فَنِيَّة التَّشَكُّل البِنائي في قصيدة “حديقة الرُّخام” لجورج طربيه

Views: 855

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)

ضَجيجُ الرُّخام

إلى الدكتور “جورج طربيه”،

في يوم رحيله، الأربعاء في التَّاسع والعشرين من كانون الثَاني سنة 2020

زميلاً في رحلة سنوات العُمر؛ في فرحها وترحها وخيباتها وطموحاتها

 

تمهيد:

          تعتمدُ هذه الدِّراسة، لِفَنِيَّةِ التَّشَكُّل البِنائيِّ، مَنْهَجاً وَصْفِيَّاً تَفْكِيكيٍّاً؛عِماده تفكيكُ النَّصِّ إلى وحداتٍ تأسيسيَّة وأساسيَّة يرتكز إليها، وتقديم وصف موضوعيّ لمحصَّلةِ هذا التَّفكيك؛ بالعملُ، تالياً، على استخراجِ ما يمكن من نتائج. والغايةُ، من هذا كلّهِ، اكتشافُ جوهرِ النِّظامِ التَّشَكُّليِّ الذي يُعطي النَّصَّ حيويَّة وجوده الأدبي وفاعليَّته الشِّعريَّة في آن.

التشكُّل البنائي العام

تَقومُ قصيدةُ “حديقة الرُّخام” على فكرةِ زيارةِ حديقةٍ كانت، في ما مضى من زمنٍ، مَرْتَعاً لِصِبَا وملتقىً لرفقةٍ في تلك المرحلة من العُمر. تَنْبَني القصيدةُ على ثلاثِ حركاتٍ أساسيَّة، تتشكَّلُ كلّ واحدةٍ منها على عددٍ من الخطوات؛ لتؤلِّفَ، بمجموعها الكُليِّ، ما يُمكن اعتباره “رقصة القصيدة” أو “فاعليَّتها البنائيَّة”.

الفقيد الكبير الدكتور أ.د. جورج طربيه

 

الحركة الأولى: المدخِل

الحركة الأولى هي المدخِلُ إلى القصيدة، أو بوَّابتها، إن جاز التَّعبير. لا يمكن الدخول إلى القصيدة إلاَّ من هذه البوابة، لا لأهميتها البنائيَّة وحسب، بل لأنها البوابة الوحيدة للقصيدة؛ ومن هنا يمكن التَّأكيد بأن ثمَّة تشكُّلاً عضويَّاً ينتظم بناء الحركة الأولى.

تتجلى خطوات الحركة الأولى بأنَّ زائر الحديقة هو أحد أولئك الصِّبية الذين كانت الحديقة مرتعاً لهم في طلعة العمر.  يجيئ هذا الزَّائر الحديقة، فلا يجد فيها سوى تماثيل الرُّخام التي ما برحت تُزَيِّن بركتها؛ ولا يحسِّ، في زيارته هذه، إلاَّ بصدى ذكريات عمرٍ حلوٍ أمضاهُ في صِباه مع رفقة له في تلك الحديقة.

تنهضُ إشكاليَّةُ هذا المدخل على تساؤلٍ وُجُودِيٍّ حولَ ما كانَ من زمنٍ وناسٍ عاشوا معاً في ذلك الوقت: أباقون هم أم رحلوا؟ أأحياء هم أم ماتوا؟ أفاعلون هم في شعشعانيَّة ما لوجودهم أم متحجِّرون هم في جمود لهم صخري؟

تتألَّفُ الحركةُ الأولى، في القصيدة، من ستِّ خطوات، الخطوتان الأولى والثَّانية تتقدَّمان برشاقة وسرعة في آن واحد؛ أمَّا الأربع الباقيات، من هذه الخطوات، فتتمظهر عبر تَلْوينات متعدَّدة ومتنوِّعة في الطول والعمق على حدٍّ سواء.

الخطوة الأولى والثَّانية سريعتان إلى درجة أنَّهما قد تشكِّلان معاً خطوة واحدة؛ لكنها، في الواقع خطوتان: أولاهما تعلن وُجْهَةَ القصيدة؛ وثانيتهما توضح مجال العلاقة ضمن هذه الوجهة. أمَّا وجهة القصيدة، فحديقة الرُّخام؛ وأمَّا مجال العلاقة، فملكيَّة شخصيَّة للزائر لهذه الحديقة، وهي ملكيَّة قد تسوغ له حقَّ التصرُّف بها كما يشاء:

“إلى حديقتي الرخام

تحملني سنونوات الأمس”

تقود الخطوة الثالثة إلى سُكَّان الحديقة في القصيدة: من حوضِ ماءٍ وتماثيل مجنَّحة لملائكة، من ذكور العري وإناثه، يحيطون بالحوض؛ وما بين كل هؤلاء من تواصل خاص:

“… حيثُ موكب الملائك المجنَّحة

يرفُّ فوقَ الحوضِ في سَلام”

ترسم الخطوة الرَّابعة وجود الحديقة،عبر بُعدين أقصى وأدنى؛ فالأقصى، من هذين البعدين، يقوم على الصَّمت؛في حين يتجلَّى الأدنى، منهما،بالإشارة والإيماءة والتَّحيَّة (السَّلام)، لكن من غير ما كَسْرٍ لجوهريَّة الصَّمت المطبق:

“لا صوتَ فيها غير صوت الصَّمت

فالكلامُ

بين ذكورِ العري أو إناثِه الرخام

إشارة، إيماءة، سلام

شبَّابة خرساء نايات بلا أنغام”

وإذا ما كانت الخطوة الرابعة أوضحت طبيعة الوجود، في حديقة الرخام؛ فإنَّ الخطوة الخامسة تأتي لترسم واقع هذا الوجود القائم على الحَجْبِ وعصيان الفَهم:

“حديقتي محجوبة عن أعين الأنام

أحجية غريبة تعصى على الأفهام”

وتأتي الخطوة السَّادسة، من ثمَّ، لتكشف عن حقيقة وجود الحديقة وطبيعة هذا الوجود؛ فإذا بالحديقة، على ما فيها من صَمْتٍ وخَرَسٍ وحَجْبٍ، وجود نوراني خالد:

“حديقتي نورٌ على الدَّوام

شموسها في النَّفس لا تذوي ولا تنام

تفلَّتت من قبضة الأيَّام!!!”

من هذا كلِّه، فإنَّ الحركة الأولى، بخطواتها السِّت، تأتي لتُعْلِنَ أنَّ حديقة الرُّخام، الصَّامت والذي غالباً ما يعتمد، لصمته وسكونه وبرودته، رمزاً موحياً للدلالة على الموت؛ ليست، في الواقع الشِّعريِّ، سوى حديقة تضجُّ في جنباتِها حياة تنبض بألق العيش وخلوده! فالرُّخام، دلالةُ الصَّمت والموت والجمود، يصبح مفتاحاً للحياة الحيَّة بشعشعانيَّة حياتها والدَّوام الأبدي لهذه الحياة.

إن فاعليَّة هذا التُّشكُّل البنائي، للحركة الأولى من القصيدة، يقود، بنجاح وسلاسة، والأهم، بطَبَيِعيَّة، إلى ما يمكن اعتباره، بالمفهوم النقدي للشِّعر، قَلْباً للمفاهيم؛ وذلك بتحطيم الألوف منها، وصهره، ثمَّ إعادته مفاهيماً جديدة لعالم غير الذي انبثقت منه  هذه المفاهيم في أصل وجودها.

الحركة الثانية: الأمس

          تتألَّف هذه الحركة، بدورها، من ست خطوات متفاوتة في ما بينها طولاً وعُمقاَ. موضوع الحركة هو الماضي، أو استرجاعٌ للماضي الذي كان في حديقة الرُّخام. زائر الحديقة، الفتى الذي كان، يسترجع بعضاً من ماضي فتوَّته أو صِباه الذي عاشه، مع صحب له من أترابه، في الحديقة. 

          تتمظهر الخطوة الأولى في عمليَّة استرجاعٍ للأمس، بَلْ لما كان من الأمس،: الصَّحب والتفلُّت من الزَّمن والاطمئنان وشراكة الفرح مع التَّماثيل الرُّخاميَّة للملائكة المحيطة بحوض الحديقة:

“كُنَّا هنا بالأمس حول حوضنا الحبيب

نسهو عن الزَّمان منذ الفجر للمغيب

وحولنا ملائك السَلام

قاسمتنا الماء والطَّعام

والضَّحك والكلام”

وتقود الخطوة الثانية من هذه الحركة إلى ما يميِّز هذا الاسترجاع للماضي وناسه؛ إنَّه الحب الذي يتجلَّى عبر استحضارٍ مشتركٍ للأنثى، لفتاة القصر المجاور للحديقة، وفرح تماثيل الرخام بالجوِّ الذي كان يُضفيه وجود الفتاة إلى روَّاد الحديقة من رفاقِ زائرها هذا وصحبه. وخلاصةُ الجَوِّ أنَّه جَوٌّ يمتزج فيه المادي بالمعنوي، والرُّوحاني بالشَّهواني، فيكون الجميع جوَّ جمالٍ وحُسْنَ قِوام وبسمةَ وعري وضياءً وعبيراً وفتنةً وجوعاً وحناناً وشهوةً وحياةً دفَّاقةً بحيويَّةِ وجودِها، تحُيلُ حتَّى جمودَ الصَّخرِ وبرودةَ الرُّخامِ إلى دفء العيش:

“كم صفَّقت لحبنا جوانح الرخام”

“مفتونة أحداقنا بصارخ القوام”

“ثغرها الجميل باسماً على الدَّوام”

“لعريها يزغرد النَّفير “

“فراشة الضِّياء والعبير”

“فتَّانة الجفون”

“فريسة العيون من جوع ومن جنون

يمامة تصطاد صقرها

تشتاقه، يحنو عليه جنحها الحنون!”

لتُشَكِّلَ خلاصة كلَّ هذا الدَّفق الحياتيِّ الصَّاخب واللاهب في آن، حيوية حياة حتَّى للجمَّاد:

“كان الصَّخر من لحم ودم”

          تأتي الخطوة الثالثة، بعد حيويَّة الذي كان وما برح حيَّاً في الوجدان، عارضة حالاً قاسية من التحجُر، أو واقع ما هو كائن في الآن، معلنةً موت الواقع وتصحُّره المدميين؛ فهي، تالياً، خطوة اللعنة والدَّمار، خطوة اندحار الضِّياء وانكسار الأمل بجبروت الظَّلام مصحوباً بصهيل الفجيعة:

“بات الطِّيب كبريتاً وشمسي من ظلام

لا ظل للأتراب حولي            لا أثر

أمست سمائي الرُّعب   ربِّي من حجر!!!”

ويتعاظم البؤس راكباً فوق حصان الخيبة، تدلهم سوداوية الوحدة ويسدل صمت البؤس المنكوب أستاره على الوجود:

“وصدَّت كفُّهم صوتي   وأعلن بوقهم موتي

رفاقي مضوا، جنتي من رمال  وريحي محت ذِكرهم والصَّدى”

يتوقف الزَّائر عن السُّؤال والبحث، يُغَيِّبُ وجدانه في الصَّمت، يعلن زوال الماضي وضياع العمر ثمَّ يشهق في عويل الصَّمت المسخ معلناً الدخول في الخطوة الرابعة.

وإذا ما كان للخطوة الثَّالثة أن تنتهي إعلان تحجُّر وموت وتصحُّر وخيبة، فإن الخطوة الرَّابعة تبني ردَّة فعلٍ أولى على كل هذه المحصِّلة، إنَّها ردَّةُ فعلٍ تُشير إلى جوهرٍ لا يمكن المساس به، رغم كل الضُّغوط والعوامل والأفعال، إنَّه جوهر هذا الزَّائر للحديقة؛ وهو جوهر عماده الوحدة والعطاء والوفاء والخير عبر التوقف عن السؤال، وهدم الماضي:

“فيا نفسُ كفِّي الرَّجا والسُّؤال        ويا أمس زُلْ، ضاع عمري سدى

رفاقي مضوا كلهم في انشغالْ بصمتِ التماثيلِ ردُّوا النِّدا

مسوخاً”

وتنبني الخطوة الخامسة، من ثَمَّ، على إعلانٍ كئيب بإقرار عدميَّة الماضي الذي كان وتشوهه وإنقلابه إلى ما هو خلاف ما كان مرجوَّاً منه؛ إنها خطوة الهدم والإلغاء النِّهائيين:

“ضاع عمري سدى”

“ببغاء استحال   وأقفل أبوابه موصدا”

“ضفدع في كروم الجمال”

“فواهاً على العِلمِ صار الضَّلالوواهاً على الصَّحبِ صاروا العِدا!”

          من الواضح أن الخطوات السِّت المؤلِّفة للحركة الثانية شكَّلت ما قد يمكن اعتباره رقصة الهدم الأساسيَّة في القصيدة؛ ولقد تحقَّق هذا الهدم عبر خطوات اندحار دراماتيكي إيقاعها الفجيعة المتسلطنة على الوجود حتى الثُّمالة الباغية بحبروت عهر الخيبة.

الحركة الثَّالثة: الواقع الحَي

ترسم هذه الحركة حيويتها من خلال خمس خطوات تبدأ قصيرة مباشرة متسارعة لتصير، مع الخطوة الثَّالثة منها، ذات منحى لولبي يقود إلى أعماق وأبعاد ترسم الواقع الميت وتبشِّر بالواقع الحي. إنَّها حركة البناء الجديد بعد الهدم المرعب الذي كان.

          الخطوة الأولى، في هذه الحركة، خطوة ابتعاد:

 “إليكِ عنَّي يا سنونوات”

والخطوة الثانية، التي تليها، خطوة تأكيد الموت بل تفحصُّه والتيقُّن منه:

“خُلدي مقفر…كجثَّة بلا حياة”

أمَّا الخطوة الثالثة فوصف لحال تصنُّمِ هذا الموت:

“صخر العيون الجامدة”

“دُمىً مرسومة المسار

رتيبة الدوار”

وبعد التَّأكُّد المطلق من أن كل ما كان صار موتاً قائماً متصنِّماً، تأتي الخطوة الرابعة لتبدأ، بغضب وثقة، بهدم بقايا ركام هذا الموت:

“دُكَّها بالنَّار والكبريت”

فتكون الخطوة الخامسة بداية بناء الجديد، أو هي البشارة بالواقع الشِّعري؛ بعد التَّأكد المطلق من هدم ما كان، أو هدم الواقع الذي كان موجودا:

“أَعِد سلام الشِّعر للملائك الأبرار”

“أعِد ملاك الحوض في طفولتي وشهقة الجماد إذ نُضام”

اطرد دُمى الكلام من حديقتي  جماجم الرخام!!”

والملاحظ في هذه الحركة الثالثة أنَّها، على خطواتها الخمس، حركة سريعة، تشي بما قد يكون الحسم أو الجزم. إنَّها حركة التفلًّت من كل ما كان والانطلاق إلى كائن جديد. إنها حركة إعلان هدم ما تشكَّل من وجودٍ واقعيٍّ، وما عملت السنين والذِّكريات والأحاسيس على تكوينه؛ والانفتاح، من ثمَّ، على عالم من غير الواقعِ المعيش، على عالمٍ شعريٍّ، إن جاز التَّعبير، ينتصر فيه الأمل، الذي تحن إليه القصيدة منذ حركتها الأولى؛ وفيه، أيضاً، يتشكَّل طموح الوجود الذي يرومه “زائر حديقة الرُّخام” منذ يفاعته وصباه وحتَّى يوم زيارته الذي ولَّد نصَّ القصيدة.

استنتاجات:

        يتجلَّى هذا النَّص من خلال تفاعل ثلاث حركات تأسيسيَّة له، تقدِّم كل واحدة، من هذه الحركات، خطوات خاصَّة بها لمجال تفاعلي يمهِّد، بدوره، للحركة التَّالية. ونتيجة هذا التَّرابط الموضوعي والعضوي بين هذه الحركات، فإنَّها تتحوَّل من حركات تأسيسيَّة إلى حركات أساسيَّة في بنائيَّة النَّص.  ومن جهة أُخرى، فإنَّ كل واحدة من هذه الحركات تقوم على خطوات إيقاعيّة تكاد تكون متوازنة فيما بينها؛ الأمر الذي يعطي النَّصَّ طاقة إيقاعيَّة بنيويَّة داخليَّة تُساهِم في جذبه التفاعلي للمتلقي.

يتحقَّقُ التَّفاعل الشِّعري بين هذه الحركات في كون كل واحدة منها تمهِّدُ لِمَسْرَحَةٍ دراميَّة مُتصاعدة لموضوعها، وهي مَسْرَحَةٌ لا تجد حلاًّ لتصاعدها الدرامي إلاَّ في الحركة التي تليها، ولا يكون هذا الحل إلاَّ بالخروج من العالم المادي الواقعي، لكن الكاذب؛ إلى العالم الشعري الحقيقي.

إنَّ الشِّعريَّة التي يُقدِّمها النَّص هي شعريَّةٌ قائمةٌ على اكتشاف أنْ ثمَّة تبايناً دراميَّاً واضحاً بين “ما هو واقع” و”ما هو حقيقة”؛ وأنَّ الحقيقة لا تكون إلاَّ بالوعي الشِّعري للوجود وليس بالوعي الواقعي لهذا الوجود.

حديقة الرُّخام التي يعيشها “زائر الحديقة”، في واقع ذاكرته، تنهار وتنهدَّم بمواجهة حديقة الرُّخام التي يعيشها “زائر الحديقة”، في حقيقة وَجْدِهِ الشِّعري!

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *