براءة الشعب المذنب!

Views: 855

د. مشير عون

(الأربعاء 13 تشرين الثاني 2019)

ينتفض الشعب اللبنانيّ ويثور بالطبقة الحاكمة المستبدّة، من بعد أن تَبيَّن له أنّ الثلاثين سنة الأخيرة طفحت عفونةً ونتانةً، وجشعًا وفسقًا،وانتهاكًا وفسادًا. أجمع الناسُ الثائرون على أنّ أصل الفساد ناشبٌ في عمق النظام الطائفيّ، والطبقة السياسيّة، والذهنيّة السياسيّة، والمسلك السياسيّ. ولكنّ السياسيّين المستبدّين بالشعب اللبنانيّ هم أوّلًا وآخرًا لبنانيّون، مفروزون من نسيج الشعب اللبنانيّ إمّا بالتوارث الجينيّ، وإمّا بالنفوذ العشائريّ، وإمّا بالاقتدار الماليّ، وإمّا بالتدرّج العسكريّ. جميع هذه السبُل تُفضي إلى الانتخابات الدِّموقراطيّة التي تمنح الشرعيّة الدستوريّة،وتعزّز مقام الشرعيّات التقليديّة والإلهاميّة التألّقيّة (الكاريزما) التي يتمتّع بها رهطٌ من القادة السياسيّين.

الأخطر في هذه المسألة كلّها اختبارُ الانتخابات النيابيّة في وعي اللبنانيّين. يظنّ الناسُ أنّ لبنان بلدٌ دِموقراطيّ بمقتضى اعتماد مبدإ الانتخاب الحرّ. ولكنّ الدِّموقراطيّة الحقيقيّة تُكلَّل في آخر محطّاتها بالاقتراع الشعبيّ. أمّا شروطها الموضوعيّة الأساسيّة، فتبدأ في موضع آخر. من هذه الشروط الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة، والمسؤوليّة الذاتيّة، والوعي النقديّ الذاتيّ، والقدرة الذاتيّة على الإدراك السليم والفهم الصائب، والثقافة المعرفيّة المستقيمة. هذا في مقام الذات الفرديّة. أمّا في مقام الاجتماع اللبنانيّ، فالدِّموقراطيّة لا تصحّ في قرائن التفاوت الاقتصاديّ الحادّ، والظلم والفقر والبؤس، وفي سياق التخلّف التربويّ واضطراب العلاقات الاجتماعيّة وتنازع الطوائف المتشنّجة المتصلّبة المتخاصمة حتّى العداء. أمّا في المشهد الأوسع، فيصعب بناء مجتمع لبنانيّ دِموقراطيّ تكتنفه وتضيّق عليه أنظمةٌ عربيّةٌ وإقليميّةٌ استبداديّة ديدنُها أن تستزرع التربةَ اللبنانيّة لتبذر فيها بذار الخيانة والتفرقة.

براءة اللبنانيّين أنّهم يظنّون أنفسهم في طور دِموقراطيّ متقدّم. ذنبُ اللبنانيّين أنّهم يمارسون الدِّموقراطيّة في طورها التقنيّ الأخير، أي في صناديق الاقتراع. والحال أنّ تهذيب الوعي الذاتيّ هو شرطُ الشروط في نجاح المسلك الدِّموقراطيّ في الانتخابات. حاول اللبنانيّون منذ زمن الاستقلال أن يطوّروا ثقافتهم الدِّموقراطيّة ومسلكهم الانتخابيّ. إلّا أنّ الحرب اللبنانيّة أرجعتهم القَهقَرى حتّى بلغوا في الثلاثين سنة الأخيرة مبلغًا مخزيًا مَعيبًا. حفنةٌ من الأموال، وباقةٌ برّاقةٌ من الوعود، وسلَّةٌ مغريةٌ من الولائم تجعل جموعًا غفيرةً من اللبنانيّين ينهارون أخلاقيًّا، فينتخبون مَن يتسلّط على رقابهم ويستبدّ بمصائرهم. 

ينبغي أيضًا الالتفات إلى محنة وجوديّة أشدّ فتكًا بالوعي اللبنانيّ الذاتيّ، عنيتُ بها محنة الاصطفاف الطائفيّ المذهبيّ والعشائريّ العصبيّ. غالبًا ما تستولي الغرائزُ الطائفيّة والعصبيّاتُ العشائريّة على عقول الناخبين اللبنانيّين. فيضحّون بفرديّتهم افتداءً للزعيم، وينزّهون المرشّحين من بني قومهم عن الشرور والمفاسد، وفي اعتقادهم أنّهم يعصمون جماعتهم من كلّ مكروه أو استضعاف. أمّا الغشاء الأكثف الذي يعمي بصر اللبنانيّين، فهو الغشاء الأيديولوجيّ الذي يزيّن للناخبين أنّهم باقتراعهم يساندون المحور الإقليميّ الذي يصون لهم منعتهم السياسيّة. فإذا باللبنانيّين يقترعون للغرباء على الأرض اللبنانيّة !

لا غرابة، والحال هذه، أن تُنجب الانتخاباتُ اللبنانيّة، على تعاقب العقود الثلاثة الأخيرة، هذه الطغمة من السياسيّين المتورّطين بآفات الفساد، المستسلمين لغرائز التسلّط والاستبداد، المرتهَنين بمشيئة القوى الإقليميّة التي ما انفكّت تضرب في الأرض اللبنانيّة تحريضًا وشقاقًا، وشغبًا واضطرابًا، وإفسادًا وانحطاطًا. أمّا الاستثناء في نتائج الاقتراع، فنادرٌ حتّى إثبات القاعدة. وقد يُملي المكرُ على الفاسدين أن يأتوا بوجوه ناصعة من أجل التضليل الشعبويّ الرخيص.

ومن ثمّ، لا يجوز في هذه اللحظة المصيريّة من الثورة أن يسارع الناسُ إلى صناديق الاقتراع، وهم مُثقَلون مُنهَكون بأمراض التبَعيّة والطأطأة والإذعان والانقياد. أعلم أنّ الحَراك المدنيّ ولّد في عقول الكثير من الشبّان والشابّات رفضًا قاطعًا لكلّ أشكال الخضوع. ولكنّ الزمن ليس زمن انتخابات، بل زمن توعية. والتوعية لا تصحّ إلّا في كنف حكومة مستقلّة، نزيهة، عليمة، مقتدرة، تستهلّ عملها الحكوميّ بخطّة تنشئة شاملة في جميع المدارس والمعاهد والجامعات تهدف إلى زرع حسّ المسؤوليّة الذاتيّة في مدارك الناس، كبيرِهم وصغيرِهم، حتّى يجتنبوا السقوط في تجربة التزييف والتضليل والتدجيل أمام صندوق الاقتراع، وينزعوا عن صدورهم مكرَ هذا النظام الطائفيّ المهترئ. 

لا يمكننا تغيير الطبقة السياسيّة الفاسدة على الفور لأنّها أنشبت أظافرها المجرمة في صدورنا وفي مبانينا وفي مؤسّساتنا منذ فترة طويلة. التغيير ينبغي أن يأتي تنجيمًا، أي قسطًا تلو قسط ودفعةً بعد دفعة. الطور الأوّل من التغيير ينبغي أن يبدأ بتعزيز التفكير النقديّ الذاتيّ في وعي الأفراد اللبنانيّين. في موازاة هذا المسعى، ينبغي النضال الحثيث من أجل تأليف حكومة حياديّة تمنح اللبنانيّين الثقة بقدرتهم على التغيير البنيويّ، ولاسيّما في عمق الائتلاف الاجتماعيّ اللبنانيّ وعمق النظام السياسيّ اللبنانيّ. تمهيدًا لمثل هذا التغيير الجليل، ينبغي اقتطاف ثمار الثورة في مكاسب شرعيّة أساسيّة، منهامحاسبة الفاسدين، ووقف الهدر والاختلاس، واسترداد الأموال المنهوبة بالإكراه القانونيّ والإقامة الجبريّة، والشروع في تنفيذ الخطّة الاقتصاديّة الإصلاحيّة المبنيّة على رؤية عصريّة شاملة للتنمية المستدامة التي تليق بخصوصيّات البنيان اللبنانيّ الجغرافيّ والسكّانيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والبيئيّ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *