اليسار المصريّ والعربيّ في حضرة بيروت

Views: 862

د. وحيد عبد المجيد

كانت بيروت في العقدَين السابع والثامن من القرن الماضي ساحة مفتوحة لأحزاب ومنظّمات وتيّارات سياسيّة عربيّة عدّة وَجدت فيها متنفّساً بعيداً نسبيّاً عن هَيمنة أنظمة الحُكم على المجال العامّ في بلادها. لكنّ الحضور الأبرز في هذه الساحة كان لأحزاب ومنظّمات يساريّة، وماركسيّة راديكاليّة في الأساس، وفَّرت لها بيروت تعويضاً جزئيّاً عن حرمانها من الحضور في بلدان عربيّة عدّة.

كان مَوقع معظم هذه الأحزاب سياسيّاً وفكريّاً في أقصى اليسار في ذلك الوقت، إذ أُنشئت في سياق مَوجة تحوُّل جذري “راديكالي” بدا حينئذ أنّها عمَّت العالَم العربي، ولكنّها اقتصرت فعليّاً على بعض الجماعات الحديثة، بداية من بعض منظّمات المُقاوَمة الفلسطينيّة، ووصولاً إلى مجموعات يساريّة في بعض البلدان العربيّة. لم ترتبط مَوجة التحوُّل تلك بالصدمة التي أحدثتها هزيمة 1967 فقط، إذ تعلَّق جزء منها بفشل أحزاب تقليديّة، أو بتداعيات فائض القمْع في بعض البلدان. وربّما يجوز القول إنّ اثنَين من هذه العوامل الثلاثة، وهُما صدمة الهزيمة وفائض القمْع، كان لهما الدَّور الرئيس في ظهور مَوجة التحوُّل الراديكالي، ولكنّ وزْن كلّ منهما اختلفَ من حالة إلى أخرى. فكان أثر فائض القمع أقوى في بعض بلدان المغرب العربي، فيما أحدثت صدمة الهزيمة أثراً أكبر في بعض البلدان الأخرى.

وفي هذا السياق، ربطت علاقاتٌ مُتفاوِتة بين بعض الأحزاب اليساريّة العربيّة التي أُنشئت في سياق تلك الموجة والمُنظّمتَين الفلسطينيّتَين اللّتَين كان وجودهما بمثابة ردّ فعل مباشر على صدمة الهزيمة. (أُنشئت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين عقب حرب 1967. وكانت في بدايتها امتداداً للفِرع الفلسطيني في حركة القوميّين العرب، وأسَّس مُنشقّون عنها الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين في شباط / فبراير 1969).

وفيما كان في لبنان ثلاثة تنظيمات يساريّة ماركسيّة، هي الحزب الشيوعي، ومنظّمة العمل الشيوعي، وتنظيم الأمميّة الرّابعة – فرع لبنان “تروتسكيّون”، اتّسعت بيروت لما يقرب من عشرة تنظيمات يساريّة عربيّة غير لبنانيّة. وكان أهمّها أربعة. أوّلها حزب العمّال الثوري العربي الذي أسَّسه عام 1965 ياسين الحافظ عقب خروجه من حزب البعث السوري، وإلياس مرقص بعد إخفاق مُحاولاته وبعض رفاقه إصلاح الحزب الشيوعي في سوريا. وسعى حزب العمّال الثوري إلى التوفيق بين الماركسيّة والقوميّة العربيّة، والتنظير لما أُطلق عليه في حينه “ماركسيّة مُعرَّبة” أو “تعريب الماركسيّة”. ولكنّه تبنّى بعد ذلك توجُّهاً قريباً ممّا كان يُسمّى في تلك المرحلة “اليسار الجديد”. وكانت بيروت المركز الرئيسي لهذا الحزب، منذ أن توجَّه إليها ياسين الحافظ عام 1968، ونَشر فيها جريدة “الثورة العربيّة”، وأنشأ دار الحقيقة للنشر، وأصدر مجلّة “الوحدة العربيّة”.

وكان اثنان من تلك التنظيمات الأربعة الأكثر حضوراً في بيروت مَغربيَّين، وهُما منظّمة “23 مارس”، ومنظّمة “إلى الأمام”. وكان تأسيس منظّمة “23 مارس” نتيجة تفاعُلات بدأت كردِّ فعلٍ على الطريقة التي اتُبعت في مُواجَهة انتفاضة 1965 الطلابيّة، إذ انعطفت أعدادٌ من أعضاء الاتّحاد الوطني للطلبة، والاتّحاد المغربي للشغل، وحزب الاتّحاد الوطني للقوّات الشعبيّة في اتّجاه راديكالي ضمن عمليّة تاريخيّة أفضت إلى إنشاء تلك المنظّمة التي حملت تاريخ اليوم الذي وقعت فيه الانتفاضة، وأُعلن تأسيسها في اليوم نفسه من عام 1970. والشعور بأنّ الأحزاب والمؤسّسات الشعبيّة التقليديّة عاجزة عن أداء دَورها بسبب المُمارسات الأمنيّة العنيفة، شكَّل لدى أولئك الذين صاروا أكثر راديكاليّة دافعاً إلى إنشاء منظّمة “23 مارس”، ثمّ منظّمة “إلى الأمام” التي بُدأ في تأسيسها عام 1969، بواسطة منشقّين عن حزب التحرُّر والاشتراكيّة اليساري التقليدي (اسمه الآن التقدُّم والاشتراكيّة).

أمّا الحزب الرّابع، فكان حزب العمّال الشيوعي المصري، الذي أُنشئ عام 1969 تحت اسم “التنظيم الشيوعي المصري” (لا علاقة بين هذا الحزب وحزب العمال الشيوعي التونسي الذي أُعلن عنه عام 1986)، بعد اتّحاد ثلاث حلقات ماركسيّة راديكاليّة كان جُلّ أعضاء اثنتَين منها من المُثقّفين، فيما كانت الثالثة حلقة عُمّاليّة محصور وجودها حينذاك في مدينة الإسكندريّة.

ولم يكُن وجود قادة وأعضاء في تلك الأحزاب والمنظّمات العربيّة مرتبطاً بعلاقتها مع فصيلٍ يساري لبناني أو آخر، بما في ذلك الفصيل التروتسكي الأكثر راديكاليّة، ومنظّمة العمل الشيوعي التي كانت في ذلك الوقت أكثر راديكاليّةً من الحزب الشيوعي اللّبناني. وينطبق هذا على أحزابٍ يساريّة عربيّة تقليديّة كان لها حضور في بيروت في تلك المرحلة بغضّ النظر عن علاقتها مع الحزب الشيوعي اللّبناني، الذي كان ارتباطه بموسكو قد ضعف منذ منتصف الستينيّات، عندما نجحت حركة تجديد الحزب التي قادها كريم مروّة وعددٌ من رفاقه في إعلان “الاستقلال” أو ما أُطلق عليه فكّ الارتباط مع الحزب الشيوعي السوفييتي.

فلم يؤثِّر ذلك التطوّر في علاقة الحزب الشيوعي اللّبناني مع أحزاب شيوعيّة عربيّة بقيت مرتبطة بـ”الدولة الأمّ”، وكان لها حضور متفاوتة درجاته في بيروت، مثل الأحزاب الشيوعيّة في العراق وسوريا والسودان. فلم يكُن فكّ ارتباط الحزب اللّبناني بموسكو كاملاً، بسبب اضطّراره إلى الاعتماد على دعمها، بخاصّة عندما أراد الدّفاع عن بعض القرى الحدوديّة الجنوبيّة التي تعرَّضت لاعتداءاتٍ إسرائيليّة في ذلك الوقت. فكان الاتّحاد السوفييتي أحد أهمّ مَصادِر الدَّعم المالي لـ “الحرس الشعبي” الذي أسَّسه الحزب الشيوعي اللّبناني في مطلع 1970.

وكان ارتباط بعض الأحزاب والمنظّمات اليساريّة الراديكاليّة الحاضرة في بيروت حينذاك أقوى مع بعض المنظّمات الفلسطينيّة، خاصّة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وكذلك الجبهة الديمقراطيّة بدرجة أقلّ. فقد احتلّت قضيّة فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي مَوقعاً مركزيّاً في بَرامج تلك الأحزاب، بخاصّة حزب العُمّال الشيوعي المصري. فقد ربطته علاقة وثيقة مع الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في مرحلة كانت بيروت المركز الرئيس لمنظّمة التحرير، وحركات المُقاوَمة التي عملت في إطارها. وكانت فلسطين في صدارة اهتمامات الحزب الذي افتخر أعضاؤه بأنّهم متحرّرون من وصمة الاعتراف السوفييتي بتقسيم فلسطين. وكان هذا الحزب جزءاً من المَوجة الراديكاليّة التي أطلقتها صدمة الهزيمة، فاستلهَم الكفاح المسلَّح الفلسطيني، وتبنّى شِعار النضال من أجل دولة علمانيّة ديمقراطيّة على كامل التراب الوطني الفلسطيني. وقام أعضاؤه الطلّاب بدَورٍ أساسي في انتفاضتَي الحركة الطلابيّة الكبيرتَين في عامَي 1972 و1973، اللّتَين طالبتا بالتعجيل بحرب تحرير الأراضي المحتلّة عام 1967، واسترداد الكرامة الوطنيّة المصريّة. وصارت بيروت المُتنفَّس الأساسي لهذا الحزب بُعيد قليل من تأسيسه.

ونَشَرَ الحزب أهمّ وثائقه في مطبوعات ومجلّات عدّة في بيروت في سبعينيّات القرن الماضي، مثل “الهدف” و”الراية” و”دراسات عربيّة”، وفي كُتيّبات أصدرها. ومن أهمّ هذه الوثائق كرّاسة “مَوقف من مهمّات النضال الفلسطيني الرّاهن”، التي نُشرت عقب حرب تشرين أوّل (أكتوبر) 1973. كما نَشَرَ وثيقة “ملاحظات أوليّة حول خطوط الحركة الشيوعيّة العالَميّة”، ومعها وثيقة “موقفنا من القائلين بسلطة البورجوازيّة الصغيرة” في كِتابٍ أصدرته “دار الطليعة” عام 1974 باسم “شيوعي مصري”. وتضمَّن الكِتاب مُناقَشة – أثارت جدلاً واسعاً حينها في بيروت وخارجها – لكِتاب “الصراع الطبقي في مصر 1945 – 1970” الصادر عن “دار الطليعة” أيضاً عام 1970 باسم “محمود حسين”، وهو اسم حركي لاثنَين من اليساريّين الماركسيّين المصريّين هُما عادل رفعت وبهجت النادي.

وعندما أَصدر الحزب مجلّة “الشيوعي المصري” في مصر بشكلٍ سرّي في أيلول (سبتمبر) 1975، أُعيدت طباعتها في بيروت، ووُزِّعت علانية، في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه.

وقد أعطى الحضور في بيروت حزب العمّال الشيوعي ميزةً لم يتوافر مثلها لأحزابٍ يساريّة أخرى أُغلق المجال العامّ في مصر أمامها. ولكنّه لم يستطع استثمارها لدعْم نشاطه، والنّفاذ إلى عمق المُجتمع فبقيَ مُعلَّقاً في مساحة قزميّة على السطح، وعاجزاً عن مُعالَجة أمراضٍ نمطيّة أُصيبت بها الأحزاب اليساريّة العربيّة، مثلها في ذلك مثل مُعظم الأحزاب اليساريّة في العالَم سواء العلنيّة منها أو السريّة، وفي مقدّمتها فوقيّة القيادة وانغلاقها، والشلليّة، والجمود الفكري والتنظيمي، وغياب الديمقراطيّة والمُحاسَبة، ومن ثمّ تحوُّل الخِلاف إلى صراع فقطيعة فانشقاق. وعندما تقترن الاختلالات الداخليّة بقمْعٍ سلطوي ومُلاحَقة أمنيّة، يتعذَّر الاستمرار، ويكون مآل الحزب إلى تجميد النشاط أو إنهاء وجوده ذاتيّاً كما حدثَ في حالة حزب العمّال الشيوعي المصري، أو التخلّي عن توجّهات راديكاليّة كما في حالة منظّمة “23 مارس” التي انتهى بها المطاف بمَن بقى فيها عام 1983 إلى التصالُح مع السلطات وإنشاء منظّمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي شاركت بعد ذلك في تأسيس الحزب الاشتراكي الموحّد عام 2005. وكذلك كان حلّ منظّمة “إلى الأمام”، التي لقى عددٌ من أبرز قادتها حتفهم، وتخلّى الباقون عن توجُّههم الراديكالي، وأسَّس بعضهم مع آخرين حزب النهج الديمقراطي عام 1995.

غير أنّ حضور اليسار المصري في بيروت لم ينقطع عندما ازداد حزب العُمّال الشيوعي ضعفاً منذ مطلع الثمانينيّات، بل استمرّ في أشكالٍ أخرى كان أهمّها مُشارَكة مُثقّفين وفنّانين مصريّين في مُواجَهة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ودعمهم جبهة التحرير الوطني التي أعلن أمينا الحزب الشيوعي ومنظّمة العمل الشيوعي في لبنان تأسيسها في أيلول (سبتمبر) من ذلك العام. وكان الفنّان عدلي فخري ينتقل حاملاً عوده من خندق إلى آخر لشحْذ هِمم المُقاتلين وإلهاب حماستهم بأغنياته الاجتماعيّة والوطنيّة، وصوته القوي الصادق الذي ينفذ إلى القلوب، وهو يغنّي كلمات شعراء حضروا مَعارك مُقاوَمة الاجتياح، مثل المصري زين العابدين فؤاد، والفلسطينيَّين محمود درويش ومعين بسيسو، واللّبناني مارسيل خليفة، والسوري ممدوح عدوان. وغنّى قصائد لهؤلاء جميعهم. ومن بين ما غنّاه، وأقواه، قصيدة بسيسو التي كَتبها بمداد قلبه فجاءت مُفارِقة للواقع، ولكنّها كانت حافِزة على المُقاوَمة، وفيها: (لن تدخلوا بيروت / ستموتون تحت شبابيك المدينة التي لا تموت / كلّ كيس رمل، كلّ صخرة / كلّ مَوجة في بحرها .. تابوت).

***

 

(*)  مُدير مركز الدِراسات السياسيّة والاستراتيجيّة في “الأهرام” – مصر

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *