25 عاماً على وفاة الموسيقار محمد الموجي (1926-1995)… جرت الألحان العذبة في ظلّ التوتر وطوع البنان

Views: 66

سليمان بختي

إذا كان من حق الموسيقار رياض السنباطي أن يقول: “قصة حياتي هي أم كلثوم”، فإن من حق الموسيقار محمد الموجي (1926-1995) أن يقول أيضاً: ” قصية حياتي هي عبد الحليم حافظ”. فقد بدأ النجاح في “صافيني مرة” واختتم برائعة نزار قباني “قارئة الفنجان”.

في الذكرى الـ25 لوفاته نستعيد صورًا وعلامات من موهبة فذّة لأحد المجددين البارزين في تاريخ الموسيقى والغناء العربي حتى أن ألحانه تدرس اليوم في معاهد الموسيقى في العالم العربي. الموسيقار محمد الموجي الذي لحن أكثر من 1500 أغنية والذي جرت الألحان بين يديه وطلوع بنانه كالأشجان الناعمة المخاطبة للوجدان. لم يكن يعرف تدوين النوطة الموسيقية ولكنه قَدّ من موهبة أصيلة ورؤية عميقة وجريئة. يفهم الصوت ويلحن على طريقة السهل الممتنع، جملة بسيطة في الشكل صعبة في المضمون.

ولد محمد أمين محمد الموجي في دسوق بمركز بيلا (كفر الشيخ) المتاخمة للاسكندرية. وأكمل دبلوم زراعة سنة 1944. لم يعمل في الزراعة وعيّن في البوليس الحربي الانكليزي. وكان يهوى الغناء وبدأ حياته مطرباً قبل أن يتجه إلى التلحين الذي برع فيه وأسّس اتجاهاً يخصّه وحده. التحق في بداياته بصالة بديعة مصابني حيث الكبار. ولكن ميلاده كملحنكان مع عبد الحليم حافظ في أغنية “صافيني مرة” التي شهرتهما معاً. وبالتالي ارتبطا برحلة غناء ناجحة قدّم فيها الموجي 88 أغنية لعبد الحليم أشهرها: “اسبقني يا قلبي” و”يا قلبي خبي” و”الليالي” و”لايق عليك الخال” و”أحنّ إليك” و”حبك نار” و”يا حلو يا اسمر” و”احبك” و”مغرور” و”جبار” و”حبيبها” و”كامل الأوصاف” و”يا مالك قلبي” و”أحضان الحبايب”، والرائعتين من شعر نزار قباني “رسالة من تحت الماء” و”قارئة الفنجان”.

ولكن للحن “رسالة من تحت الماء” قصة فقد لحّنها بدون معرفة قباني ولا طلب عبد الحليم. ولكن عندما سمعها عبد الحليم – وبعد قطيعة سنوات – من الموجي على العود. وقف حليم وقبّل عوده معجباً. قال عنها عبد الوهاب إنها “من أحسن الألحان ثراءً. أبدل الموجي كلمة “يجرجرني” إلى “يناديني نحو الأعمق”. ووافق نزار، وطلب من حليم أن يسأل قباني تغيير كلمة “إن كنت نبياً” اخرجني من هذا اليم لموقف الأزهر فأصبحت “إن كنت قوياً”. عدا الألحان الوطنية مثل: “الفوازير” و”بستان الاشتراكية” و”لفي البلاد يا صبية” و”النجمة مالت عالقمر”، وغيرها.

هذه الرحلة مع عبد الحليم حافظ لم تخلُ من إبر النحل أو على طريقة الموجي “مافيش حلاوة من غير نار”. منذ “صافيني مرة” التي رفضها كثير من المطربين والمطربات ولما قدّمها لعبد الحليم قال له: “سأغنيها ورزقي ورزقك على الله يا موجي”.

نجحت الأغنية وكرّت السبحة. يروي الموجي انه بكى عندما سمع الأغنية تصدح في إذاعة دمشق قبل السحور. والعلاقة مع حليم فيها نجاح وخلافات ومصالحات. اختلفا على كوبليه “يا مدوبني بأحلى عذاب” لأن حليم رفض تغييره. قاطعه الموجي لسبع سنوات وراح يلحن لمحرّم فؤاد وماهر العطار قبل أن يعود الوئام بهمّة أم أمين (زوجة الموجي). واختلفا حول أغنية “مغرور” التي برأي الموجي لا تحمل هذا القدر من التوزيع الموسيقي الذي فرضه عبد الحليم. كما انتقد الموجي خروج عبد الحليم عن روح الموشح في “كامل الأوصاف”. واختلفا على الحقوق المالية وكان الموجي يسأل: “بعد النجومية والتصفيق عبد الحليم يصل إلى 14 ألف جنيه عن بطولة فيلم. والموجي يلحن الأغاني بـ200 جنيه”. ذات مرة وفي لحظة غضب وتوتر قال لعبد الحليم “عليّ الطلاق لن ألحّن لك لثلاث سنوات”، ونفذ ذلك. وحتى في أغنية حليم الأخيرة “قارئة الفنجان” اختلفا على الوقت فقام عبد الحليم بحبس الموجي في فندق كي يجبره على إتمامها. ورغم ذلك، لم يقبل عبد الحليم مرة أن يخسر موهبة وصداقة محمد الموجي. وبحسب مذكرات عبد الحليم (روز اليوسف 1973): “كان الموجي يجلس دائماً بالعود ليعزف خلفي في كل الحفلات ولم ينسحب إلا عندما لحّن لي عبد الوهاب أغنية “توبة”.

أما الأغنية الأحبّ إلى قلبه من ريبيرتواره مع عبد الحليم فهي “جبار” (من فيلم “معبودة الجماهير” 1967) ويعتبره لحنه الأهم لا بل إحدى علاماته الموسيقية.

ولكن في بدايات الموجي ثمّة أغنية ثانية صنعت صعوده وهي “أنا قلبي لك ميّال” لفايزة احمد وتبعها “يمه القمر عالباب”، و”بيت العز”، و”تمر حنّة” وغيرها. وكان بينه وبين فايزة احمد كيمياء. هذا النجاح هو الذي قدّمه إلى أم كلثوم التي سعت إليه لتغني ألحانه. وكان الموجي يحلم بتلك الفرصة ولم يصدق اتصالها ودعوته لزيارتها. وفي بيتها التقى العملاقين احمد رامي ومحمد القصبجي الذي أشاد به وقال له: “أنت القصبجي الجديد”. انتهى اللقاء بأن عهدت أم كلثوم له بتلحين “نشيد الجهاد” وغنّته في نادي الجلاء للقوات المسلّحة. وبعد انتهاء الحفل اخذته أم كلثوم من يده وقدّمته للجمهور بحضور جمال عبد الناصر. بعد ذلك لحّن لها “رابعة العدوية” و”الرضا والنور”. واستمرّ التعاون وغنّت من ألحانه وكلمات صلاح جاهين “محلاك يا مصري” (وهي تحية للمرشدين بعد تأميم قناة السويس) و”بالسلام احنا بدينا” و”يا سلام على الأمة” و”صوت بلدنا” و”حانة الأقدار” وفيها هذا البيت: “ففي الليل يبعث ليل الهوى/ وفي الليل يكمن سر الجوى” و”اوقدوا الشموس”. وكلها اغنيات وطنية وحماسية.

عام 1963 كلّفته أم كلثوم بتلحين أغنية “للصبر حدود” وباتفاق أن ينهي اللحن خلال شهر. ومضت الفترة، ولم. قدّمت شكوى لعبد الناصر الذي قال لها مداعباً: “احبسهولك يعني حتى ينتهي من اللحن”. اقامت ضده دعوى في المحكمة. استدعي ووقف أمام القاضي الذي سأله: لماذا لم تنهِ اللحن في الميعاد المحدد؟” أجاب الموجي: “احكم عليّ بالتلحين، سيادتك”. قال القاضي: “حكمت عليك بالتلحين”. ردّ الموجي: “نفذ الحكم”. قال القاضي: “كيف؟”. https://starsoffline.com/

ردّ الموجي: “افتح رأسي واخرج اللحن. أنا لا اعمل كالآلة. تضع فيها شيئاً فتخرج لحناً”. إنها مشاعر وأحاسيس تحتاج إلى وقت ليخرج اللحن إلى النور. وأم كلثوم ليست مطربة عادية أبداً”.

قال القاضي: “عندك حق يا موجي. تحفظ القضية. روح يا بني وأنت حرّ مع أم كلثوم”.

ذهب الموجي إلى أم كلثوم معاتباً لأنه دخل المحكمة بسببها. ردّت أم كلثوم: “مهو للصبر حدود يا موجي: كلما بحثت عنك لا أجدك. فماذا افعل غير ذلك. والوقت مش لصالحي. وأنت يوم مع عبد الحليم ويوم مع صباح ومع نادية ومع فايزة. وحيرت قلبي معاك”. فضحك الاثنان وتمّ الصلح”.

قدم لها أول لحن للأغنية فقالت على طريقتها: “خد لحنك ده وادّيه لعايده الشاعر”. أصابه الإحباط لأشهر ولكنه عاد وسمعها على التلفون اللحن الجديد قالت: “ايوه يا محمد هو ده اللي مستنياه منك”.

بدأت البروفات لكنهما اختلفا ثانية على الكوبليه “ما تصبرنيش ما خلاص أنا فاض بيا ومليت”. وهذه المرة لم يتراجع ورفض تغيير اللحن وغادر تاركاً العود في صالون أم كلثوم غاضباً ومعتكفاً في منزله ورافضاً الحديث مع أحد. أوفدت إليه العازفين الحفناوي وعبده صالح ليقنعانه بالعودة ومناقشة الست. وهناك تمّ الاتفاق على غناء اللحن كما هو. بعد أن قال لها الموجي “أريد أن أكون “بروش” على صدر فستان المغنية على أن يكون البروش للموجي وهويته واضحة”.

نجحت الأغنية ولكنه اغتاظ لأنها غنتها مع “أنت عمري” في نفس السنة ولكن أم كلثوم طيّبت خاطره”بكره تشوف يا محمد نجاحات لا حدود لها”. وذهب لتلحين أغنية ثانية بلا مشاكل هي “اسأل روحك” (1970). عرفت الأغنية نجاحاً أيضاً وأهدته أم كلثوم خاتماً من البلاتين الأبيض. ويروي الياس سحاب في كتابه “مع محمد عبد الوهاب” (2019) ونقلاً عن الموجي انه عندما لحن “اسأل روحك” لم ينتبه لدخول صوت أم كلثوم مرحلة الشيخوخة. وفوجئ بعد الحفلة باتصال هاتفي من محمد عبد الوهاب هنّأه على اللحن ثم قال: “ما هذا يا محمد؟ ماذا فعلت بالست؟ لحنك من طينة عالية وكأنها ما زالت تنشد “رق الحبيب” و”غلبت اصالح بروحي”.

ردّ الموجي: فعلاً. وما عساي أن افعل الآن؟

أجاب عبد الوهاب:اترك اللحن كما هو ولكن بعد خفض درجته اللحنية.

وبالفعل في الحفلة الثانية نفذ الموجي النصيحة الفنية لعبد الوهاب. وكان الأداء أفضل بكثير. وفوجئ الموجي باتصال هاتفي من عبد الوهاب يقول فيه: “ما رأيك يا مولانا… غنينا كويّس”. ويضيف الموجي ملاحظاً: “إن عبد الوهاب لم يقل غنت كويّس بل غنينا وذلك دليلاً على إحساسه بالمصير الفني المشترك واصالة عبد الوهاب وأخلاقه العالية. ورحت أرجوه أن يكفّ عن مناداتي بلقب مولانا فماذا عساي اناديه”.

أعطى الموجي ألحاناً لكبار مطربي ومطربات عصره. أعطى وردة “مستحيل” و”اكذب عليك”. ونجاة الصغيرة “عيون القلب” و”حبيبي لولا السهر” وصباح “قلبي يهواك” و”الحلو ليه تقلان شوي” و”الراجل ده حيجنني” و”شفت جمال”، الغاوي نقط، “مبروك علينا السد العالي” وغيرها… ونجاح سلام “يا أغلى اسم في الوجود يا مصر” وشادية “شباكنا ستاير وحرير” و”مين قلك تسكن في حارتنا” و”غاب القمر يا بن عمي” و”نسيت القمر”، ومحرّم فؤاد “رمش عينه” وهاني شاكر “حلوه يا دنيا” و”كده برضه يا قمر”، وطلال المداح “ضايع في المحبة” وسميرة سعيد “أنا ليك” و”شط البحر” وميادة الحناوي “جبت قلبي منين” و”اسمع عتابي”. وعفاف راضي “يهويك يرضيك” وعزيزة جلال “هو الحب لعبة” ومحمد قنديل “منديل الحلو” واعطى سعاد محمد خاتمة فيلم “الشيماء” (1973). ولطيفة “هات قلبك وروح” وماهر العطار “بلغوه” و”داب داب” وغيرهم. وكان له أيضاً عشرات الأعمال من موسيقى تصويرية ورقصات وأغاني سينمائية ومسرحية ومسلسلات اذاعية. وقد بلغت ألحانه 1500 لحناً ويعود للموجي الفضل في اكتشاف سعاد حسني وتقديمها كمطربة في فيلم “صغيرة على الحب” (1966) لتغني له “خدنا اجازه” و”حزنبل”.

وكان له تجربة في السينما إذ شارك في ثلاثة افلام سينمائية: “أنا وقلبي” مع مريم فخر الدين و”رحلة غرامية” مع مريم فخر الدين. وظهر في مشهد في فيلم “العزّاب الثلاثة” مع عادل مأمون. ولم تترك افلامه بصمة كما الحال مع عبد الحليم وفريد الأطرش ومحمد فوزي. كان يفكر أن يتحول إلى نجم في الغناء، حلمه القديم ولديه صوت جميل ولديه الألحان. ولكن الموهبة الأصيلة جعلته دائماً في المرتبة الأولى بين صفوف الملحنين. وكان أساتذة الموجي محمد عبد الوهاب والقصبجي والسنباطي يعرفون قيمته وقدره ودوره في تجديد الموسيقى منذ الخمسينات. ويعرف قدره أيضاً مجايلوه مثل كمال الطويل وبليغ حمدي ومنير مراد. بعد وفاة عبد الحليم بحث الموجي عن مشاريع جديدة ومواهب لكنه لم يوفق. ولبث يردّد “أدوّر عليه ولا الاقيه” ويقصد عبد الحليم. لبث الموجي صاحب الشخصية المستقلة في ألحانه مخلصاً لعمله الموسيقي وجريئاً في جملته الموسيقية المتفرّدة واقتراحاته وتشكيلاته في اللحن وجاهزاً مع عوده لأن يقول شيئاً ولو تحت مزاج التوتر.

وكان لا يبدأ اللحن قبل أن يمتلئ بالكلمات ويرسم معها مصير اللحن.

وصفه الناقد المصري محمد قابيل بأنه “فلاح بسيط في تعبيره وعميق في رؤيته”. وصفته أم كلثوم بأنه “نهر لا يجف ولا يتوقف مليء بالموسيقى الجديدة الشرقية المتطورة”. وقال عنه عبد الوهاب: “هذا الملحن في رأسه مكتبة موسيقية. بحيث لا أكاد اعرف من أين تأتيه هذه الجمل الرائعة التكوين. انه صانع نجوم، وفي موسيقاه ثراء فني جديد وكبير يثري مكتبتنا الموسيقية العربية ثراءً عظيماً”.

نال الموجي الميدالية البرونزية من الرئيس جمال عبد الناصر 1965 وحاز وسام العلم ووسام الاستحقاق من الرئيس السادات عام 1975 ونال عام 1985 شهادات تقدير من الرئيس حسني مبارك. وأوسمة ونياشين من معظم ملوك ورؤساء الدول العربية. روى ابنه الموجي الصغير في إحدى المقابلات بأن والده رفض عرضاً مغرياً قدمته له إحدى شركات الغناء الإسرائيلية لقاء تلحين عدة اغنيات لمطربيها مقابل 3 ملايين دولار.

عاش محمد الموجي حياة متقلّبة في المهن والعلاقات والأفلام (تزوج ثماني مرات من مطربات وراقصات وممثلات) ولكن الثابت فيها كان انجازه الموسيقي وموهبته الفذّة.

وأخيراً ظلّ الموجي يحمل العود ويستعيد تلك الرحلة الجميلة التي حملت ألحانه إلى العالم حتى سكت النغم في أول تموز 1995 عن 72 عاماً وعشرات الألحان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *