مَن هوَ جورج زكي الحاج؟

Views: 119

مكرم غصوب

“أنا هوَ الطريقُ والحقُّ والحياة.”

حينَ كُنّا، في الصفوفِ الثانويَّةِ، نُردّدُ أَقوالَ الناصِريّ كشِعاراتٍ مُعَلَّبةٍ دونَ أن نُدرِكَ جَوهرَها واتجَاهَها، كما يَفعلُ الكَثيرونَ مِمَن هُم اليومَ في الصُفوفِ الأولى،               

وحينَ كُنتُ، كَكُلِّ أَترابي، لا أَرى في الطريقِ إلّا الوصولَ، ولَم أكنْ قد أدركْتُ بَعدُ أنّ الطريقَ الذي يوصلُ إلى الحَقِّ والخَيرِ والجَمالِ هو الطريقُ الذي لا يَنتهي، هو الحقُّ والخيرُ والْجَمالُ، الغَايةُ الوسيلةُ، هوالطريقُ إلى الطريقِ، فعلُ الحياةِ المتجدِّدةِ، (حينَ كُنتُ، كَكُلِّ أَترابي) دَخَلَ رَجُلٌ إلى صَفِّنا الثانويِّ الأَولِ، أولِ صفٍّ ثانويٍّ في مدرَسَةِ القَلبيْن الأَقدسيْن بيت شباب، رَجلٌ يَقولونَ إنَهُ مُنَسِّقُ اللُغةِ العرَبيّةِ، وبَدأ يُخبِرُنا عَن طَريقِهِ.              

يُخبِرُنا كَيفَ، في طَريقِ جُلجُلَتِهِ العِلميَّةِ، بِدايةً، كانَ هَمُّهُ الوصولَ والصَليبُ على كًتفيهِ إلى قِمّةِ الجَبَلِ، ولكِنَّهُ في النِهايةِ، كَما فَعَلَ كِلكامِش والناصِريُّ، قرَّرَ حَمْلَ الجَبَلِ على كتفيه وتَرَكَ سيزيف يَتدحرَجُ وَراءَ صَخرةِ وصولِهِ…          

يُخبِرُنا كَيفَ سَلَكَ طَريقاً، حين هجَرَتْهُ الأَقدَامُ صارَ حَديقةً، وكأنَّهُ يوصِينا بأنْ نَعبُرَ دونَ أن نَدوسَ وِجدانَ الطريقِ كي لا يَنكَسِرَ في بوصَلَتِنا مَعنى الاتجاهِ.  

مكرم غصوب

             

لم أَكُنْ أدرِكُ أَنَّني، لَو خُيّرتُ اليومَ بينَ البدايةِ والنهايةِ لاخترتُ الطريقَ، فسألتُ يومَها نفسي مُتهكِّماً ” مَن هوَ جورج زكي الحاج؟!” والتقَيْنا ولم نَلتقِ…

وكانَ في المَدرَسَةِ، مُعلِّمةٌ للُغةِ الفَرنسيّةِ وآدابِها، غَريبَةٌ جَميلَةٌ، مُتخَصِّصةٌ في مُجابَهةِ الموتِ بالإبداعِ وليسَ بالخَديعةِ. كانَت المونا أنيتا تُخصِّصُ لَنا، في كلِّ أُسبوعٍ، حِصَّةً تحليليّةً للوحاتِ أشهَرِ الرَسّامينَ (دولاكروا، دافنشي، فان غوغ، رونوار، بيكاسو، موديغلياني وغَيرهِم) وكانَتْ تَستضيفُ جورج زكي الحاج في هذِهِ الحِصَّصِ المُميَّزَةِ. ولَكِنْ مَنْ هو جورج زكي الحاج ولِمَ يَحضُرُ مُنَسِّقُ اللُغَةِ العَربيَّةِ هَذِهِ الحِصَصَ؟ كُنتُ أَسالُ نَفسي مُتَهكِّماً، ويَخنُقُني الغيظُ، حينَ كانتْ تسأَلُهُ رأيَهُ النقدّيَّ في تَحليلي للَوحات. لَمْ أَكُنْ قَد أَدرَكتُ يومَها طريقَ المَعرِفَةِ من السؤالِ إلى الرأيِ، وأنَّ النقدَ مسؤوليةٌ كُبرى تتَطلبُ إحاطةً بالوقائِعِ وخِبرةً وتَعمُّقاً بالحَيثيّاتِ وحِكمةً ومَنطِقاً سَليماً لِرَبطِ الوقائعٍ بالحَيثياتِ ولاستنباطِ طَريق ٍ جَديدٍ أو تجديدِ طريق…كُنّا نَستَسهِلُ الوصولَ ولكنَّ أبناءَ اليومِ لم يكتفوا باستِسهالِ الوصولِ بَلْ أسقَطوا المعانيَ الكَبيرةَ لتُصبِحَ بِمُتَناولِهِم دونَ أن يَرتَقوا إليها وقَد جاءَهم من يُسَوِّقُ لـ”حُريّةِ الرأي” دونَ أنْ يُعلِّمَهُم أنَّ الحُريّةَ مَسؤوليّةٌ والرأيَ مَسؤوليَّةٌ، وأنَّ للْجَميعِ حُريّةَ السؤالِ والتساؤلِ والتَعبيرِ عن الانطباعِ ولكنَّ إبداءَ الرأيِ حقٌّ فقط لِمَنْ اكتسبَ المَعرِفَةَ.             

رُبما، كُنتُ سأتقبَّلُ يومَها نَقدَ جورج زكي الحاج المسؤولَ المُتفرّدَ المتخصّصَ لتحليلاتي لو لَمْ تَمنَعُني غَيْرَتي على أنيتا، أنا الذي لم يَكُنْ قَد تَعمَّقَ في المَعنى بَعدُ ليَستنبِطَ أنَّ الإنسانَ يغارُ بِقَدْرِ ما لا يستطيعُ أن يَكونَ فرادَتَه…وللمرَّةِ الثانيةِ التقَيْنا ولم نلتَقِ.

“راحِت آنيتا،          

والدَمعْ يتعتَّب،        

طَيْر الصُبحْ،           

مين قال: رَح يِرحَل؟!”

ماتَتْ أنيتا، الشَّابةُ الجَميلةُ، خادَعَها الخَبيثُ أو رُبَّما غارَ عليْها مِنهُ ومِنّي، بَكيْتُ كَثيراً وكَتَبتُ لَها قَصيدةً كَما فَعَلَ جورج زكي الحاج…

 

“دُكتور جورج سيَحِلُّ ضَيْفاً على بَرنامَج “خميس الشِعر” التِلفزيوني، وسَتقرَؤونَ من قصَائِدِهِ”. أبلَغَنا الأُستاذ جورج يمين، مُعلِّمُ اللغةِ العَرَبيةِ وآدابِها في المَدرَسة، قبلَ أن يَختارَني لقِراءَةِ قصيدةِ “صوت الهوا مَبحوح” المُهداةِ لروحِ أنيتا فريد الحدّاد… بِلا أيِّ تَرَدُّدٍ رَفَضتُ، فَمَن هوَ جورج زكي الحاج لأخونَ أنيتا بقَصيدتِهِ؟ انا الذي لمْ يَكُنْ يَعلَمُ أَنَّنا أحياناً نَخونُ لنكونَ أوفياءَ، ما زِلتُ أردّدُ يوميّاً قصيدَتَهُ ونَسيتُ كُلَّ ما كَتَبْتُه لأنيتا.          

في السَنَةِ التاليَةِ، في يومِ عيدِ المُعلِّمِ، سقَطَ جورج يمين عن قصيدَتِهِ الأخيرَةِ ورَحَلَ، تَمَّ اختياري لرِثائِهِ باسمِ طُلّابِهِ، وأمامَ نَعشِهِ الأبيضِ، جَمَعَني بجورج زكي الحاج مِنبرُ وداعِهِ، كانَ أوَّلَ مِنبَرٍ يَجمَعُنا، طالِباً ومُعلّماً، مُردِّدَيْنِ سَويّاً كلماتِ جورج يمين الأخيرةِ “أيا صاحبَ العيدِ..” والتقيْنا مُجدّداً في مَوتيّ حبيبينِ، ولَمْ نلتقِ.

وبَعدَ ما أنضَجَتني الحياةُ، جَمَعتْنا، فتَفاعلْنا وتَصادقْنا والتقينا، كما التقى “نقدُه الأسودُ” “وجوديَّتي البيضاءَ”، فالأسودُ نورٌ بلا ظلٍّ، الأسودُ فِعلُ احتواءٍ، والأبيضُ مخلوقٌ غيرُ مَولودٍ من تفاعلِ الألوانِ الأساسيِّةِ. التقينا في المعاني الكبيرةِ المُنبَثِقَةِ من بيئَتِنا، تاريخِ بلادِنا وحضاراتِها… التقينا في مَعنى الفِداءِ ومَعنى التَجاوزِ الارتقاءِ وفي الكَلِمَةِ السواءِ، الكَلمةِ الفِعلِ، الكَلِمةِ المَوقِفِ، الكَلِمةِ الحَقّ. 

التقينا في الطريقِ الذي جاءَ ليَنقُضَ ويُكمِلَ، طريقِ الكمالِ وليس إكمالَ الطُرُقِ المُلتويةِ المُلتَبِسةِ الاتجاه…طُرُقِ الوصولِ إلى الانحطاط.                 

التقينا في الطريقِ وتركْنا الوصولَ وراءَنا للآخرين، وها نحنُ اليومَ، سَويّاً للحياةِ نُغنّي:

جِئتُ إليكِ أبحَثُ عَنّي

فوَجدتُ أنّي

طريقٌ إليكِ منّي… 

     ***

*كلمة من القلب للشاعر  مكرم غصوب ألقيت خلال تكريم  رئيسة “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي” المهندسة والشاعرة ميراي شحاده  البروفسور جورج زكي الحاج، قدمت له  خلاله مجسّم القلم ( شعار المنتدى) ومنحوتة حجرية من أعمال النحات بسام ملوك، تخلّل التكريم قصيدة ألقاها الشاعر شربل فرنسيس، وذلك ضمن نشاطات جناح المنتدى في معرض الكتاب في دورته الخمسين في الرابطة الثقافية-طرابلس.

                               

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *