مسائل أساسية في فلسفة الدين

Views: 2117

د. أديب صعب

 

في ما يلي مقدمة الدكتور أديب صعب لكتابه الأخير في فلسفة الدين، بعنوان “دراسات نقدية في فلسفة الدين”. الكتاب صدر عن دار النهار في بيروت قبل خمس سنوات. وهو الخامس في مجموعة متكاملة: “الدين والمجتمع”، “الأديان الحية”، “المقدمة في فلسفة الدين”، “وحدة في التنوع”، “دراسات نقدية في فلسفة الدين”. ويزمع المؤلف على نشر كتاب سادس في الموضوع، حول الدين والفنّ، من ضمن إعادة نشر أعماله الكاملة في فلسفة الدين. ومعلومٌ أن كتاب د. صعب “المقدمة في فلسفة الدين” (1994) هو الكتاب العربي الأول في حقله في الثقافة العربية، لا بل يمكن اعتبار “الدين والمجتمع” (1983) الكتاب الأول:

 

   يقدّم هذا الكتاب ثمانية فصول مترابطة تحت عنوان “دراسات نقدية في فلسفة الدين”. ويقع في حقل فلسفة الدين الذي ينتمي إلى الفلسفة وإلى علم الأديان أو الدراسات الدينية. إنّه كتاب جديد يضاف إلى المكتبة العربية التي ما تزال تعاني نقصاً كبيراً في الفلسفة والدراسات الدينية، كما في الانسانيّات عموماً.

   هناك مقارَبتان رئيسيتان للدين: المقاربة اللاهوتية التي تنطلق من دين معيَّن، كالمسيحية أو الاسلام أو اليهودية أو الهندوسية أو البوذية، وتحاول تبريره وتفسيره، والمقاربة العلمية التي تدرس ديناً أو مجموعة أديان دراسةً موضوعية قد تركِّز على ناحية أو أُخرى، تاريخية، مثلاً، أو فلسفية أو نفسية أو اجتماعية أو فنّية.

 

   وفي حين أنّ منهجنا الفلسفي، كما هو معلوم، مستمَدّ من المقاربة الثانية، إلّا أنه ليس من فصل مطلق بين المقاربتين. ولا شيء يمنع أن يكون الفيلسوف مؤمناً وأن يحاول تبرير إيمانه في ضوء فلسفته. لكنّ التبرير، أولاً، يجب أن يكون تبريراً للايمان عموماً إزاء عدم الايمان. بعد ذلك يستطيع الفيلسوف المؤمن تبرير إيمانه الخاص على أساس التبرير العامّ، أي ولوج اللاهوت الموحَى من باب اللاهوت الطبيعي. وهنا يكمن أحد الفوارق بين اللاهوت والفلسفة الخاصَّين بدين معين. ومن الأخطاء الشائعة حيال الفلسفة ربطُها بالإلحاد والتشكيك، في حين أنّ الفلسفة حيادية بالنسبة إلى مسألة الايمان. وفي استطاعة المفكرين اللجوء إلى الحجّة الفلسفية تبريراً لهذا الموقف أو ذاك من الايمان. من الخطأ، إذاً، قَصْر صفة الفلسفة على كتابات مفكرين مثل ديفيد هيوم ولودفيغ فويرباخ وكارل ماركس وفردريك نيتشه وبرتراند رصل في رفضهم التصور الالهي للوجود، وحَجْب هذه الصفة عن كتابات مفكرين مثل أبي حامد الغزالي وفردريك شليرماخر ورودولف أُوتو ووليم تمبل وتشارلز كولسون في جعلهم الأُلوهة جزءاً من صورتهم للعالم. ومن الخطأ الفادح وَسْم الصورة غير الالهيّة للعالم بالصورة العلمية، إذ لا تخوّلنا طرائق العلوم نَسْج صورة للعالم. والأحرى أنّ هذا التصوّر يأتي مما هو “وراء العلم” (meta-science)، أي الميتافيزيق أو الفلسفة.

   الفصل الأول من هذا الكتاب يتناول التفكير النقدي، في خصائصه وشروطه ومدى حضوره في الفكر العربي. هذا النوع من التفكير ميَّز المعلّمين الكبار، مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتمَّ إحياؤه في عصر النهضة الغربية مع فرنسيس بيكون ورينه ديكارت وسواهما. لكنه طبعَ الفكر العربي إبّان مرحلة القرون الوسطى في الغرب، مع أشخاص مثل الكندي والفارابي وابن سينا والجاحظ والغزالي والبيروني وابن رشد. والتفكير النقدي يتجاوز قبول فكرة معينة، أو رفضها، نحو البرهان الذي على أساسه يستطيع صاحب الفكرة الدفاع عنها. وشهدَ القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين اندفاعاً نحو نهضة عربية جديدة، ما لبثت أن تلقّت الضربة تلو الأُخرى حتى تراجَعَ فكرُنا عن الابداع إلى التقليد وباتَ نهجُنا التربوي قائماً على التلقين. أما الانجازات الرصينة في ثقافتنا العربية الراهنة فما تزال جهوداً فردية لا تحصل عموماً بإيعاز من مؤسسات علمية مختصة أو تحظى بدعمها.

 

   وبما أنّ موضوع دراساتنا النقدية هذه يدور على فلسفة الدين، كان السؤال الذي يطرحه الفصل الثاني من الكتاب معنيّاً بالمنهج: هل هناك منهج موحَّد لفهم الدين؟ حسب المقارَبة اللاهوتية للدين، هناك منهج تقليدي يقوم على أنّ ديني وحده هو الصحيح أو الأصحّ، الكامل أو الأكمل. هذا المنهج إلغائيّ، يُخضِع كل الأديان لدينٍ واحد، ويخفض بعض الأديان إلى نظام آخر كالأخلاق، ويخفق في طرح أسئلة أساسية متعلقة بالدين والاجابة عليها. أما المقاربة التي نعتمدها فهي قائمة على الدراسات الدينية، التاريخية والفلسفية وسواها. وهي تَستمدّ منهجاً موحَّداً لفهم الدين من العناصر المشتركة بين الأديان، التي تتيح لنا الكلام عن جوهر للدين تَكتسب عبارات مثل “الدين” و”الأديان” معناها في ضوئه. إلا أنّ اشتراك الأديان في عناصر معيَّنة لا يزيل الفوارق بينها ويجعل منها ديناً واحداً. والأحرى أنّ هذا الشبه وظيفيّ، تبقى معه لكل دين نظرَتُه حيال أُمور كالعقائد والطقوس وقواعد العمل والمؤسسين والمعلمين. ولكل من المنهجَين أثرُه في مسألة مهمة جداً في الفكر الديني، هي الحوار. ففي المنهج التقليدي الإلغائي، من الطبيعي أن يكون هدف الحوار الديني إقناع الآخر بوجهة نظرنا وتحويله إلى ديننا. لكنّ هدف الحوار، في منهجنا، هو اكتشاف العناصر المشتركة بين الأديان والتحقق من أنّ ما أسعى إليه بواسطة ديني يتلاقى مع ما يسعى إليه الآخر بواسطة دينه هو. ويمكن أن نسمّي هذا الهدف “اكتشاف الدين في الأديان”، أو “اكتشاف الوحدة في التنوّع”. وهذا ما أشرتُ إليه بدءاً من كتابي الأول في هذه المجموعة، وهو الدين والمجتمع، الصادر قبل ثلاثين سنة ونيّف.

   إلّا أنّ الدين ليس خطاباً للفرد فقط عبر عقله وضميره، بل هو خطابٌ أيضاً لكل الناس، عبر جماعة أعلنت أنها تَنقل كلام اللّه إلى البشر. هناك، إذاً، الدين الطبيعي أو العقلي أو الفلسفي، والدين الموحَى. من هنا يتصدّى الفصل الثالث لأسئلةٍ كالآتي: كيف خاطبَ اللّه أُولئك الرسل المختارين؟ بأيّ وجه تجلّى لهم؟ إذا كان المخاطِب واحداً، فما تفسير الخلافات والحروب بين الأديان؟ ومما ينطوي عليه هذا الفصل التذكيرُ بما حاولنا البرهان عنه سابقاً (الأديان الحية، 1993) من أنّ تعددية الآلهة لم تكن مطلقة في أيّ دين، وأنّ الأديان المسمّاة تعددية هي توحيدية في العمق، والتذكير أيضاً بأنواع اللاهوت التي صنّفناها (وحدة في التنوّع، 2003) تحت الأسماء الآتية: اللاهوت السِّجالي، اللاهوت الايجابي، اللاهوت الفلسفي. هذا الأخير ثمرة المنهج الموحَّد الذي طرحناه لفهم الدين، مقترحين على اللاهوتيين الانطلاق منه نحو منهج إيجابي يفصحون به عمّا هو دينهم، بعيداً عن المنهج السجالي الإلغائي الذي يطبع الكثير من الكتابات اللاهوتية. لكن يمكن اللجوء إلى السجال دفاعاً عن نظرة معينة حيال سوء فهم الآخرين لها أو حيال هجوم غير مبرَّر عليها. وبتطبيق منهجنا على مفهوم “الفرقة الناجية” الذي نجده في كل الأديان والذي يحصر الخلاص ضمن أتباعه، خلصنا إلى أنّ الخلاص الديني قائمٌ لا على الاسم بل على الجوهر.

 

   لكن أيَكون هذا الجوهر أخلاقاً خالصة؟ إذا أُقيمَ الخطاب الالهي على العقل والضمير الفرديَّين، أفَلا يمكن أن ينحل هذا الخطاب، أي الدين، إلى أخلاق محض بعيداً عن فكرة الأُلوهة؟ هذا ما يتصدّى الفصل الرابع، “لغة الدين”، للاجابة عنه. إنّ توحيد الدين بالأخلاق يمكن أن يُنظَر إليه ضمن معادلتين، يندرج تحت كل منهما عددٌ من الاتجاهات الفلسفية. المعادلة الأُولى لخصناها بأنّ “الدين أخلاق”. الفلسفات هنا تقرّ بوجود اللّه، لكنها تهجر الطقوس وتخفض الدين إلى سلوك أو أخلاق. المعادلة الثانية لخصناها بأنّ “الأخلاق دين”. الفلسفات هنا تنكر وجود اللّه وترفع الأخلاق الفلسفية إلى مقام الدين. ضمن هذه الفلسفات تقع النظرة التي ننتقدها في هذا الفصل، وهي فلسفة التحليل اللغوي على لسان أحد أبرز دُعاتها. هذه تذهب إلى أنّ اللغة الدينية الوحيدة التي يمكن الدفاع المنطقي عنها هي لغة المبادئ الخُلقية. أما الاستعمالات اللغوية الأُخرى التي يلجأ إليها الدين، ومنها عقائد كالأُلوهة والخلاص والحياة بعد الموت، فلا يمكن الدفاع المنطقي عنها ولا تضيف إلى المعنى أو الهدف الخُلقي للدين، بل هي قصص رمزية تضفي اندفاعاً لدى أتباع دين معيَّن لاتّباع مبادئ دينهم الخُلقية. وبما أنّ دعاة هذه النظرة عَوّلوا على كتابات مسيحية، فقد تناولنا، بهدَف نقدهم، نَصّاً مسيحياً هو إنجيل متّى، لنبيِّن أنّ استعمالاته اللغوية المتعددة لا يمكن أن تنحلّ إلى الاستعمال الخُلقي، وأنّ الدين، بالتالي، ليس اسماً آخر للأخلاق. وعَزّزنا وجهة نظرنا بالمقارنة مع نَصّ قرآني هو سورة يونس. هكذا دافَعْنا فلسفياً عن مفهوم الأُلوهة، أي النظرة الدينية إلى العالم التي لا تستقيم أخلاق دينية بدونها. ودفاعنا عن المسيحية والاسلام من حيث هما دين هو، في الوقت نفسه، دفاع عن كل دين لجهة عدم خفضه إلى أخلاق.

   إلّا أنّ هناك نظرات أُخرى إلى العالم تُنافِس النظرة الدينية على شرعيتها، أهمها النظرة العلمية التي أسفرت عن مشادات قوية بين العلم والدين. ويأتي الفصل الخامس بعنوان “أوهام العلم وأوهام الدين” تأكيداً على أنّ هذه المشادات غير ضرورية، بل هي مبنيّة على سوء فهم من كلا الجانبين، هو ما سمّيناه أوهاماً. من جانب العلم اخترنا أوهاماً ثلاثة: أنّ العلم هو المصدر الوحيد للمعارف والمواقف، وأنّ التفسير العلمي – الآلي للوجود يُبْطِل التفسير الغائي، وأنّ العلم يسلب الدين شرعيته. واخترنا من جانب الدين ثلاثة أوهام أيضاً، هي أنّ العلم يبرهن عن وجود اللّه، وأنّ الدين يكمل ما يعجز عنه العلم، وأنّ ديني وحده هو الدين الصحيح. وفي ضوء منهجنا الفلسفي، بيَّنّا أنّ لكل من العلم والدين نطاقه ومنطقه، مما يعني أنّ المشادات بين الاثنين غير ضرورية بل ضارّة. واعتماداً على نظرية المعرفة التي أرسيناها في المقدمة في فلسفة الدين بعد نقد النظرية المسمّاة تجريبية مع ديفيد هيوم وأتباعه، توصّلنا إلى أنّ أنماط البرهان لا يجوز أن تكون واحدة في العلوم أو الأنظمة الفكرية المختلفة، لأنّ مفهوم العقل والمعقول يختلف من نظام إلى آخر. وجاءت خلاصة ذلك الفصل اقتراحاً لخطّة من أجل نزع الأوهام عن جانبَي العلم والدين، قائمة على تحديد النطاق والمنطق وتوضيح المفاهيم عن كل جانب، مقترحين أن تتعزز هذه الخطة عبر التربية.

 

   من هنا كان موضوع الفصل السادس “تعليم الدين في المدرسة العامّة”. بعد تعريف المدرسة العامّة بأنها المدرسة التي تتيح للطلاب التعليم الأساسي والثانوي لتخوّلهم دخول الجامعة، يَعرض هذا الفصل ستة نماذج بالنسبة إلى تعليم الدين: (1) الاقتصار على تعليم دين الدولة أو دين المدرسة. (2) تعليم الأديان بهدف المفاضلة. (3) تعليم الأديان بهدَف أن يختار المتعلِّم ما يلائمه منها. (4) تَجنُّب تعليم الدين لما قد يثيره من خلافات، خصوصاً في المجتمعات التعددية دينياً. (5) عدم تعليم الدين لأنّ نظام الحكم إلحادي. (6) تعليم الأخلاق بدلاً من تعليم الدين. هذه النماذج يتمّ نقدها كلها وفقاً لمنهجنا الفلسفيّ، ولنظرتنا القائلة بأنّ كل مجتمع تعددي، شاء أم أبى، بالمعنى العددي، أي بمعنى تَكوُّنه من أفراد. وتأكيداً لما جاء في كتاب الدين والمجتمع (1983)، يذهب هذا النموذج إلى ضرورة تعليم الأديان في المدرسة العامّة كما تعلَّم أيّ مادة، تاريخية أو علمية أو غير ذلك، لا بِهَدَف أن يختار المتعلم الدين الذي يلائمه، لأنّ الدين يأتي عادةً من البيئة العائلية، بل بِهَدَف أن يكوِّن مفهوماً عامّاً للدين، مع نظرة نقدية حول دينه والأديان الأُخرى، من شأنها تعميق قناعاته، وتعديل ما يراه خطأً في ممارسات آبائه، وفهم دينه والأديان الأُخرى واحترامها على نحوٍ أفضل. وتدعو نظرتنا إلى إحالة التعليم الديني التقليدي، أي تعليم عقائد كل ديانة لِذَويها، على مدارس خاصة تنشئها المؤسسات الدينية لهذا الغرض فقط. ويتناول هذا الفصل بعض التحديات الملازمة للنموذج المقترَح، مثل تحدّي رسم البرامج وإعداد المعلمين وتأليف الكتب وبقية المواد التعليمية. وهي تحديات لا تقتصر على مادة الدين بل تشمل كل المواد.

   الفصلان الأخيران من الكتاب يتناولان مؤلفاتي في الموضوع. في الفصل السابع أستعرض واقع الدراسات الدينية تعليماً وتأليفاً ونشراً في ثقافتنا العربية الراهنة، فأجد أنّ الخطى نحو هذه الدراسات ما تزال خجولة، وأنّ معظم الدوائر الجامعية والمؤلَّفات تعتمدها للمفاضلة وتتجنب تعليم الأديان الأُخرى، وأنّ أكثر الكتب المنشورة في هذه الدراسات، على ضآلتها، لا تتَّصف بالثقافة الواسعة والتفكير النقدي والإبداع. وأطرح المعايير العامة الآتية للحكم على الكتابات التي تُنشَر في حقل أو آخر من الدراسات الدينية: هل الكتاب نتيجة بحث واجتهاد شخصيَّين؟ هل هو ترجمة غير معلَنة على غرار الكثير من الكتب “الأكاديمية” العربية؟ هل يقف مع أفضل المؤلفات العالمية في حقله؟ هل تحافظ لغته، في آنٍ معاً، على مستوى الاختصاص المسؤول ومستوى مخاطبة القارئ العامّ غير المختص؟ ويأتي الفصل الأخير، “نقدٌ على نقد”، ردّاً توضيحياً على بعض الآراء النقدية حول كتبي، علماً أنّ كل الدراسات والآراء التي نُشِرَت جاءت في إطار الموافَقة والإقرار برِيادة هذه الكتب موضوع فلسفة الدين واستهلالها الدراسات الدينية في ثقافتنا العربية الراهنة، وعلماً أنّ النقد لا يُختصَر بالموافقة أو عدم الموافقة. إلّا أنّ حقل فلسفة الدين، كما الدراسات الدينية عموماً، لا يزال جديداً ويحتاج إلى فَعَلة كثيرين. ومما يؤسَف له أنه، بعد ثلث قرن وأكثر من إطلاقي التأليف في هذه الدراسات، خصوصاً من ناحيتيها الفلسفية والتربوية، ما يزال الانتاج في حاجة إلى كثير من السعة والعمق والأصالة.

 

   هذا الكتاب، إذاً، يقدِّم دراسات نقدية في الفكر الديني، ترتكز إلى منهج وتقترح بدائل لما تنتقده. وهو، بهذا المعنى، استمرار لكتبي السابقة. كتاب الدين والمجتمع (1983) وصفَ الدراسات الدينية ودعا إليها، متبنّياً المنهج العلمي الوصفي (الفينومينولوجي) وداعياً إلى تعليم الدين، بدءاً من مرحلة الدراسة الابتدائية، على أساسه. كتاب الأديان الحية (1993) درسَ أديان العالم الرئيسية بناءً على هذا المنهج، مقدِّماً نموذجاً يمكن إعداد مواد تعليمية على أساسه، وخالصاً إلى عناصر وظيفية مشتركة بين الأديان، هي التي تعطي عبارة “دين” معناها. كتاب المقدمة في فلسفة الدين (1994) انطلقَ من هذه العناصر، طارحاً تحديداً تاريخياً لفلسفة الدين قائماً على ما قاله الفلاسفة عن الدين، وتحديداً منهجياً يذهب إلى أنّ فلسفة الدين معنيّة بتحديد نطاق الدين ومنطقه. وعالجَ الكتاب المسائل البارزة في فلسفة الدين، وهي: وجود اللّه، الخبرة الدينية، العجيبة، مسألة الشرّ، الدين والأخلاق، الوجه الآخر للحياة، مستعرضاً معالجة الفلاسفة لها وخالصاً إلى بدائل قائمة على اعتماد معنى واسع للدين تمييزاً له عن معنى ضيّق، وعلى نظرية معرفة تحل مكان نظرية هيوم التجريبية لتلائم الدين والتجربة الدينية بالمعنى الواسع. كتاب وحدة في التنوّع (2003) تناول، بالمنهج نفسه، مسائل أُخرى في فلسفة الدين، منها: الايمان والالحاد، الدين والعلم، الدين والدولة، نطاق الإعجاز، الانسانية كدين. وها هو الكتاب الحالي، دراسات نقدية في فلسفة الدين (2015)، يعتمد المنهج ذاته لمعالجة المزيد من المسائل، مثل: الخطاب الالهي، لغة الدين، أوهام العلم وأوهام الدين. وتجدر الاشارة إلى أنّ هناك مسائل عولجَت أكثر من مرة في الكتب المختلفة، ومنها: الدين والعلم، الدين والأخلاق، الحوار الديني، تعليم الدين. إلّا أنّ التصدّي لهذه المواضيع حصل على نحو طبيعي، في إطار الكتاب ككل، علماً أنّ المعالجة المتكررة لهذا الموضوع أو ذاك تضيف إليه أحياناً نقاطاً جديدة، أو تضفي عليه مزيداً من الايضاح. لكن مع هذا كله، لا تَستنفد المسائلُ التي تمّت معالجتها في الكتب الخمسة كلَّ ما يمكن أن يسمَّى مسائل في فلسفة الدين. وقد أتناول مسائل أُخرى في كتابات لاحقة، أو أُعيد صياغة بعض المسائل التي عالجتُها حتى الآن. لكنْ لسوايَ أن يفعل هذا أيضاً، ولعل بعضهم يرسي أُسساً أُخرى لفلسفة الدين.

   مع الكتاب الحالي، باتت مجموعتي في الفكر الديني تشكّل خماسية متكاملة، أضعها بين أيدي القراء بثقة الباحث وتواضع العالِم واندفاع المعلّم وانفتاح المتعلّم على آفاق لا تنتهي، مع شكر غير محدود لكل مَن ألهمَني نحو الأفضل، خصوصاً الذين تناولوا كتبي بالدراسة والتعليق، وطلابي على مرّ السنين.   

  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *