الشعرية والدهشة في لوحات محمد الشاعر وأقاصيص سمية تكجي

Views: 1562

أنور الخطيب

حفل التكريم الذي نظمته دار الندوة في بيروت للفنانين عصام الأشقر ومشيلين خليفة ومارون نمنم ومحمد الشاعر، وشاركت فيه الشاعرة والقاصة والإعلامية سمية تكجي، والشاعر ربيع لطيف، والعازف أمير عيسى، وقدمت الأمسية االشاعرة ليلى الداهوك. التكريم تقليد حضاري وقيمة فنية تعترف بالجهد الاستثنائي الذي بذله المكرمون ولا يزالون في حياتهم الفنية المعطاءة.

هذا الحفل أنعش عشقي للفن التشكيلي والقصة القصيرة كوني أهتم بوجود الشعرية في أي عمل فني أو إبداعي، بل إن الحرص على إظهار الشعرية في اللوحة والأقصوصة أراه غاية مشروعة وضرورية، في غيابها يخسر العمل الإبداعي نصف وهجه وأثره، وأعتقد أن التشكيلي محمد الشاعر والأديبة سمية تكجي قد تألقا في نشر الشعرية في نسيج أعمالهما.

محمد الشاعر وإنجاز الرؤية

اللوحات التي عرضها الفنان التشكيلي الكبير محمد الشاعر تسرد حكاية مكانه الأصلي (اللبناني الفلسطيني الإنساني) وترسخ ملامح رئيسة من تجربته الثرية وتقنياته في رسم موضوعه. وإذا كانت آلة التصوير تسجل اللحظة الصامتة فإن التشكيلي الشاعر يبث الحياة في اللحظة ويحركها فتقيم حوارا مشبعاً بالحنين والذكريات بين المتلقي واللوحة، ينحت في مضامينها فيجعل محورها حكاية تستمد مضمونها من شخصيات بسيطة لكنها تشكل مفصلا إنسانيا في حياة كل منا، وتستدرج الذاكرة لفتح نوافذها فتطل على الطفولة المسروقة أو الشيبة المتأملة، وما بين هذين الزمنين كتلٌ مشحونة بالتفاصيل مرسومة بريشة تعرف كيف تحول الخاص إلى عام والشخصي إلى مجتمعي.

الفنان التشكيلي محمد الشاعر

***

لوحة محمد الشاعر أبعد ما تكون عن الصمت، فأينما يوجد الإنسان توجد الحركة وسيرة لها ما قبلها وما بعدها، فهذا الطفل المطل من فجوة عكازته بنظرات حزن وألم مكبوت يستدعي الخروج من سجن الإعاقة نحو مستقبل مثقل بالاحتمالات، وهذان الرجلان المنشغلان بهواجس اللحظة والانتظار يمنحان المشهد بعدا زمنيا أبعد توقعاتهما، وتلك المرأة الحاضنة طفلها وإلى جانبها طيور بيضاء تفصل بين الطفل وطفل آخر تمتلىء عيناه بالخوف يترجم مشهد الترقب المحمول على سلام اللحظة. وتلك المرأة المسنة التي تصنع الخبز المتأملة بما تصنع يديها من خصوبة في أجواء من العزلة وضبابية المشاعر تستفز الحنين لمحيطها.

إن عبقرية محمد الشاعر تحول المشهد الصامت إلى مشاهد غير مرئية، والتفاعل معها لا يشترط وجود ذاكرة مشتركة بين المتلقي وبين محتوى الإطار، لأن مساحات اللوحة وأشكالها وألوانها تتسلل خارجة عن الإطار بسلاسة، وتتحول اللوحة إلى قصة ترافقنا أجواؤها خارج صالة العرض.

ونحن أمام لوحات محمد الشاعر ننسى البحث عن النواقص، فاكتمالها التقني والمحوري يملأ فراغات الأسئلة نحو المشاركة في طقس الرسم عبر الإنجاز الفوري المدهش، إذ من الصعب أن نتخيل كيف بدأ التشكيلي لوحته وكيف أنهاها، وكأنه نقلها كما هي من رؤاه ومشاعره ليثبتها على قماش اللوحة، ما يوفر عنصر الجذب والتماهي مع مفردات العمل الفني.

الأديبة سمية تكجي

***

سمية تكجي صانعة الدهشة

الأقاصيص التي ألقتها الأديبة القديرة سمية تكجي جسدت تجربة ثرية ودقيقة في سرد اللحظة والتحرش بمعانيها وتثبيت مآلات رموزها، ما يدل أن سمية تكتب بتركيز عال وإدراك عميق عارفة تماما دربها وغاياتها.

أود الإشارة إلى أمر مهم فعلته الأديبة يتمثل في إلقاء قصصها وليست قراءتها، أي أنها كانت حافظة لقصصها عن ظهر قلب، وهذا يدل على انهماك مسبق وحميم في كتابة القصة، هذا الانشغال بالفكرة واللغة قبل الشروع في تدوينها على الورق أو الشاشة الفضية، يجعل الأمر يتقاطع مع آلية ولادة الشعر، وهنا يبرز التداخل بين النوعين الأدبيين (الأقصوصة والشعر)، ووفق الاجتهادات في كتابة الشعر وتحديثه، كان يمكن لسمية تكجي تقديم بعض قصصها على أنها نصوص شعرية، لنقرأ الإيقاع في جملة (قضيت العمرَ أشق الدروب في دم الأمكنة المظلمة) وهي مأخوذة من قصة العصا، لكنها فضلت الاشتغال على الحبكة والنهاية لتقدم لنا أقصوصة متقنة في كثافتها وجملها القصيرة والنهاية المدهشة.

التقطت سمية تكجي قصصها من دروب الحياة بعين مبدعة ترى ما لا يراه العابر العادي، فالعصا الملقاة على الأرض التي نزفت حتى سقطت مغميا عليها، لم يلتقطها أحد، حتى جاء الأعمى وانتشلها من الإهمال والألم، فمن غير الأعمى في حاجة للعصا في السلوك العادي للحالة، لكن القاصة قلبت المشهد وجعلت الأعمى ينقذ العصا، في أنسنة واضحة للجماد.

وفي قصتها (أرملة) يتضح أن معناها يعني الخواء والفراغات، بعد موت الزوج تشعر الأرملة أنها (نصف زوجة، نصف ميتة، نصف حياتها أن لها ظل..)، وحتى تتغلب على الخواء (استنفرت كل قواها وبدأت بملء الأنصاف الخاوية..)، كحق طبيعي في الحياة؛ فانتقلت لتبحث عن شريك لحياتها، وتواجه الموت بالحياة). وهنا تقدم الكاتبة أفكارا تتناقض والسلوكيات المجتمعية وقناعاتها، نساء كثيرات لا يسعين إلى ملء الأنصاف الخاوية بذرائع كثيرة منها العيب والحفاظ على ذكرى المرحوم، وهنا تكمن المفاجأة بالسير عكس القناعات الجماعية السائدة.

ولعل أقصوصة الداون تاون تتشابه مع أقصوصة العصا لجهة أنسنة الجماد، لكن الدهشة لا تتوقف عند هذا الحد إنما في قلب التوقعات، فالقارئ ينتظر صدور الألم من الطفلة وليس الرصيف، وفي هذه الأقصوصة أيضا نزوع نحو نقد سلوك اجتماعي وقساوة أصحاب الأحذية العالية في إشارة إلى الطبقية، حتى وإن لم تصب الإشارة هنا، فيكفي أن تقدم الكاتبة هذا المشهد وتتحرش بوعينا ولا وعينا لإعادة صياغة مفاهيم بعينها.

الشعرية قاسم مشترك بين لوحات محمد الشاعر وأقاصيص سمية تكجي، وأجد اللجوء إليها ضرورة فنية وأسلوبية لا يكتمل ثراء اللون أو اللغة إلا بها، كونها تستند إلى التكثيف والترميز.

الإعلامي جورج طرابلسي يقدم درعًا تكريمية إلى الفنان التشكيلي محمد الشاعر
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *