اللُّغة منظومةً…

Views: 374

د. جوزف صايغ

 ماذا أعرف عن القصيدة قبل أن أنظم القصيدة؟ لا شيء. قطعاً لا شيء. بحيث يبدو النَّظْم رهاناً على ما ليس. على مجرَّد إمكان. احتمال. قدرة لُغويّة: نكتب أحياناً لنعرف ماذا سنكتب لو كتبنا. نجاح القصيدة يطمئننا.

أثمن ما في القصيدة هو كيفيّة تحوُّل الطاقة الشعرية النظريّة قصيدةً – عملاً جمالياً – يتجلّى فيها الشعريُّ بالقوَّة شعراً بالفعل. كلّما أنهيت قصيدةً انتهيت، واقعاً، كشاعر. لست شاعراً إلا أثناء النّظم… أثناءه، فقط، أكون موجوداً على نَحْوٍ شعريّ.

‏*‏

فضيلة الشِّعر الكبرى – الفنُّ إجمالاً – أنه “أفيون” ضدّ الراهن – يُلقي على الحقيقة أظلالاً جماليّةً تعيدها شاعريةً. مُحتَملَة. من هنا أن الفن يبدو لِسَدّ نقص ما. نقص في الوجود. الفنّ استكمال للوجود – للعالم. إنه الجواب عن حاجة حيوية إلى الأكمل… إلى الأسمى. إنه كون آخر إلى جانب الكون. كون لا نَقْص فيه.

أليس الإيمان من حاجة الإنسان إلى الأسمى؟

 في نهاية ما هو: الشِّعر فنّ من فنون التـصرّف بالخَلق. لا إلا لأنه فنّ التصرّف بالكلمة، التي هي خاصّة الخالق. الشِّعر محاولة لابتكار الأفضل مما هو كائن بالكلمة. الكلمةُ مادّة العدم: الشكل الذي يتّخذه اللاّوجود إلى الوجود. من هنا الشعور بأن الشاعر يُزامل الخالق، أو يُنافسه. لهذا أيضاً أنَّ السُلطة لا تأمن الشعراء، فطُرِدوا من الحاضرة. لأن الحكم نظامٌ وتنظيم، فيما الكلمة نظام ذاتها. ومُنظِّمة. حريّة مطلقة. الشاعر سلطة بوجه السلطة، وحرّية تزدهر في المناخات الحُرَّة.

‏*‏

الكلمة المكتوبة هي الوجه المنظور للفكر المجرّد. لهذا، كلُّ ما يحمل كلمة مكتوبة، أو مرسومةً – ورقة كان أم حجراً – هو مقدّس. ذو حرمة وتهيُّب: يحمل شيئاً من الروح.

‏*‏

الكلمة تطمح إلى أن تقول الشيء؛

الشيء ينزع إلى ألاّ يقال.

محاولة سَجْن المطلق في المحدود.

‏*‏

قلتُ: الكلمة هي الشكل الصوتيّ للعدم مثلما المادّة هي هشيم الفراغ. مع ذلك كلّ ما هو هو منها. أهمّها: الإنسان. هذه المجموعة من الجُزيئات البسيطة، والذرّات المنتظمة وفق برامج وراثية متوارثة من ليل الأزمنة وبداية التكوين تقوم بوظائف فائقة الدقّة، ثم… بلحظة تزول. هذا هو الإنجاز الخارق الذي أنجزته المادة.

لماذا، لماذا إذن كلّفت الطبيعة نفسها كل هذا العناء، مدى مليارات السنين، من أجل هذا الكائن السريع الزوال؟ بحيث يبدو الموت برهاناً على فشل الحياة في مشروعها ([1]).

‏*‏

 انحرافية الكاتب: أن يتحوّل كلمات.

خطره سوء الفهم. لأنّ للُّغة مغاويها وغواياتها. قد يقع فيها القارئ عن حسن نيّة.

أمام كتبي، هذا الصباح: ألاحظ أنّ المقالات، الدراسات والبحوث التي تناولت أعمالي الشعرية يتجاوز عددُ صفحاتها عددَ صفحات تلك الأعمال.

التي أصابت الجوهريَّ فيها أقلُّ بكثير.

نَقْد: هناك نقد يطلّ على اللُّغة من اللُّغة ذاتها، ونقد يُدانيها من مَطالِّ لغات وفلسفات غريبة عنها. نقدٌ لغويّ، تراثيّ، بمقابل نقد ثقافيّ، حضاريّ. بتعبير آخر: نقد قوميّ – إذا جاز التعبير – ونقد كونيّ. واحد يبقى في الهويّة اللّغوية، وآخر يأتي النصَّ من هويّات مغايرة. من بُنى فكرية مختلفة. إنه لقاء العالمية بالإقليمي. لقاء حضارات شعري – أي أعمق وأشمل ما يكون لقاء ثقافي – إنساني. هذا ما حاولته بشِعري، بحيث أكون في اللُّغة العربية وخارجها في لُحْمةٍ وفيّة بالأصالة، وفي آنٍ ذات جمالية جديدة وأبعاد رؤيوية. إلى أيّ حدّ أصبت نجاحاً؟ يبقى للناقد الفلسفي، الجديد الرؤية، أن يقوله.

في صدد ما تقدّم أتساءل إلى أي حدٍّ يكون حجم الأديب من حجم الناقد؟ إغتذيتُ بثقافات غير ثقافة اللُّغة التي كتبتُ بها، وجئتُ العربية من حضارة غير حضارتها. توجّهتُ إلى قرّاء العربية بلُغتهم انطلاقاً من لغة غيرهم، وزوّدت لغتي بقيم جمالية ومناقبية وتفكير يبعدها عن التفكير العربي… أليست هذه أسباباً كافية لكي أبقى غريباً؟

كتابة الجسد العاري تُعرّي “جسد” الكتابة.

مثلما التأمّل في الحسن يُحسِّن التأمُّل.

تأمَّلْ، يا رعاك الجمال. تَرَنَّ، إنِ استطعتَ، أُودري هبّورن (Audrey Hepburn) في ملكوتها… يَسقط منك الجسدُ حتى قدميها، فتتألَّق فيك النعمةُ، فتجثو، تُقبّل وتسبّح وتصلّي شاكراً لها وجودَها.

كذلك الكلمات التي تصف الحسن… تحْسُنُ وتُحسِّن.

لا يُقال الجمال بغير الجمال.

لا يرى الجمالَ إلا الجميل.

لا يُعاين الملكوت إلا القدِّيسون؟

‏*‏

إدمانٌ، حُمَّى، جرثومة تمتصّ نخاعك، تتأكّل جِلْدك، تنخر عظامك نخراً خفياً حتى تبلغ روحَكَ، فتظهر عليها رضوضٌ زرقاء، أو بُقَعٌ حمراء كالنّدوب، أو سوداء كالقروح. وباءٌ حقيقيٌّ نداءُ تلك الحوريَّة المفترسة: الكتابة. بعد مراس طويل تصبح بَرَصاً، فتروح أنامِلُك، في غفلة منك، تتحرَّك باتجاهها، تتكوَّر ملهوفةً إلى القلم. الحروف العربية دائرية الأشكال. إهْليليجيّة: من أعلى اليمين إلى أدنى اليسار. فتستسلم إليها اليدُ راسمةً مدارات وانحرافات غير مرئية تلتمع بينها نقاط كالنيّرات: نجوم مطفأة، سوداء، متناثرة كيفما اتّفق…

رغبة لا تُقاوم. لهفة مِلْحاح وحرارة حارقة تجتاح القلب والبال والجسد، وتستنفر الاصابع… إلى القلم. إلى الصفحة البيضاء.

الصفحة البيضاء… إغراء جميع الشياطين!

لا بدّ للمُدمن الأبجديّ من عالم كلامي يهرب إليه فراراً من العالم الواقعي. مُدمن الكلمات يرسم عوالم تشبه أحلامه، عوالم تشبه كلماته. عوالم أبجدية تتّفق وذوقه؛ تلائم إحساسه؛ نورها يؤاتي عينيه؛ إيقاعها يوافق إيقاعَه البيولوجي، وآفاقُها تتّسع لخياله.

كلُّ عمل كتابي منافسة خطرة للخالق. في كلّ شاعر يكمن ديمورخوسُ كونٍ أجمل من هذا الكون.

هذا الكون اللّغويّ، المرسوم بالجَرْس والكلمات، هو ضرورة حيوية دونها الحياة لا تطاق. إنه يستكمل نقصاً مادياً في الكون. وفي الكائن.

هل أصبح الكاتب كتابتَه؟

هل صار الشاعر شعرَه؟

هذا هو الخطر الذي يترصَّده خفيةً.

محنة الفكر أنّ عليه أن يقول ما هو، مُدركاً أنّ ما هو هو أيضاً ما ليس هو. أَنظر إلى الصفحة البيضاء كمؤمن إلى كنيسة. حيِّزٌ جذّاب، ومكان مهيب، غامض، فيه نخاطب مجهولاً في ذواتنا. أَنظر إليها، متأهِّباً مُتهيِّباً، كمن هو ذاهب إلى ما لا يصل إليه. أنظر إليها كمُقامر إلى حجر الروليت.

إنها تفرُّغٌ للفراغ.

الكلام على الصفحة البيضاء مبتذل. طُرّاقه أكثر عدداً من صفحاتهم. مع ذلك هي تطرح نفسها على الكلام. إغراؤها طاغ. مستبدٌّ. إغواء وغواية. غموضها الأبيض من سواد المحابر وهموم الأقلام، وتسويدهما تبييضٌ للقلوب.

لها الله! تتّسع لأقلام الصحافيين، ولا تتذمّر. لغلاظة النَّحْويين، ولا تتململ. صامتة، وصمتها وحيٌ. صريحة فصيحة، وفصاحتها هي التي تدفعك في الخطيئة، فتحاول الهرب بالحِبْر والكلمات… وصليل السيوف.

هل كان لِيَصل الفكرُ إلى شيء لولا الصفحة البيضاء؟

‏*‏

قيل “الأسلوب هو الإنسان”. الأسلوب ميزة الكبار من الأدباء. بيد أنّ التحفُّظ في الأسلوبية من المهارة في استخدامها. إنها ميزة الأصلاء، المطبوعين. الأسلوب الذي لا يعتمد إلا الأسلوبيّة لا يخدم النصّ. فقد تغلب الصياغةُ الصائغ. تُصبح الأسلوبية صناعة يترصّدها التصنُّع. فالتماهر فيها ضرب من بهلوانيّة السير على الحَبْل المشدود. وقد تبتعد بصاحبها عن الصفاء البلّوري، الذي يُريك ما وراء المرآة.

“البيان والتبيين” هما تمثيلية الفكر. وأمّا ما سُمّي الإعجاز في “صناعة الكتابة” فإنْ هو إلا نوع من تخدير الفكر بالأسلوبية، فيرى المعجزةَ تتمّ بالتعجيز: فرضاً لهيبة التمثيلية على القرّاء… إيهاماً للمشاهدين بالمُشاهَدة.

الشِّعريُّ تَطَرُّفٌ. النثريُّ اعتدال. من كان شغَفُهُ الأقصى لا يغريه الأدنى.

في شعر الحداثة: بدلاً من أن نطرب بالمعنى يُرهقنا التفتيش فيه عن الفَهْم. بحيث نعطيه من ذواتنا أكثر ممّا يعطينا من ذاته.

‏*‏

إذا لم تكن الكتابة حاجةً مُلِحَّةً تَصْرُف المرءَ عمّا سواها، إذا لم تكن تعبيراً عمّا كَبْتُهُ لا يطاق، فماذا، ولماذا تكون؟

‏*‏

أدب الفراغ، أو التفرُّغ.

أمضى صاحبُنا حياته ناشطاً، مُجِدّاً في تحصيل المال. فلمّا أثرى، وتقاعد، تفرَّغ. فلمّا أضجره الفراغ، ملأه بالأدب، مداواةً للضجر. تذكَّر أنه يجيد الكتابة! فراح يقطف ثمار التفرّغ والضجر.

لكنّ شعوراً خالجه بفوات الزمن، فخشيَ ألاّ يكون من الخالدين.

*

تعثَّر ببَيْت شعر يُحاوله في خاطره، فوقع وكسر ساقه.

تمنّى لو انكسر بيت الشعر…

‏*‏

التهذيب، في بيئة دون تهذيب، يُعرِّض صاحبه للتهكّم.

وربما للتهمة.

‏*‏

ما ألْيَقَ الازدراء بهذا الأديب! برميلٌ طافح بالمفردات، وبنفسه.

أوْداجُه متهدِّجة صَلَفاً، قامته تتمايل زهواً… يجهل، بالنتيجة، أنه ليس سوى واحد من ألوف الأدباء، في أُلوف المكتبات، على أُلوف الرّفوف الملأى كتباً، وجوهُها إلى الحائط، وأقحافها إلى وجوه الناس.

‏*‏

نسبةً إلى الماضي، الكتاب العربي مزدهر. أكبر عدد من المؤلّفين، وأقلّ عدد من القرّاء. ونَشْرٌ من دون ناشرين، وتوزيعٌ من دون موزّعين، ومطابعُ تدور ومعارضُ تعرض بضاعةً كاسدة. جميعهم مُكِبُّون على كتابة كتاب واحد: التراثي. تراثيون يكتبون التراث من ضمن التراث..

وأما ورثة ذلك التراث، فعوّضك الله السلامة.

‏*‏

زوال الكتاب يستبق زوال الإنسانيات، ويؤذن بصعود البربريات.

‏*‏

قرأتُ في المترو: “الشاعر يتذكّر المستقبل”.

‏*‏

معجبٌ بالبلاغة دون أن تفوتني الشُّبْهةُ التي تحوم حولها.

‏*‏

تَحارُ بشعراء مشهورين لا أحد يحفظ لهم بيتاً واحداً من شعرهم!

‏*‏

الحقيقة في اللُّغة العربية قاتلة. مثلها في سائر اللغات العقائدية.

‏*‏

نعرف الأديب من معرفته استخدام علامات التَّرْقيم.

‏*‏

إذا لم تَسِل روحُ الأديب حبراً من شقَّيْ ريشته…

الحبر هو الفكر في حالته السائلة.

‏*‏

إذا كانت شهرة الأديب تقوم على مطابقة أفكارِه أفكارَ الأكثرية، يكون أكثرُ الأدباء شهرةً أقلَّهم إبداعاً.

العبقرية ليست ميزة الأكثرية.

‏*‏

الإقلال في الشّعر دليل عافية. لا يمكن أن نُكثر دون أن نُقلّ.

‏*‏

لنفسه، أو للمجتمع: لمن نربّي المواطن؟ لنفسه: إنسان حرّ، مستقلٌّ، نخبوي… للمجتمع: بروحية القطيع، كي يسهل قياده.

في فرنسا، التربية الوطنية ترفض النخبوية والتميّز، وتتحاشى التفوُّق. خلافاً للجامعات العالمية الكبرى (الأميركية، البريطانية…) محافظةً على الانسجام والتوازن الاجتماعي!

فرنسا دولة وسط. ولا تريد – أو لا تستحمل – ذاتها غير هذه. النجاح مشبوه. هذه واحدة من أسباب حسدهم وجفائهم الولايات المتحدة الأميركية… فضلاً عن البروتستنتية.

‏*‏

نادراً ما يكون حبّ الشهرة صادراً عن عمق. عن نقص بالأحرى. وأقل منه عن أصالة.

‏*‏

أُحاذر الانسجان في البيئة والعصـر كي لا أكون صالحاً إلا لبيئة وعصـر. شرط تجاوز الجغرافيا البيئية إلى الجغرافيا الإنسانية هو الخروج من المكان والزمان إلى سائر الأمكنة والأزمنة. أُكتبْ كأنّ جميع الناس قرّاؤك، وكلَّ الأرض أوطانُك. لا تُهمل الأبعدين كرمى الأقربين. فلعلّ أبعدَهم أقربُهم إليك.

‏*‏

لو لم يكن للإنسان غيرُ أفكاره الصائبة لما استحمل نفسه. غالباً ما نعيش بفضل أفكارنا الخاطئة.

‏*‏

قد يكون شرط الشهرة الأدبية أن تتبنّى قضيةً سياسيةً شهيرة، لا علاقة لها بالأدب، فتتبنّاك، وتُشهرك.

طوبى لمن لم يربطوا أسماءهم بغير ذواتهم.

‏*‏

ناقد الشعر فيلسوف، وليس أديباً. وأقلّ منه أستاذ أدب.

‏*‏

لا تُلقي الشعرَ إلا بصوت منخفض.

الشعرُ بوحٌ حميم، من روح إلى روح.

‏*‏

الاكتفاء الذاتي، الذي يميّز الأدباء، لا يمنعهم عن استقاء تسعين بالمئة من مائهم من ينابيع مكتومة لغيرهم.

‏*‏

ثمّة نتاجٌ يستعبد منتجَه. يصبح الكاتب في خدمة ما يكتب.

كن كاتب ما تكتب، وليس مكتوبَه.

مَقيتٌ أن تستعبد الخليقةُ خالقَها.

‏*‏

إلى صديق شاعر: لا تجعل من الشعر قضيةً كي لا تستعبدك القضية وتصبح الشهرة أشغالاً شاقة – أو وجْهَنةً مَقيتة. إبقَ شاعراً لا نقابياً. الشعر ليحرّر شاعره والآخرين.

الجمال خلاص. لا تجعلنّ منه قيداً. أو موقفاً. أو متراساً. لكم من الأدباء تحوّلوا جوّالةً على أبواب الصحف، وراء النقّاد والمترجمين، يتسوّلون شهرةً. منهم من باع نفسه لقضية أو حزب كي تبيعه القضية ويَشهره الحزب، أو تعقد له العقيدةُ لواءَها. أسوأ من خدم الشعر في فرنسا أندريه بروتون، وفي لبنان صديقي يوسف الخال. تحوّلوا عصابة إرهابية. سامح الله يوسف الخال لأن قلبه كان أنقى من قلب الشعر.

واحذرْ أحابيل العلاقات العامة، وكمائن التقدير المتبادل. فقد تفرض عليك التكلّف، أو تقريظ من لا يستحقّ، وفاءً لدَيْن، أو تسديداً لفاتورة.

صناعة الكلام تصوّف واعتزال.

أحياناً جفاء.

‏*‏

لا مانع من ممارسة الشِّعر – هذه الدُّرْبَةُ الصّارمة – كتريُّض، أو كنُزهة للفكر. أكْسَجَةٌ للرئتين. مشوار صيد، أو طَرْد: صيد البُنى البتول، طرْدُ كواسر الأفكار.

‏*‏

لكم أتساءل إذا كانت الكلمة قد حرّرت الإنسان، أم قيّدته؟!

يتعمّدون الغموض إيهاماً بالعمق. أو استعلاءً. الوضوح يبدِّد هيبة اللَّامفهوميَّة. كأنما الإدراك ينزع عن الشـيء المُدرَك صفة “التجاوز” الفوقية. يضعه في مستوى الإنسان، عارياً من هالة القداسة. ومن الخِشْية.

الإنسان يقدّس ما يفوقه إدراكاً. فإذا أدرَكَ، بطل السِّحر.

‏*‏

أفكّر أوروبيًّا لقارئ عربي. مجازفة، أو رِهان؟ هذا هو الحاصل. والحاصل أيضاً أن المعاني لا تعني دائماً ما تعنيه. فالمعنيُّ في عِبْرٍ من المعنى. هذا ما عبّرتُ عنه في إحدى قصائدي قاصداً نفسي بقولي: “لا من هنا، لا من هناك /وإنما حزنٌ بحزن”.

‏*‏

قد يكون ما يبدو في الشِّعر خارج البيئة هو بالضبط ما يُدخله الدّيمومة.

‏*‏

عانيتُ بشكل مؤلم عقدة عَرْض الذات على الغَير في نشـر بعض ما كتبتُ. خَفَرٌ باطنيّ، متأصِّل، غَلَب عليّ دائماً. تحاشيت الكلامَ على نفسـي، على عائلتي وأولادي. نظمتُ مجموعةً شعريةً بنسخة واحدة، لامرأة وحيدة. رفضتُ أن أبيع الطبعة الأولى من “كتاب آن – كولين”، فاختصرت عدد النسخ واخترت، بنفسـي، الأشخاص الذين رأيتُ أن يقرأوا المئة الأولى منها. لا سابقة كهذه في مجال النشر. ذاك أن الشِّعر هو الجزء الحميم من الذات، هو خاصة الإنسان الخاصة، ولا شأن لأحد به.

لكنَّ الكتاب ليُقرأ، كما الإنسان ليُعرَف…

عرض الذات وراء الواجهات، كما في بعض شوارع أمستردام.

‏*‏

المعاجم تواريخ اللُّغة. هي سيرة المفردات: مولدها، نشأتها، جذورها، إلى تطوّر معانيها عبر أجيال الاستعمال، وموتها، أي خروجها من التداول، أو انتقالها إلى الفم، في التداول، والحياة الحيَّة… باعتبار أن المتكلّم هو الذي يمنح الكلامَ الحياة. عليها أيضاً العناية بالجنس: مذكّراً أو مؤنّثاً، ناهيك بعين الفعل، إعجاز الأدباء والمتكلّمين. معاجمنا أعْفَتْ نفسها من أشياء كثيرة كان يمكن أن تُشكر عليها لو أنجزتها. الأقدمون وضعوا القاعدة، فقَعَد عليها اللاحّقون وتعقّدوا، وكفى الأدباء شرّ الابتكار. وهناك أيضاً الخطأ الشائع، والفصل بين اللَّيل والنهار، وعَلْمَنَة المكرّسات.

‏*‏

عندما يكتب الكاتبُ، هل يقصد طبقةً من القرّاء ذات مستوى معيّن؟ هل يعرف لمن يكتب، أم يكتب لنفسه، بمستواه وذوقه؟ بتعبير آخر: هل ينتخب المؤلِّف قرّاءه، أم القرّاء ينتخبون أدباءهم؟ وهل مستوى القرّاء يطرح على الكاتب مستوىً معيّناً من الصياغة، أم العكس؟ سؤال حَرِيٌّ بأن يُطرَح. الجدليّة الضِمْنيّة، غير الواضحة، والتي لا بدّ موجودة، يجدر بالباحثين إيضاحها، ولو بعض الشيء. عادةً يتمثّل الكاتبُ قارئه عندما يكتب، ولو نظرياً. قُلْ لي من تقرأ أقل لك ما أنت. قل لي لمن تكتب…

*

 عن شوپنهاور هذه الملاحظة: “تحسُّباً لموتي، أُعلن أني أحتقر الأُمَّة الألمانية لِحُمقِها اللاّمتناهي”.

وعن نيتشه: “حيث حلَّت ألمانيا أفسدت المدنيّة”.

داننزيو، شاعر إيطاليا، ڤكتور هيغو، شاعر فرنسا، اتخذا مواقف مماثلة. لقد شعر هؤلاء الكبار، في فترة ما، بالخيبة من مواطنيهم لأسباب وجيهة، فلم يصمتوا. أعلنوا اختلافهم وإدانتهم. هؤلاء يُشـرّفُنا، ويُعزُّهم، أن يكونوا قدوةً. أثناء الحرب على لبنان 1975-1990، ذَبَحَ عربٌ مسلمون، وربما لبنانيون، في لبنان مواطنين لهم “على الهوية” ليس إلا لأنهم مسيحيون! من “هم” الأسماء الشهيرة التي أعلنتْ اعتراضها؟

هذا العام، 2014، باشر مسلمون عرب عمليات إبادة لمواطنيهم العرب المسيحيين… من العراق حتى أفريقيا دون أن يعترض أيُّ مرجع مسلم مسؤول! ما من صاحب قلم عربي أعلن تبرّؤه من عروبته، أو من إسلامه، اعتراضاً!

صَمَتَ الجميع على الجريمة. تحية إكبارٍ لقلّة أقليّة أمثال المحامي الأستاذ عبد الحميد الأحدب، الذي استنكر، في مقال جريء صريح، صدر في جريدة “النهار”، بتاريخ 17/10/2014، بعنوان “هل ظاهرة داعش شواذّ؟” كذلك دراسة الأستاذ علي حرب الممتازة بعنوان “لا مصالحة بين الإسلام والحداثة”، ملحق “النهار” بتاريخ 21/3/2015.

***

([1]) نوَّهتْ مجلّة “أوبسرڤاتور” الفرنسية، في عددها الصادر بتاريخ 18-24/12/2014، بأنّ مؤسسة غوغل الأميركية للأبحاث أنشأت عام 2013 فرعاً باسم CALICO مهمّته “قَتْلُ الموت”.

(*) من كتاب “يوميات بلا أيام” الصادر حديثًا عن دار نلسن.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *