زمن المحاسبة لا زمن العفو!

Views: 570

د. مشير عون

(الاثنين 11 تشرين الثاني 2019)

العفو العامّ قضاءٌ مبرمٌ على القضاء في لبنان. فاللبنانيّون يحيون اليوم في أحوال استثنائيّة تستوجب تعزيز منطق المحاسبة الشاملة، العميقة، الجذريّة، العادلة، البنّاءة. لذلك لا يجوز أن يُقدِم المجلس النيابيّ على تشريع يخالف منطق الزمن اللبنانيّ الاستثنائيّ. يتّفق أن تختبر الدوَلُ أزمنةَ اضطراب واحتراب تلجأ السلطاتُ الشرعيّة في إثرها إلى إصدار عفو عامّ ينعم به جميعُ الذين اضطرّهم انهيارُ القيَم والمباني الدستوريّة والقانونيّة إلى مخالفة الأنظمة والقوانين. في غضون المئة عام من نشوء لبنان الكبير اختبر المجتمع اللبنانيّ ضروبًا شتّى من العفو العامّ كان من أشدّها طلبًا للسلم الاجتماعيّ العفو العامّ الذي حظي به آلُ دندش في منطقة البقاع المحرومة.

غير أنّ الأوضاع اللبنانيّة الراهنة ليست أوضاع الخروج من الحرب، بل أوضاع الدخول المحتمَل إلى الحرب، لاسيّما إذا تعثّر اللبنانيّون في إدراك معنى هذه الثورة الشاملة التي ينهض بها الشعب في مكافحة الفساد، واستئصال الظلم، وترسيخ البنيان الإنسانيّ المستقيم، وتوطيد المعيّة الوطنيّة السليمة، وتدعيم التدبير العادل والإدارة الرشيدة في جميع الحقول الاجتماعيّة والتربويّة والسياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة. في قرائن هذه الأوضاع يجب التشدّد الأقصى في محاسبة كلّ مرتكب، لا التهاون والتساهل والتراخي والاستخفاف. كلّ جُنحة، مهما صغر شأنها، ينبغي أن يقام عليها الحسابُ العادل ويبتّ فيها القضاءُ النزيه الحاسم. 

مشروع قانون العفو العامّ ينطوي على مخاطر جسيمة تصيب البنيان اللبنانيّ بأسره. فهو أوّلًا لا مسوِّغ له على الإطلاق في كنف هذه الأوضاع الاستثنائيّة. وهو ثانيًا يُبطل مفاعيل الثورة اللبنانيّة التي تقوم أصلًا على مبدإ المحاسبة. وهو ثالثًا يناقض منطق الانتظام الاجتماعيّ السليم في الوطن اللبنانيّ لأنّه يساوي بين المذنب والبريء، والضحيّة والجلّاد، والمرتكب والصالح، وأهل الشرّ وأهل الخير. وهو رابعًا يحمي الطبقة السياسيّة الفاسدة التي استولت على مقاليد الحكم في لبنان منذ ما يقارب الثلاثين سنة.

أتركُ للحقوقيّين أن يدحضوا المسوِّغات والمندرجات القانونيّة الملتوية التي ينطوي عليها مثلُ هذا المشروع. بيد أنّ الحكمة الفلسفيّة تقتضي التبصّر الناقد في آثار هذا العفو الهدّامة. فاللبنانيّون، منذ ثلاثين عامًا، لم يتنازعوا ويتصارعوا ويتقاتلوا مستسلمين لغرائز التوحّش الاحترابيّ حتّى تسوِّغ الحكمةُ الإنسانيّةُ للدولةأن تحصّن نفسيّاتهم المضطربة بشيء من الحِلم وطول الأناة والتجاوز والمغفرة والصفح واللين والرضوان الترميميّ للذات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة. اللبنانيّون، ولاسيّما أهل النفوذ السياسيّ والإقطاعيّ والإداريّ والاقتصاديّ والدينيّ والتربويّ والجامعيّ، اختاروا طوعًا الفساد والعدوان والجرم والارتكاب والفحش. ولم يردعهم رادعٌ لأنّ بنى الإثم أضحت عميقة الانغلال في الاجتماع اللبنانيّ. فسكت بعضُهم عن بعضٍ، وكتم بعضُهم خبائث بعضٍ، وستر بعضُهم قبائح بعضٍ، حتّى طفح كيلُ الشعب، فهبّ هبّةً جريئةً يصرخ من شدّة ألمه الكيانيّ وفقره المادّيّ وبؤسه الوجوديّ.

 

ربَّ مراقبٍ موضوعيّ يطالب باسترحام فئة من اللبنانيّين قسا عليها الدهرُ حرمانًا وذلًّا، فأصابها اليأس والقنوط، فارتمت إمّا في المحرَّمات الأخلاقيّة من تجارة مخدِّرات وممنوعات وسلاح، وإمّا في المحرَّمات الدينيّة من انتماءات أصوليّة تفكيريّة فتّاكة. في هاتين الحالتين يجب على القضاء اللبنانيّ أن يحرص الحرص كلَّه على إحقاق الحقّ، وإنصاف المظلومين، وبتّ الدعاوى، واستصدار الأحكام، وتخفيف العقوبات. وهذا كلّه لا يحتاج إلى عفو عامّ، بل إلى استنهاض بنيويّ شامل ينشّط الجسم القضائيّ برمّته. 

 

أمّا أن يصدر عفوٌ عامٌّ عن جميع ما ارتكبه اللبنانيّون من مفاسد، فذلك من أسباب الانحلال الحتميّ للبنيان اللبنانيّ. فهل يُعقل أن يشرّع مجلسُ النوّاب تشريعًا اعتباطيًّا، منفعيًّا، جائرًا، ينقل الاجتماع اللبنانيّ من حالة التمدّن النسبيّ إلى حالة التوحّش الشامل ؟ وهل يصحّ أن يحرّض مجلس النوّاب الناس على الانتقام الذاتيّ، والعدالة الميدانيّة المباشرة، والتصفية الجسديّة الاستنسابيّة إذا ما نجا الظالم وهلك المظلومُ ؟ وكيف يمكن الحديث عن استرداد أموال الخزينة المنهوبة وممتلكات الدولة المسروقة إذا عفا المجلسُ النيابيّ عن كلّ التعدّيات والاختلاسات والسرقات التي اقترفتها الطبقة السياسيّة منذ انتهاء الحرب اللبنانيّة إلى اليوم ؟ وكيف يجوز الحديث عن انتظام معنى العدل في أذهان اللبنانيّين الذين ما برحت دعاويهم عالقة في المحاكم القضائيّة تنتظر القرار الحكيم الوازن المنصف ؟ وهل يدرك اللبنانيّون الثائرون الذين يطالبون بعفو عامّ في ساحات الثورة أنّ مثل هذا القانون سيحوّل لبنان إلى مزرعة حيوانات مفترسة يستبيح فيها القويّ حقوقَ الضعيف، ويستكبر فيها الفاسدُ والشرير والفاسق، فيتجبّر ويتسلّط على مصائر الناس البسطاء، الودعاء، العقلاء، الأنقياء ؟ لا ينهض لبنان اليوم بالعفو العشوائيّ، بل بالحكم النزيه العادل. وكلّ خروج على هذه القاعدة يزجّ اللبنانيّين في أتّون الالتهاب والفناء. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *