الباروديا والسخرية بالقصة القصيرة جدًا/ نص: سفر الأهبة … انموذجًا..

Views: 168

حمد الحاجي

قراءة في قصة قصيرة جدا للكاتب التونسي توفيق بن الطاهر صغير وهذا النص :

 سفر الأهبة … ق ق ج

اسْتنْهضُوا دابَّتَهُمْ المهجُورَةَ.. نمَّقُـــوهَا.. جَمَّلُوهَا.. حَمَّلُوهَا أحْلاَمَ السُّوقَةِ وجَعَلُوا لها جُلْجُلاً صَدَّاحًا.. سَارُوا خَلْفَهَا بجَلَبَةٍ أيْقَظَتْ غيرَةَ الكِلابِ السَّائِبَةِ فسَالَ لُعَابُهَا.. رُفِعَتِ اللافِتَاتُ الدَّاعِمَةُ للرّفْق بالحَيَوانِ ..

كُنْتُ علىَ الرَّصِيفِ المُقابل أدَنْدِنُ مَكْلُومًا: “لاااا حَمَلَتْ رِجْلاَكَ يااا … بَهيمَةُ”

في عموم النص

… انبنى النص منطلقا من الثورة على الوعي الزائف، وظل يقارع الحجة بنقيضها حتى إدانة سياسة الاستلاب وهو في ذلك ينمق من النص الوجيز مقام ارتقاء لتبيان تزييف القيم الإنسانية..

وأقام الكاتب هذه السخرية على التنكيت المعلن والمضمر والتهكم الصريح ونجد أثر التعريض كما بمقامات الهمذاني الكثير من منها ..وقد أجاد الكاتب بالتلميح والإيحاء بلغة سامقة بديعة . كيف ذلك؟

تصدير 

تذكرتُ وأنا أدندن مع النص … (يا حادي العيس) :

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم . . . وحملوها وسارت بالدجى الإبل

فأرسلت من خلال السجف ناظرها . . . ترنو إلي ودمع العين ينهمل

وودعت ببنان خلته علمٌ ناديت . . . لا حملت رجلاك يا جمل

يا حادي العيس عرج كي نودعهم . . . يا حادي العيس في ترحالك الأجل

قراءة : الباروديا والسخرية بنص : سفر الأهبة … نموذج الـ ق ق ج

مقدمة :

“مثلما تبتدئ الفلسفة بالشك، كذلك تبتدئ الحياة الكريمة، تلك التي نصفها بالإنسانية، بالسخرية.”

لتحقيق درجة من درجات الصدق الفني، واذكاء ذائقتنا الأدبية بنوع من النضج الادبي لا بد للنص ان ينآى عن مهماز استغلال القارئ واستدرار عواطف المتلقي أو استحلاب عينيه بالألم وفائض الرومنسية والمبالغة في نثر الأحاسيس على الأثر النصي..ومن هنا يأتي اذكاء القصة القصيرة جدا على محامل السخرية والباروديا ..تصديقا لقول الكاتب الساخر محمد الماغوط: «كل من يُجيد الكتابة الساخرة يُجيد زعزعة الظلام».

و حيث يقول زكريا تامر عن الأديب الساخر: «إنه ينجح في الجمع على أرضٍ واحدة بين الليل والنهار، بين الأمل واليأس، بين مرارة الهزائم وغضب العاجز»..

اولا في المفهوم : السخرية / باروديا

1 – تجارب ومفاتيح :

السخرية والفكاهة والضحك خرق وتجرؤ..الى أي مدى ؟

حين استجلائنا للقصة القصيرة جدا وتأثير بعض التجارب الكتابية عند مصطفى العتيري مثلا او التجارب النقدية كما ذهب الى ذلك الدكتور جميل الحمداوي ..هل نظفر بموضع السخرية ؟

ان يكن أسلوب ” الباروديا” أو المحاكاة الساخرة ، نافلا من الكتابة الادبية فانه أعمق أثرا و أبقى تأثيرا من غيره في القصة القصيرة جدا .فقد يأتي اصطيادا للمفارقات المؤثرة بالدهشة ، و تصويرا للأضداد ساخرا،ادراكا لمجمل الحقائق التي نحياها و لا نلتفت إليها، القصة القصيرة جدا يصوغها كاتبها كي تبدوُ في قالب ساخر ممتع و عميق مرآة صادقة لعمل رائق استئناسا بكتابات برنارد شو ، وبكثير من مقولات إميل حبيبي ، ومن قبله من اسلافنا كالجاحظ و غيرهم..

فالمحاكاة الساخرة ( باروديا) (بالإنجليزية: parody) هي كل أثر أدبي أو فني يُحاكَى فيه امر على نحو تهكمي يثير الضحك و السخرية. جاء في قاموس المعاني : “الباروديا : اثر ادبى او موسيقى يحاكى فيه اسلوب أحد المؤلفين على نحو يثير الضحك و الهزء = البارودية : المحاكاة الساخرة لاحد المؤلفين محاكاة تهكمية او ساخرة” [1]

2- السخرية أنواع ومقاصد :

فهي تقنية لكنها من عناصر القصة القصيرة جدا على اختلافها وتنوعها فقد ترد بالنص :

1- السخرية “بالمحاكاة” كصياغة النص تعليقا وتحريكا للشخصيات في مناشط الكلام والمشي والحركات الجسمية وأنواع السلوك المختلفة، أي في ابرز السمات الظاهرة ..

2 – السخرية بالصوت، وتلوينه ورفعه وخفضه وإعطائه نبرات خاصة معروفة يفهمها السامع

3- “الذم بما يشبه المدح”.

4 – طريقة من طرق الاستهزاء..كأن تعالج الشيء الحقير كأنه عظيم الشأن مهيب..

5 – التعريض : من أشهر أنواع السخرية في الأدب العربي.

6 – التصوير المبالغ فيه (مثلا تنويع الصورالكاريكاتورية)

7 – التلاعب اللفظي: في محاولة للـــتندر كأن يكسب الألفاظ معاني غير معانيها الواضحة

وانزياحها عن الاصل بالمعنى ..

ثانيا : السخرية بنص الاستاذ توفيق الصغير

بالاول – خاصية السخرية

يعتمد الكاتب في هذه القصة الساخرة على :

أ – توصيف الواقع المتناقض

سفر الأهبة … عرض التناقض بـــ… عن سفر الأحبة

دابَّتَهُمْ …(مملوكة بضمير الغائبين هم )….عرض التناقض بـــ… المهجُورَةَ.

ب – الثورة على الوعي الزائف

جَمَّلُوهَا….عرض تناقض الوعي بـــ…حَمَّلُوهَا أحْلاَمَ السُّوقَةِ

ج – إدانة سياسة الاستلاب وتزييف القيم الإنسانية

جَعَلُوا لها جُلْجُلاً صَدَّاحًا…..عرض التناقض بـــ…رُفِعَتِ اللافِتَاتُ الدَّاعِمَةُ للرّفْق بالحَيَوانِ ..

د – الضحك كالبكاء.

أدَنْدِنُ مَكْلُومًا…..عرض التناقض بـــ…”لاااا حَمَلَتْ رِجْلاَكَ يااا … بَهيمَةُ”..

وهذا النص :

سفر الأهبة … ق ق ج

نص انبنى بالوعي الفائق المضاف منطلقا من الثورة على الوعي الزائف، وظل يقارع الحجة بنقيضها حتى إدانة سياسة الاستلاب وهو في ذلك ينمق لتبيان تزييف القيم الإنسانية

وهكذا أقام الكاتب هذه السخرية على التنكيت المعلن والمضمر والتهكم الصريح ونجد أثر التعريض كما بمقامات الهمذاني الكثير من منها ..وقد أجاد الكاتب بالتلميح والإيحاء بلغة سامقة بديعة .

بالثاني – جمالية استخدام مظاهر السخرية

بهذا النص مظاهر السخرية تنتج عن:

1 – المفارقة الصارخة

تنطلق هده المفارقة التي صاغها الكاتب باقتدار من مبحث فلسفي عميق اذ السخرية هي عكس نظرية المعرفة ففي حين نرى أن نظرية المعرفة تسعى لتأسيس توافق بين تصوراتنا والمواضيع نفسها. تبدو السخرية وكأنها تؤسس لمقولات أن الواقع لا يتطابق مع الكلام. لذلك، لذلك جاءت بالنص كي تفيدنا في اطار خطابنا الادبي أكثر مما تفيدنا بتوصيف ما يوجد في الواقع..

2 – الانزياح المنطقي:

يصوغ الكاتب منطقه النصي من ان توليد السخرية ينشأعلى الدوام من عدم الرضا عن الخطاب الرسمي الذي يستشعر الفرد/ المتلقي هنا أنه يخفي ما هو جوهري ليغبط حق المنطق ..

حيث نلاحظ بالنص ان الكاتب حين استعماله للسخرية فقد أورد النص والملفوظ الكلامي الذي يقوم بتبني الساذج لما يُقال اجتماعياً خياراً وارداً يشعر الشخصية بالخيبة والميل إلى السذاجة والغباء..

3 – كثرة الباروديا باللغة :

اوجد الكاتب بنصه السخرية، في أكثر صيغها التصاقا،بلعبة الايهام باللغة:

لم ينقطع النص عن الإدلاء بنقيض ما نعتقده عبر محاكاة النحو/ الصرف المعتمد في الخطاب السائد. ذاك أن العبارة الساخرة تؤدي الحكم المنتظر بتأكيدها لعكس ما نلاحظه بظاهر الخطاب.

4 – تكسير المواضعات السائدة :

وضعنا النص في اختيار بين أطروحتين متقابلتين، الأولى تقضي بأن السخرية تكمن في الأشياء نفسها المطروحة السفر بالاهبة والثانية تقضي بأن السخرية موجودة في النظرة التي ننظرها إلى الأشياءالمحمولة ومآلات النص

5 – تخييب أفق انتظار القارئ:

لو ننطلق من القفلة سنرى أن القول :

[……كُنْتُ علىَ الرَّصِيفِ المُقابل أدَنْدِنُ مَكْلُومًا: “لاااا حَمَلَتْ رِجْلاَكَ يااا … بَهيمَةُ”]

يستخدم السخرية لتشمل قبل كل شيء استخداماً معيناً للخطاب، فهي تخاطر بأن تُسجن الساخر الذي يلجأ إليها في لغته والمثول امام التناص مع الشعر والتعالق مع النص المقدم. وهو بذلك مستعملا الصيغة الساخرة معبرا عن عكس ما تقوله جهاراً لغته فإنه يصوغ السخرية بلغة تنسف الثقة التي يقوم عليها الاستخدام العادي للغة.. وهذا اعتبره تفردا للاستاذ توفيق الصغير حين صياغة نصه..

6 – انقلاب موازين القيم :

قد أرى ان الاستاذ توفيق الصغير بنصه هذا ذهب الى رأي هيغل القائل بأن السخرية الجذرية تفضي إلى نظريات المؤامرة..وعلى ان السخرية تشير من جهتها إلى سلوك ينفي وجود اختلاف في وجهات النظر..وهذا ما نجده بالنص تلك السخرية المنطلقة من الخطاب الرسمي وتحتكم الى مسألة الثقة.. هل هناك ثقة ما بين المتحاورين بالنص ؟ او ايضا ما ذهب به المعنى بالنص من ان فضيلة السخرية تبقى هي نفسها: عدم الوثوق بخطاب الهيمنة الذي يخفي نية السيطرة تحت قناع الموضوعية

ثالثا : العناصر البويطيقية والمميزات الجمالية

احتوى النص المدروس على عدد كبير من السمات الفنية والمكونات الجمالية قامت عليها شعرية القصة القصيرة جدا وضمنت أجناسيتها الأدبية كقصة قصيرة جدا بامتياز . ومن بين هذه المكونات الجوهرية لابد من ذكر العناصرالتالية:

  1. التركيب النحوي:

احتوت القصة القصيرة جدا على جمل بسيطة ذات محمولات فعلية أم اسمية وظرفية وحالية… هذا الى جانب [الفواصل/علامات الترقيم كالاستفهام ونقط الحذف والنقطة وعلامة التعجب ] لغاية تكثيفها واختزالها إلى نوى وبؤر فيها الحركة والسكون والتوتروالإيقاع السردي والحذف والإضمار، ..كان الغرض من توظيف الجمل البسيطة دائما البحث عن إيقاع داخلي لتسريع الأحداث وتشويق القارئ دون اطناب واسهاب و تطويل النص والاسهاب في الانزياح النحوي .. (emdrprofessionaltraining.com)

2 – خاصية الإدهـــاش:

تعد خاصية الإدهاش من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا

فنجد بالنص :

– الإضمار والغموض والحذف ..

– التشكيل الفضائي واللغة المفارقة ..

– خلخلة ميثاق التلقي ..

– إرباك التلقي ..

3 – التماثل الصوتي والإيقاعي:

القصة القصيرة جدا هذه قائمة على مستوى عال من الاصوات انها تستدعي خصائص المقامة اللغوية انطلاقا من نوع من التماثل الصوتي والتوازي الإيقاعي الذان هما في الحقيقة ينتجان من علم الالسنية الحديثة نذكر هنا [..التراكيب النحوية والبلاغية/ الوحدات الصوتية/ المونيمات المعجمية /الفونيمات /المخارج/ المورفيمات الصرفية وغيرها كثير..]

خاتمة

هكذا تبدو السخرية النتيجة الحتمية لفائض الخطاب ولمشاعر الرتابة الناتجة عنه في نص القصة القصيرة جدا وما نص سفر الاهبة الا نموذج للسخرية والباروديا

فقد بين لنا النص ان صورة الساخر الفعلي ، هي صورة الفيلسوف سقراط، لانه انتقد وساءل يقينيات النظام القائم في زمنه ولم يقدم انسحابه على عدم اكتراثه بل ظل يسخر ويسخر ويسخر ويكتب

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *