- العاطفة الأخوية: كم أخ قد رأى أخاه صريعاً.

العاطفة الأبوية: كم أب قد رأى عزيز بنيه، وهو يعلى بصارم صمصام.

د- عاطفة الأمومة: والإشفاق على الطفولة، والحفاظ على المرأة، واستنكار النيل منها: ” كم رضيع..فطموه بشبا السيف، كم فتاة مصونة قد سبوها”.

  • وقد ارتقى ابن الرومي بوجدانية الرثاء في القصيدة، إلى أبعاد جديدة وهي البكاء على المدنيّة ومظاهر العمران فيها، فأثار عاطفة الحزن على تراث الإنسان الحضاري، وما يحمل من معاني البناء الفكري والمادي وما يمجد من معطيات الماضي والحاضر، مستنداً في كثير من جوانب القصيدة إلى الشعور الديني كجزء من حضارة البصرة، إحدى المدن العريقة في الإسلام:
  • أيّ نوم من بعد ما انتهك الزنجُ جـــــــــــــــهاراً محــــــارمَ الإــسلامِ
  • أين فلـــــــــكٌ فيـــــــها وفلكٌ إليــــــها منشآتٌ في البحر كالأعـــلامِ
  • أين تلكَ القصور والدور فيــــــها أين ذاك البنيانُ ذو الإحكامِ
  • بل ألما بساحة المسجد الجامع دهرهــــــــم في تلاوة وصيـــــامِ

 أما الأسلوب الأدائي، فقد شاكل المعاني مشاكلة تامة، وحققت الملاءمة بين اللفظ والصورة، إفصاحاً وبياناً، في الإفراد والتركيب، وقد توالت عبارات القصيدة بين الخير والإنشاء، وفق مقتضيات الحال، فلم تخل من سياق قصصي يربط أجزاء القصيدة بسياق الأحداث، دون أن تؤثر في أصالتها الغنائية، وسمتها الوجدانية الصارخة.

وقد تنكب ابن الرومي، بحسن اختيار لفظه، عن الجفاف الذي يطبع شعره عادة بطابع الأصول النثرية، ولم تلزمه اللفظة الدالة بإهمال لوازم الايقاع الكئيب، حتى في مواقف الإستصراخ والأبيات الموثية إلى معركة الثأر حيث ظل محافظاً على الجرس الخافت واللحن الشجي. فإذا بالقصيدة مناحة كبرى تهزّ الضمير وتوقط الغافلين، وتحذر من عواقب السكوت على الضيم، وتستقطب كلّ القيم المادية والمعنوية، والمقدسات الدينية ويوم الحساب.

وهذا الأسلوب التعبيري، واضح في غير ابتذال، وسهل في غير اسفاف، معدّد الصيغ، غنيّ بالتقاطيع والملامح، جامع بين الخطاب، والتقرير، والتهويل والمفاجأة، والاستفهام، والنداء، والأمر، والنهي. سلك الشاعر سبيل هذه الدلالات باستخدام حروف المعاني ببلاغة ملحوظة، مكثراً من تكرار “كم” في الأخبار و”أين، وكيف، في الاستفهام، ” وربّ” في الإفتراض والظنّ دون اليقين، ممّا يمكن الرجوع إليه في مواطنه من القصيدة. وقد ابتعد ابن الرومي عن الصنعة ليقترب من حدود الطبعيّة، ولجأ إلى تفاعيل البحر الخفيف الملائم هذا الضرب من الشعر العابق بصدق الشعور.

هذه أهم الخصائص المعنوية واللفظية التي حفلت بها هذه القصيدة الرثائية العصماء السبّاقة في الشعر العربي إلى هذا النوع من الرثاء الذي سما به أصحابه فوق حدود الزمان والمكان- وأن انطلقوا من مناسبة معينة في الزمان والمكان_ بما فيه من الإخلاص في التعبير والجمال الفنّي.

*

الهجَــــــاء

توافرت لابن الرومي وسائل البراعة في هذا الفن: البواعث الدافعة، والمزاج الملائم، والأداة الفنية:

فاخفاقه في الحياة اليومية وعلاقاته الاجتماعية، والقدرة على كسب مودة الممدوحين، من البواعث التي ولدت عنده مشاعر السخط والنقمة: فقد كان شديد التعلّق بملاذّ الدنيا، قويِّ اللهفة إلى موائدها الشهية على اختلافها، أكولاً، كثير الإدمان على الشراب، متفتح الجوارح للجمال المادي يسعى إليه في عالم المرأة، عند القينة والساقية، والضاربات على العود. وكان من ناحية ثانية يعاني الفاقة والعوز، فتعارض فقره وحرمانه مع رغائبه وحاجاته، فإذا هو كثير التبرم، لا يني متأفقاً، غير راض عن زمانه، برماً بأهله وصحبه وخلانه، فوجد في الهجاء بعض متنفس لمشاعر الغيظ العارمة في فؤاده الموجع، وحناياه الظامئة.

وكان كذلك نفوراً بالغ الإحساس حتى الظن القاتل والوهم اللعين. ولم تكن له قدرة على الجلد ليتمالك أمام مشاعر غضبه، أو تصورات هواجسه، فإذا هو متوتر الأعصاب، متناقض العواطف.

هذا التناقض أذكى ملكة الهجاء عند ابن الرومي وجعله شديد التنبه لمظاهر القبح، سريع الإلتفات إلى مواطن البشاعة في الطبائع والأشكال، ولم يكن ينقصه الميل إلى النقد، ولا تعوزه الملاحظة الدقيقة إذ كان مشهوراً بالطيرة، وكانت طيرته تمدّه بأكثر مستلزمات الهجاء، فهي تثير خياله وتساعده على التجسيم، والتوليد، والربط بين الصور المتباعدة، والهيئات المتنافرة. فكان تعاون عنده بين الاحساس والوهم، تتسع حدقة عينه بتحريك من الحذر المطبوع عليه، فتتضح له المرئيات بكل تفاصيلها ودقائقها ثمَّ تتجسم له أبعادها، فيكشف عن مواضع الزراية أو الدمامة في ضوء هذه العملية المزدوجة، يصوغ الصورة الهجائية المولّدة في القالب اللفظي الملائم، ويبلغ في الإيلام والإيذاء والتشهير، حدّاً جارحاً من الإقذاع بالأسلوب البسيط الساخر، فكأنه على مذهب جرير القائل: “إذا هجوت فأضحك”.

  • جوانب هجائه:

لابن الرومي جوانب متعددة في الهجاء، منها الأخلاقي والإجتماعي والسياسي ومنها الشخصي، وهو الجانب الغالب على فنّه. وقد تصل هذه الأهاجي بأكثر أغراض شعره، تجدها في معارض الوصف، والعتاب، والشكوى، وفي خواطره ومراثيه. وكلّها تنهل من مشاعر الألم والحسرة، والغضب والانتقام، ولكنه غضب الضعيف وانتقام العاجز، لا يقوى على ردّ الكيد بالكيد، والإسارة بالمثل، فيستعين بلسانه، الذي يجري عليه ضروباً من الفحش والتهكم.

يحمل على الخاصة بحسد المحروم فيصور مفاسد العصر وأخلاق القوم المتداعية، ويكشف عن العيوب الإجتماعية ويندد بنعيم فئة وترفها، في غمرة البؤس والنحيب اللذين يتردى بهما المضعوفون والكادحون، ويتهم النعيم بالمحاباة: 

*

الهجاء الإجتماعي:

أترانـــــــي دون الأُلـــــــى بلغوا الآ                    مال مــن شرطــــــــة ومــن كتّـــــــابِ

وتجارِ مـــــــــــــثلِ البهــــــائم فازوا                    بالمنى في النفـــوس والأحبـــــــــابِ

ويظلّون في المناعــــــــــــــم واللـــذ                    ات بيــــــــــن الكواعـــــــــب الأتــــرابِ

لهف نفسي على مناكــــــــير للنــ                   ـــكر غضاب ذوي سيوف عضابِ

تغسل الأرضَ بالدماء فتضـــحي                   ذات طهــــــــــر ترابــــــها كالمــــــلابِ

من كلاب نــــــــأى بهــــا كلَّ نأي                    عن وفـــــاء الكـــــلاب غدر الذئابِ

 وبعد أن يعدد مظاهر الغنى عند أهل هذه الطبقة يقول:

لم أكنْ مالكي هذه الأملا                          كِ أنصفَ الزمان المحابي

***

  • الهجاء السياسي:

يثور ثائر ابن الرومي بعد مقتل يحيى بن عمر، بعاطفة تشيعه لآل البيت فيؤلِّب الجماهير الإسلامية على بني العباس ويجنِّد العواطف الدينية ضد قادتهم من آل طاهر، فترى عنده الهجاء السياسي مسوقاً مع النحيب والأسى :

ألا أيهذا الناس طال ضريرُكم              بآل رسول الله فاخشَوا، أو ارتجوا

أكـــــــلّ أوانٍ للنــــــــبيّ مــــــحمد         قتـــــــــيلٌ زكــــــيّ بالدمـــــاء مضــــرّجُ

تبيعون فيه الدينَ شرّ أئــــمة        فلله ديـــــــنُ الله، قد كاد يمــــــــــــرجُ

ألا أيها المستبشرون بــيومه        أظلـــــــــّت علـــــــيكم غمّــــــة لا تفرّجُ

ثم يمدح العلويين ويمعن في تقبيح بني العباس فيقول:

أبى الله ألا يطيبوا وتخبثوا                 وأن يَسبقوا بالصالحات ويفلجوا

وإن كنتم منهم وكان أبوكم                أباهم فإن الصفوَ بالرّنق يُمزجُ

  • الهجاء الساخر:

ومن نواحي التجديد في هجاء ابن الرومي أنه في أكثر جوانبه يثير العيوب الجسمية وينهال بريشته المغموسة بمداد السخرية على مقابح الجسم، فيضعها للناس تحت مجهر البيان، في تشابيه غاية في الدقة والطرافة، فتأتي طعناته بالمهجو بهذا القدر الساخر أشد فتكاً به من طرائق الهجائين القدماء الذي سلكوا الهجاء المعنوي كالنيل من الأعرض، والتعبير بالضعف والقعود عن الثأر، ووضاعة النسب وسواها.

ولقد تجمعت في شعر ابن الرومي نماذج رائعة من هذا الهجاء الحضري الساخر في لوحات كاريكاتورية، كهجائه صاحب الوجه الطويل، واللحية الطويلة، والأحدب، والأكول، والأصلع، ومنها ما يتعلق بالقصر والعور، والصوت القبيح، وجحوظ العينين..

وأسمعه يهجو الوجه الطويل:

وجهكَ يا عمرُو فيه طولُ                  وفي وجه الكلاب طولُ

والكلبُ وافٍ فيـــــــــكَ غــــدر                  ففيك عن قدره ســـــــفولُ

وقد يُحامي عن المواشـي                         وما تحامي ولا تصـــولُ

وأنت من أهل بيتِ سـوءٍ                          قضتهم قـــصة تطــــــــــولُ

وجوههم للورى عظــــــــات                   لكن أقفــاءهم طبــــــــــــولُ

” مستفعلن فاعلن فعولن                         مستفعلن فاعـــــلن فعولُ”

بيت كمعناك ليس فـــــــــيه                         معنى سوى أنه فُضـولُ…

 يقرر ابن الرومي الصفة البارزة في المهجو، ويؤكدها بواقعية الشكل والهيئة ثم يلجأ إلى المقارنة على أساس من التشبيه، فيحقق مرماء من السخرية: فوجه عمرو فيه طول، وفي وجوه الكلاب طول، وبهذه البساطة المتناهية يتضح العبث الكاريكاتوري عند ابن الرومي، فنتمثل عمراً صورة ممسوخة من عالم البهيمة، إنساناً يحمل وجه كلب.

ولا تقف ريشة ابن الرومي التصويرية في هذه القصيدة عند هذا الهجاء الحضري، هجاء الشكل، بل تتعداه إلى الهجاء الأخلاقي، يتعمد الإمعان في ترذيل مهجوه فيجعله دون الكلب قدراً فهو يطابق بين ” وفاء” الكلاب و ” غدر عمرو، ويصل بهذا التحقير إلى حدّ الإيلام البالغ حين يعطل المهجوّ من كل فائدة، ويجعله غير ذي غنى، ما دام الكلب ” يحامي عن المواشي” وما دام عمرو ” لا يحامي ولا يصول” .

وفي هجائه الساخر كل وسائل الإستهزاء بالمهجو أكثر مما أومأنا إليه، فابن الرومي يتعدى المهجوّ إلى ذويه وأهله، فينال منهم بالتلميح ” قصتهم قصة تطول” مفسحاً للسامح مجال التعليل الواسع بمثل هذا التعبير فيتصوّر لهؤلاء القوم من السوءات والمقابح ما لا يسع الشاعر الهجّاء حصره. وفي هذا الهجاء الإستطرادي لا يهمل ابن الرومي التشبيه، يحسن على عادته انتقاء المفردات الملائمة والكلمات البينة الصارخة ” وجوههم للورى عظات”، لكن أقفاءهم طبول”.

ويفتنّ ابن الرومي في تهكمه بالمهجوّ، ويصل إلى ذروة التوليد، حين يثبت في سياق هجائه تفاعيل الوزن ليتخذها دليلاً حسياً آخر على “عدمية” المهجو، فإذا هو موجود بلا وجود، عرض تافه من الأعراض التي لا تستحق التفاتاً وعناية:

بـــيــــت كــــمعنـــــاك ليس فـــيــه                      مــعنــــى سوى أنه فضــــولُ

وأسمعه يهجو قبيح الغناء:

لها غناءٌ يُثيبُ اللَّهُ سامــــــــعَه                     ضعفَيْ ثوابِ صلاةِ الليلِ والصومِ

ظللتُ أَشربُ بالأرطال لا طرباً              عَلَيْـــــــــهِ، بَلْ طلــــباً للسكر والنومِ

وربما عمد إلى الهجاء، وبلغ مراميه من الإقذاع بوسائل القلب والتصحيف في الكلمات، كقوله في رجل يدعى ” أبا إسحاق”:

يـــــا أبـــــا إســحــــــاق واقـــــلـــــبْ                      نــظـــمَ إســـحـــــاق وصـــحــــِّف

واتـــــرك الحـــــاءَ عـــــلــــى حــــا                لٍ فــــمــــا للـــــحــــاء مصــــرِف

يشهـــــــد الله لـــــقـــــــــــد أصبحــ                ـــــــــت عـــــيـــــنَ المتـــــخـــــــــلّف

وهكذا يغدو إسحاق فحشاً، ويتجاوز ابن الرومي السخرية إلى الترذيل.

*

ويلعب التشاؤم دوره في فن ابن الرومي الهجائي، عندما يفسر ملامح المهجو بعوامل التطير ويدعو الناس إلى اجتناب نصيحته. يقول في هجاء كاتب يدعى ابن طالب:

أزيــــرقُ مشؤومٌ، أحـــــيمر قاشـــر          لأصحابهِ، نحسٌ على القومِ ثاقـــب

وهل أشبه المريـــــــــخ إلا وفعــــلهُ          لفعل نذيـــــر الـــــسوء شــــــبه مقارب

ويدعي أبوه طالــــــــــــــباً وكــــــــفاكمُ           بــــه طــــــيرة أن المـــــنيـــــةَ طـــــالــب

ألا فاهربوا من طالب وابن طالبٍ                فمـــــــــــن طالب مثليهما طار هــارب

 والوصف عماد هام في هجاء هذا الشاعر، يوفّق فيه إلى تصوير الحركة، وتمثيل الشكل والهيئة، ويبدع في اللوحة الهجائية اللحظة الحاسمة حتى يغدو رسّاماً في جانب من هجائه، ومثّالاً في الجانب الآخر. ألا يبدو لك ذا قدرة عجيبة وهو يرسم ويجسم بُخلَ عيسى بتمثيله إياه يتنفس من منخر واحد!؟:

يقتِّر عيسى على نفسِهِ                          وليسَ بباقٍ ولا خالــــدِ

فـــــلـــو يسطيع لِتـــَقْتـــيــرِهِ                           تنفّسَ من منْخَرٍ واحِدِ

أما تصوير الحركة فيجعل ابن الرومي شاعراً يجيد طريقة المثّالين، كقوله في الأحدب:

قَصـــُرَتْ أخادِعُــــهُ وغار قذالُـــه                     فكأنّـــــه مترّبصّ أن يُصْفَعا

وكأنمّا صُفٍــــعَـــــــتْ قفــــاهُ مَـــــرَّةً                     وأحسَّ ثانيةً لــــــها فتجمّعا

 رأينا كيف تتولد الصور الهجائية عند ابن الرومي إحساساً بالنفور من القبح يكون باعثاً على سخطه بفعل مزاجه الحاد، واستجابته لدواعي التطير، يتحول هذا السخط في أدائه الفني إلى ضروب من السخر، في عملية تعبيرية مترابطة الأجزاء منحدرة من تقرير واقع عام في الصفة المذمومة إلى سائر فروعها، يتعاون عنده في هذا التدرج، الشعور والفكر والمخيلة، فإذا الصورة تامة التركيب والبناء.

*

الأسلوب وميزاته الرئيسة

عرف الشعر العباسي مذهبين رئيسين في الغالب: مذهب ” القديم” وأنصاره هم (أصحاب اللفظ) وعلى رأسهم ” أبو عبادة البحتري” ومذهب ” الحديث” وفريقه هم (أصحاب المعنى)، وفي مقدّمهم ” أبو تمام” وبترسّم الشعراء هذين التيارين من قريب أو بعيد، ظهرت الأساليب المختلفة التي دأب النقاد، حتى يومنا هذا، في دراستها والحكم عليها.

فأين يقف ابن الرومي بين المدرستين، وما رأي النقّاد في أسلوبه؟

هل هو على طريقة البحتري الذي قال فيه الآمدي: ” إنه أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف”

أم هو على طريقة أبي تمام الذي قيل فيه: ” إنه عالم.. وإنّ شعره يعجب أصحاب الفلسفة والمعاني” ؟

*

كان ابن الرومي ذا ثقافة واسعة، فقد تأثر بالتيارات الفلسفية الدخيلة والمولدة، حتى شهد له أبو العلاء بتعاطيه علم الفلسفة. وكانت له معرفة واسعة بالمنطق وعلم الكلام، فأكثر في شعره من الأدلة العقلية، وتميز إنتاجه بالنظرات الفكرية المتعددة فخالف بذلك طريقة اللفظيين، ولم يكن كالبحتري يعنى بديباجة شعره، حتى قال فيه ابن رشيق: ” ومن الشعراء من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته: كابن الرومي”.

 فالشعر عند ابن الرومي صناعة تعتمد على طرائق التفكير المنطقي، وقد تنبّه الأقدمون إلى هذه الظاهرة، كما هو واضح في رأي صاحب العمدة، وأشار إليها المحدثون فقال شوقي ضيف: ” لم يكن ابن الرومي يذهب مذهب البحتري، في أن الشعر لا يحتاج إلى فلسفة ومنطق، بل كان يرى أنهما أصلان مهمّان في حرفته”.

*

لا نشك في أن ابن الرومي من أنصار ” الحديث” غير أن عنايته بالمعاني في شعره لم تكن تدفعه إلى التردّي في مذهب أهل التصنّع من الشعر فهو لا يتشبّث كأبي تمّام بحرفية هذا المذهب.

فأبو تمام يجعل من الشعر حرفة مضنية، وإنك لتلمس في تخريجه المعاني ما كان يعانيه من الكدّ والإرهاق، والشدة والعناء، حتى قال ابن رشيق: ” كان أبو تمام يكره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره.. وكان ينصب القافية للبيت، ليعلق الأعجاز بالصدور، وذلك هو التصدير في الشعر، ولا يأتي به كثيراً إلا شاعر متصنع كحبيب ونظرائه”.

ففيم خالف ابن الرومي هذا الاتجاه؟

*

لم يكن ابن الرومي يعتمد على المنطق حتى يصوغ المعنى صياغة فلسفية معقّدة، بقدر ما استند إليه لاستيفاء المعاني المتعلّقة بالغرض الواحد، وتتبعها إلى نهايتها، وإيضاحها بالشرح والتفصيل_ فالمعاني عند ابن الرومي تمتاز بالوضوح والسهولة لأن فكره المنطقي يلقي عليها أضواء كاشفة، فيعكسها علينا في إطار بيّن المعالم، حتى ليحيط بها الإدراك إحاطة تامة، لا نجد أنفسنا أزاءها بحاجة إلى إعمال الذهن وكدّ الخاطر، لفهم ما استغلق من جوانبها، لأن الشاعر قام دوننا بهذه المهمة، وأزاح عنها ستائر الإبهام والغموض.

وهكذا نتبين أسلوبين للعمل المنطقي في الشعر، فأصحاب الصنعة كأبي تمام يتوجهون بالمنطق والفلسفة من خارج المعنى إلى داخله فتتعقد الفكرة عندهم كلما أوغلوا في استقصائها. وابن الرومي يتوجه بمنطقه وفلسفته من داخل المعنى إلى خارجه، فكلما غاص على المعنى أضفى عليه ما يزيل قتامه ويصعد به إلى منبلج الوعي. وعلّة ذلك أن عقله في خدمة شعوره. إنه يستعمل الثقافة الفلسفية في توليد معانيه، ولكن عاطفته الدافقة وخياله المبدع يدفعان العقل عنده إلى العمل تحت إمرة الوجدان، فهو كما قال صاحب العمدة من ” شعراء الصنعة المطبوعين” .

*

في كل ما تقدم سر من أسرار الصناعة الشعرية عند ابن الرومي، فالقصيدة عنده وحدة تامة، مستقلة الغرض، كل بيت فيها بتميز بمذاق خاص هو جزء من مذاق موضوعه العام. وقد أسرف في طريقه ” تحضيره” هذه الألوان من شعره، حتى اتّهم في شاعريته، لأن النقاد يرون في استقصاء المعنى الواحد على هذا النحو من الإطالة والشرح شيئاً من خصائص الكتابة لا الشعر. يقول طه حسين: ” ورأي بعض الشعراء، كابن الرومي، إن الكتاب يتاح لهم أن يتفنّنوا في معانيهم ويطيلوا في فكرتهم.. فأراد أن يقلّدهم في هذا فأطال وأسرف في الطول، حتى بلغت قصائده أطول حدّ عرف في الشعر العربي إلى عصره”.

*

تأثر ابن الرومي بأساليب الكتاب في عصره فاختصّ شعره بالإضافة إلى ظاهرتي الطول والاستقصاء، بالتدرج المنطقي وشدة التنظيم، ودقة التناسق، وبات من الصعب أن يطرأ على نسق القصيدة تبديل أو تغيير، دون أن يبدو هذا جلياً. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى ذلك بقوله ” وبهذا الاسترسال خرج – ابن الرومي – عن سنة النظّامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتاً متفرقة يضمها سمط واحد قلّ أن يطرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقلّ أن يتوالى فيه النسق توالياً يستعصي على التقديم والتأخير”.

اسمع قوله في هجاء من ردّ عليه مديحه لتتبين هذه الخصائص من نظمه العجيب الذي يساعده على الإحاطة الشاملة بكل فكرة جزئية من موضوعه:

رددْتَ عليّ مدحي بعـــــد مطــــــلٍ                    وقد دنّستَ ملبسَه الجديـــدا

وقلتَ امدح به من شئت غيري                   ومن ذا يقبل المدح الرديــلا

ولا سيما، وقد أعبــــــقـتَ فيــــــــه                    مخازيكَ اللواتي لنْ تبـــــــــيدا

وما للحيّ فـــــــــي أكفــــــان ميْتٍ                    لبوسٌ بعدما امتلأتْ صديدا

ألا تبدو هذه الأبيات شديدة الارتباط، متلاحمة النسق، لا سبيل فيها إلى حذف أو تبديل؟ إن هذه الظاهرة عامة في شعره حتى لتبلغ القصيدة عنده تبعاً لذلك نحواً من ثلاثمائة بيت.

*

ولا شك في أن نفس ابن الرومي الطويل، وولعه بتصيد المعاني.. والاسترسال في عرضها كما تقدّم، من الدواعي التي جعلته لا يحفل بتحسين ديباجته، فتراه لا يعبأ باختيار ألفاظه، ولا يقيم أهمية للمشاكلة بين المبنى والصور الذهنية، وعندما عابوه في ذلك، انبرى يردّ على منتقديه، وقد دفعه منطقه إلى أن يتمثل صياغة الشعر على نحو قريب من تركيب الشجر:

قولا لمن عابَ شعرَ مادحـــــــــه              أما ترى كيف رُكّب الشَّجر؟ 

رُكّبَ فيه اللِّحاءُ والخشب اليا                     بسُ والشوكُ دون الثَمـــــــــرُ

بذلك يؤكد ابن الرومي مذهبه، وينفي عنايته بالزخرفة، فلا يتوخّى البديع في لون من ألوانه، وتكاد لا تجد شيئاً من الجناس والطباق إلا ما جاء منهما وليد العفوية والطبعية.

*

لقد كان ابن الرومي مديناً لعاطفته في المحافظة على المعادلة الصحيحة بين الفكر والوجدان: فالمنطق لا يحوّل أفكاره إلى صور عقلية قاتمة، وطبيعته لا تذهب بهذه الأفكار إلى الابتذال والسطحية.

وفي هذه المعادلة بين الحدّين الفكري والوجداني، بالإضافة إلى العوامل التي كانت تذكي شعوره، تقوم عبقرية الشاعر التي نعزو إليها تلك التوليدات الغريبة من المعاني في ذلك الإطار من الصور الحسنة الفاتنة، حتى قال ابن رشيق:

” وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر، لكثرة اختراعه وحسن افتنانه”.

وإليك هذه النماذج من توليداته الغريبة:

لقد كان دفقاً من شعور فيّاض، يثور في نفسه بركاناً عاتياً، وينطلق في اندفاعه كالسبيل، فإذا تألم لمصاب بدا طاقة من الأسى الكالح والحزن العميق، قد يشفيه البكاء دون أن يجديه، يغيّب الموت أوسط صبيته، فيبدو بدافع من تطيره، وحسه الباطني، قلقاً على ” عقد” عائلته، من أن تتلاعب المنون ” بواسطته” ولا شيء يعزّيه عن رزيئته أو يدخل الطمأنينة على ذاته، فيرى في ولديه الباقيين بعد أخيهما الراحل، ما يزيد حدة حزنه اشتعالاً، وانكسار قلبه تحطيماً:

أرى أخوَيْك الباقيَيْن كلهيمــــــــا              يكونان للأحـــــــــزان أورى من الزَّنــــْدِ

فما فيهما لي سلوةٌ بل حزازةٌ               يهيجانِها دوني، وأشقى بها وَحدي

 ويغالي ابن الرومي في ” عبادة اللذة، فيطالعنا بجانب من فلسفة حياته ويتمنى، لو تنقلب مقاييس الوجود، فتكون مرارة الشيخوخة أولاً، وحلاوة الشباب آخراً، كما رأيت في دراسة خواطره، وفي ذلك كله صورة لمعاني ابن الرومي الغريبة المولّدة:

فالعيش طعمان عندَ ذائقِه                 مُرُّ التَّوالي مُستعذَبُ الأوّلِ

من عسَلٍ تارةً ومن صَبــــْرٍ                 لهفي لتأخير عقبــــة العسلِ

والمتطير أبداً لا يرتاح إلا لكل ما هو متناغم في الأشكال والهيئات والأصوات والألوان. وإلى طيرة ابن الرومي يمكن أن نعزو براعته في السخرية التي أكسبته إعجاب النقاد بصوره الكاريكاتورية المضحكة. ويبدو في أهاجيه لا يجد عناء في اختيار القوالب الفنية، فقد كان ينتقيها في كثير من سهولة ويسر؛ يكثر من تشابيهه البيانية، فيقابل بين الوجه الطويل و” وجه الكلاب” ويبلغ من مرامي الأقذاع والإيلام، بهذا الهجاء الحضري، ما لا يبلغه أصحاب الهجاء البدوي الجادّ، كما في قوله المتقدّم:

وجهكَ يا عمْرو فيه طولُ                  وفي وجوهِ الكلابِ طولُ

والكلبُ وافٍ وفيكَ غَـــــــــدْرٌ                  ففيكَ عن قدرِهِ سُفـــــــــولُ

وقل مثل ذلك في هجائه صاحب ” اللحية الطويلة” التي يمثلها لنا في وجهه مخلاة بدون شعير:

إنْ تَطُلْ لِحْيَةٌ عليك وتعرض               فالمخالي معروفةٌ للحميرِ

وبدافع من هذا المزاج المعتل، والطبغ الغريب، يوفق ابن الرومي إلى تمثيل الحركة في وصف الأحدب، ويصوّر الطبيعة على نحو خاص من التشخيص.

 ويفضل ابن الرومي النرجس على الورد، بوحي من مزاجه وتأثير من وساوسه فهو يرى في حمرة الورد شاهداً على خجله من إيثار النرجس عليه، فالنرجس يولد عنده الشعور بالأمل، لأن الرياحين تأتي في أعقابه، والورد يولد عنده الشعور بالألم لأنه النذير بارتحال الربيع:

خجلتْ خدودُ الورد من تفضيله                   خَجَلاً تورّدُها عليه شاهدُ

فصـــــــــلُ القضـــــيةِ أنّ هذا قائــــِدٌ                   زهرَ الربيع وأنّ هذا طاردُ

وهو دقيق الملاحظة يأتينا، بدافع من غرابة أطواره، بتشابيه رائعة، تجعلنا نقرّ بدقة فنّه. فتقيم مخيلته مقابلة فريدة بين الرقاقة الآخذة في الاتساع في كفّ الخبارز، والدوائر المتتالية التي تنداح في صفحة الماء، حين يرمى فيه بالحجر:

إن أنسَ خـــبَّــــــازاً مررتُ بـــه                       يدحو الرقاقةَ وشكَ اللمحِ بالبصـرِ

ما بين رؤيتِها في كفّه كــرةٌ                        وبـــــــــــــــــين رؤيتـــــها قوراءَ كالقمـر

إلا بمقدار ما تنداحُ دائـــــــرةٌ                       في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر

 وتأتي ثقافة الشاعر أخيراً لتسجل دورها في هذا الخلق العجيب فها هو يندفع بنهمه إلى إطالة النظر في صنع الزلابية، فيخرج المشهد على نحو جديد: يبدو له زيت خابزها كالحجر الفلسفي الذي زعموا أنّه يحوّل المعادن إلى ذهب:

كأنّما زيته المقــــليُّ حــــــين بدا                    كالكيمياءِ التي قالوا ولم تُصب

يلقي العجينَ لجيناً من أنامله                    فيستحيل شبابيكاً من الذهــــــــب

وفي هذه النماذج جميعاً، نرى طابعاً واحداً، هو طابع ابن الرومي في شخصيته ونفسيته، ونظرته إلى الواقع.

*

لقد كان ابن الرومي رجلاً غريباً في دنيا الناس في المجتمع العباسي وكان ابن الرومي الشاعر غريباً كذلك في دنيا الشعراء بطريقة نظمه وأسلوب توليده المعاني، والأضواء التي ألقيناها على سيرته وشعره وخصائص فنونه الرئيسة وأسلوبه إنّما هي الأداة والحافز لسبر أغوار ديوانه وتذوّق مراميه وألوانه وإن كنا لم نبلغ في ذلك منتهى ما نصبو أو نتوق إليه.

*

وفي كلامنا على شرح ديوان ابن الرومي لا بدّ من أن نلمح إلى أننا سبقنا إلى هذا المضمار بجهود جمّة نهض بها منذ خمسينات هذا القرن كثر من ذوي الفضل نخصّ بالذكر منهم فاضلَيْن اثنَيْن دون أن يكون في هذا إغفال للنخبة الباقية. وإنما لمحاولتنا الجمع في شرحنا بين جوهر صنيعها:

فالمرحوم الشيخ محمد سليم أحاط فأسهب، والدكتور حسين نصار حقق الديوان وبلغ في التحقيق والتخريج الغاية والشأو إلا أنّه تحاشى الإطالة فتجاوز الشروح اللغوية. وقد آثرنا في هذا وذاك الاعتدال وتجنّب الإطناب. والله من وراء القصد وهو يهدي سواء السبيل.

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *