عَشِيَّةُ العَام الجَديد بين مَجريط العَامرَة وغَرْنَاطة الزّاهِرَة!

Views: 874

د. محمّد محمّد خطّابي *

صاحِ…

أقبلَ العامُ الجديد يهلّ علينا من ثنيّات الزّمن،وطيّات النّسيان،أقبل ليوقظ فينا ذكرياتٍ غبرتْ،ومكابداتٍ اندملت، ولحظاتٍ مضتْ، وهنيهاتٍ خلتْ ، وأيّاماً ولّتْ، وإنصرمت لحال سبيلها …   

هذه مدريد العامرة ، كلّ شئ يذكّرك فيها بمباهج الحياة الدّنيا ورونقها، أضواء النيّون المتناثرة  تكاد تغشي الأبصار ،البريق المشعّ فى كلّ شئ، فى الوجوه الحِسان، فى الجدائل الذهبية المنسدلة، فى العيون المُسبلة، والأقراط المُدلاّة، المدينة إزدانت وتبرّجت فى كلّ شئ،وجهها ملطّخ بالأصباغ، أضحت كأنثى حسناء، فاتنة ، لها ماضٍ عريق، وحاضرٌ مشعّ،ومستقبلٌ غامض…إنها تجذبك إليها فى سحرٍ مُبهر، وتجعلك ترتمي فى أحضانها، كما ترتمي الفراشة الهائمة فى لهيب النار الحارقة..!.

أيّها الزّمن المعتم فى القلوب،رويدك إلى أين ..؟ الشكوى فينا حبّات متناثرة ،وذرّات مبعثرة،كأنّها كثبانُ رمالٍ مُنهمرة تحت هدير أمواجٍ عاتية ، هذا السّحر اللاّمع يوحي بكثير من الفِكَر ، ويبعث على التأمّل ، إلاّ أنها فِكَرٌ وتأملاتٌ مشبعة بضرب من الغنوص المتواتر،الكلّ يتحرّك فى إتّجاه ، الزّمن ثابت ، والحركة دائبة، ودائمة، الناس يركضون ، إنهم فى عجلةٍ من أمرهم،كأنّهم ذاهبون إلى هدف معيّن أو هم مُتوجّهون إلى وجهةٍ محدّدة، ولكنهّم سرعان ما يعودون القهقرىَ من حيث أتوا ،يدورون فى خفوت، فى حيّزٍ مكانيّ وزمانيّ ضبابيّ، كأنّه الضّوء اللاّمع المشعّ فى يوم ممطر مُثقل بمُزْنٍ غازر سلسبيل.

مدريد أو مجريط اليوم

 

صَاحِ…

الغربة فى بلد جميل ..عذاب جميل للقلب وللرّوح معاً ،لأنه مهما بلغ سحر هذا البلد  ، ومهما أغدق عليك من النّعم والآلاء،والرّونق والبهاء ، فإنّ نفسك تبقى دائماً نزّاعة، توّاقة،مشدودة إلى الوطن الأوّل ، فليس هناك شئ أغلىَ ولا أثمنَ،ولا أبهىَ يفوق أو يعلوعلى حبّ الأوطان .

الغربةُ حبلٌ رَخْوٌ مُدلّى أمام الأعين الحائرة تطوله العيون ولا تدركه الأيدي الحائلرة ،العيون  المُسبلة مسمّرة فى سديم الذكرى، وثبج الحنين راجعة إلى الربوع الأولى من مراتع الصّبا ،ومرابع الشباب، حيث الحبّ مُتدفّق، والعطاءُ دائم ،والنّماءُ رقراق، والنهارُ ليلٌ حالك، والليلُ  نهارمشرق، والمساءُ صبحٌ وضّاء ، بهيج، أريج، وهّاج.!.

الغربةُ نعمة ونغمةٌ نشاز تعزف على أوتار قلوبنا المعذّبة الحيرىَ المكلومة،والنبع الفيّاض يتلألأ مشعّاً فى أعاميق الأنفس، وثنايا الأضلع،وفى سويداء القلوب العاشقة المحبّة الولهانة.

صَاحِ…

العذابات المُحمّلة بالألم المضني الممضّ ما زالت تلاحقنا، فى كلّ حين، ما إنفكّت تطاردنا فى كلّ درب،وهذا هو حال كلّ من تدبّ فيه الحياة، الأيام تترى أمام أعيننا كأنها صُوىً تُحصِي مسافات الطريق،المحطّات مرصوصة فى زينة، وبهجة، وإشراق، وإبهار ..الراجلون، والمسافرون، والنازلون، والصاعدون، والمهرولون، والراكضون… كلٌّ فى حركة دائبة متوتّرة قلقة متوجّسة.

الليلُ يلفّنا بعباءة عتمته الحالكة ، ونهار المدينة الملطّخة بالاصباغ، يقصي عنّا إسودادَه وسخمَه،إنّها خدعة ،ولكنها تبهرنا، وتسحرنا، وتجعلنا نعيش لحظاتِ زيفٍ صارخة، مقنّعة …فلا الليلُ ليلٌ..ولا النهارُ نهارُ..!

فلذات الأكباد تحيط بنا من كلّ جانب ،تشدو فى جذلٍ أغاني سعيدة فرحة ،واعدة ،نشوانة مهلّلة بمقدم العام الجديد ، تردّد  فى بهجة وحبور نغماتها الطفولية البريئة الرّخيمة، تُحيي ذكرى مولد السيّد المسيح عليه السّلام فى بيت لحم بفلسطين المكلومة الجريحة التي خرج النّور من جوفها يوماً ، وها هو ذا الظلم العاتي، والظلامُ الدّامسُ ينشرعليها عباءته ورهبته ورهبانيته ،الأيام تبدو مسالمة ،هادئة، هانئة،إلاّ أنها تحمل فى طيّاتها توجّساتٍ تبعث الهلعَ، والفزعَ،والجزعَ فى القلوب …ومع ذلك ما برحت بشائر الخير تنثال علينا فى كلّ حين ،ومن كلّ صوب وحدب، وبطائق التهاني المزركشة، والكلمات المنمّقة الجميلة تملأ القلوب،إلاّ أنّ الزّمن لا يهادن، إنه لا يناغي أحداً ..إنه يتربّص بنا الدوائر فى كلّ حين، وراء كلّ ركن دانٍ أوقصيٍّ ،لا يبخل علينا  كلّ يوم بالأخبار التي تقضّ مضاجعَ ألبابنا ،وتبعث الرّوعَ فى أنفسنا الهانئة الآمنة، وقلوبنا المطمئنّة المؤمنة. 

غرناطة

 

صَاحِ..

رسالتك بلسمٌ شافٍ،وترياق مُداوٍ، شهدٌ مُصفّى، وبيانٌ مُقفّى، وهي كذلك عذابٌ مقيم ، كعادتك تهنّئني بمقدم العام الجديد ، تأبى إلاّ أن تكون صادقاً صريحاً تخبر بدون مواراة،ولا مصانعة، ولا محاباة ، وتبوح بصوتٍ مفعمٍ بفيضٍ من المحبّة والصّفاء والنقاء، ممزوجاَ بحلّة الأسى، ودثارالحيرة …وتكتب بسجيتك وطيبتك المعهودين فيك  :” صديقي..أهنّئك تهنئة حرّى بمقدم العام الجديد ،أرجو أن يجعله اللهُ عامَ خيرٍ وبركةٍ عليك وعلى ذويك، “…إلاّ أنني لا أستطيع هذه المرّة – أمام هول ما نراه وما نسمعه ، وما نعيشه ، وما نلمسه،وما نعانيه، وما نسومه، ونقاسيه من تطاحن، وتقاتل، وتعنّت، وتظلّم، وهوس، وتوجس، وحمق وجنون، قد أصاب زمرة من بني طينتنا، وأبناء جلدتنا، – لا أستطيع أن أخفي عنك شعوراً عميقاً طافحاً بالحزن المبرح يداهمني، وإحساساً  عميقاً غريباً من الرّعب يتملّكني وأنا أؤبّن العامَ الرّاحل، والذي رحل معه العديد من الأصدقاء الأصفياء، والخلاّن الأوفياء الذين كانوا يشاطروننا نعمة الحياة، ويشاركوننا همومَها،وأحزانَها، وأفراحَها وأتراحَها،..وتختم أيّها الصديق الأثير الأبرّ رسالتك قائلاً : ” أهٍ… يا لشقاوة الحياة..” إنك لم تقل أهٍ… يا لشقاء الحياة، بل قلت آهٍ.. يا لشقاوتها..وكنتَ محقّاً فيما ذهبت ، فالشقاوة زنة الحلاوة كما ترى..!

أيها الخلّ الكريم ..الأصدقاء يرحلون، وترحل معهم سجاياهم، ومحامدُهم، وشيمُهم، ومزاياهم .. تلك سنّة الحياة، وذاك ناموسها.. فالأيّام  لا تني، والسّنون لا ترحم، والمنايا عنقاء حمقاء ما فتئت تخبط فينا ، وبيننا ،وحولنا خبطتها العشواء بدون شفقة ولا رحمة .

هذه الحفنة من كلماتك الشّفيفة هَوَتْ على قلبي برداً وسلاماً ، وأنا على أهبة إستقبال عام جديد، لقد أيقظت فى نفسي مشاعرَ شتى متضاربة، وإنفعالات متباينة من الذّهول، والأفول، والتساؤل لا حدّ لها، فالنّاس هنا فى غفلةٍ من أمرهم ..إنهم ذاهبون ،ذائبون، ذاهلون، متحرّكون، مسرعون، صاعدون، نازلون، مشغولون بما تقيّأت عليهم مدنيتهم من مظاهر الزّينة والبذخ ، والتبرّج، والمُروق والمُجون، حتّى أضحى الصّخب، واللّجب، والدّأب، والشّغب هو قاسمهم، و غدا اللّهو، والنّغم، والمرح، والفرح، والجنون ، والفنون ديدنهم، إنّهم فى شوقٍ عارمٍ ،وهوسٍ غامرٍ لإستقبال العام الجديد عند ساعة الصّفر،  عندما تدقّ السّاعة الضّخمة التي تتوسّط ” ساحتهم الكبرى” بمدينتهم هذه الصاخبة، حيث تنفذ رنّاتها إلى قلوب النّائين، والمغمورين، والأتقياء، والأنقياء، والأشقياء، والتعساء ، والسعداء، والشيوخ، والصّغار، والرُضّع ، واليافعين، ..إثنتى عشرة رنّة تهتزّ لها، وبها، ومعها القلوب، وتنبض بإنتظام فى خوفٍ ولهفةٍ،ورهبة، وترقّب، فإذا الناس فى هلعٍ من أمرهم، لا يعرفون ما سوف يأتيهم به، أو يخبّئ لهم هذا العام القادم فى غياهب المجهول، من مسرّات وأحزان، أو مفاجآت وآلام ، وهم يُمنّون أنفسَهم دوماً بالسّعادة حتى ولو كانت أحلاماً ، وبالآمال حتى ولو كانت أوهاماً ، ويحتسون الأكؤسَ الرّوحيّة المُترعة حتى الثمالة، ..إنهم كالأطفال الصّغار الذين يحشون أفواههم بالحلوى، يتذوّقونها، ويتلذّذونها بإفراط وهم لا يعرفون أنّها  تنخر أسنانهم الطريّة النّاصعة .

فى تلك اللحظة الحاسمة الفاصلة بين زمنيين أحدهما أقبل والآخر ولّى.. تظلّ أعينهم مُسمّرة  لا تحيد عن عقارب السّاعة الكبرى التي تملأ الشاشات العملاقة التي وُضعت خصّيصاً فى الشّوارع الرئيسية من المدينة اللاّزوردية المتلألئة..من عادتهم أن يتناولوا مع كلّ رنّة أو دقّة حبّةَ عنب ٍ   حتى إنتهاء قرع نواقيس الدقّات الإثنتى عشرة المتوالية ، حيث تظلّ أيديهم فى سرعة البرق تخطف حبّات العنب الرّطب الطريّ اللذيذ تيمّناً وإستبشاراً بأن تكون شهور السنة الجديدة الوافدة شهوراً سعيدة هانئة رغيدة،ولكنّ القدَر غالباً ما يكون واقفاً لهم بالمرصاد ليخذلهم، ويأتيهم بما لم يكن فى حسبانهم، أو توقّعاتهم ،أو بما أخبرهم، وأبلغهم به مُنجّمُوهم.! 

الناس هنا يا صاح.. بسطاء على الرّغم من مظاهر البذخ، والزينة، والبهرجة التي يتحلّون بها ،إنّهم سذّج طيّبون،مُسالمون، ،وعلى الرّغم من علامات التعنّت،والعناد، والتشنّج التي تطبعهم إلاً إنهم للطّيبة منساقون ، وبالكلمة الحلوة متأثّرون،إنّهم شديدو الإعتزاز بماضيهم التليد، وبما يعتقدون أنّ لهم فيه من محافل،ومباهج، وأمجاد، وهم مُبذرون، مُسرفون، ثرثارون ..وعندما يهلّ عليهم الحَوْل تراهم يتغيّرون كالحِرابي فى كلّ شئ،،فى أشكالهم، وألوانهم،وطباعهم، وأرديتهم، وفى هندامهم، وفى كلامهم، وفى أكلهم، وشربهم، ومُشترياتهم، ومَبيعاتهم، الكلّ يتصنّع السّعادة حتى ولو كان غارقاً فى البؤس، والتعاسة، والآلام حتى آذانه.

  ومن مدريد  الغرّاء انتقلنا الى غرناطة الفيحاء هذه الحاضرة البهيّة الجميلة…التي كانت ذات يوم من أيّام الله الخوالي عاصمة دولة بني نصر أو بني الأحمر،وحصنها الحصين..قصرالحمراء ما زال إلى يومنا هذا المشهود يرتفع فى شموخ على أعلى هِضابها، ويطلّ فى كبرياء من أسمى آكامها،ويشرئبّ فى إباء من على قمّة طلائعها، كأجمل، وأجلّ، وأبهى،وأروع معلمة معمارية، أو بناية عمرانية خلّفها “الزّائرون ” للأندلس الغرّاء، فى هذه الأصقاع الجميلة النائية عن دورهم ،ودروبهم، ومرابعهم، وقبائلهم، ومواطنهم الأولى ..إنها معلمة “الحمراء”.. وجنّة عريفها… حيث نامُوا، وهامُوا، وأقامُوا رَدَحاً من الزّمن فى هذه الجنان الغنّاء الباسقة ، والفراديس الأرضية  الساحرة، والمعالم المعمارية السّامقة، إلاّ أنهم بعد لأيٍّ سرعان ما رجع بهم الزّمان القهقرى، فعادوا من حيث جاءوا مخذولين…فلكلّ شئ إذا ما تمّ نقصان…فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان ُ .. هي الأمور كما شاهدتها دولٌ … من سرّه زمنٌ ساءته أزمانُ..!!.

صَاحِ .. أيّها الخلّ النائي القريب…

ها قد أقبلَ الصّباحُ الباسم أو كاد  يغنّي للحياة الناعسة والرُّبىَ تحلم فى ظلّ الغصون المائسة ..الكلّ يهلّل لمقدم  ا..لعام الوليد ، الناس ثملون، يؤوبون إلى دورهم فى تثاقلٍ، وتمايلٍ، وتكاسلٍ، وتخاذل … الكلابُ الضالّة ما إنفكّت تنبح حيرىَ ، والسّكينة تخيّم على جنبات المدينة الفيحاء الهامدة….إنه إنبثاق فجر يومٍ جديد  لعامٍ جديد…إليك منّي ألف تحيّة مُخضوضبة بنسائم أزاهير، ورياحين، وياسمين جنّة العريف.. لنعانق معاً هذا العامَ الغضّ الذي ما زال ينسلخ عن جلده، ويتمرّغ فى مهده، ويحبوعلى ثبج فضاءات الأزمنة والأمكنة الكونيّة الأثيريّة السّرمديّة اللاّمحدودة ، لعلّه يكون عامَ خيرٍ وبركةٍ، وأمنٍ وأمان،وطمأنينةٍ وسلام،وإستقرارٍ وهناء للبشرية جمعاء الظمأى، والفاغرة فاها من هوْل ما تراه، وما تسمعه، وما تعيشه ، وما تلمسه، وما تسُومه، وما تقاسيه، وما تعانيه..! 

***

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية  للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *