جيراننا الآشوريون

Views: 972

زياد كاج

“شلاما ” (مرحبا بالآشورية).

لست بصدد درس في هذه  اللغة القديمة ؛ بل لسرد قصة جيرة وخبز وملح حقيقية قضت عليها بشاعة الحرب وأحيتها  وسائل التواصل الاجتماعي من  رميم عظام الانتشار اللبناني في القارات الخمس.

صورة قديمة بالأسود والأبيض حرّكت فيّ أحساسًا وحنينًا الى زمن مضى؛ حمل معه أحبة كثرًا الى أماكن بعيدة   ابتعدوا عن العين وليس عن القلب.

صورة  بعدستي لأختي وصديقتها كارمن، ابنة العائلة الآشورية في حيّنا، وهما تقفان في مكان مرتفع على سطح بنايتنا في شارع الصنوبرة في رأس بيروت.  عايدة وكارمن ترتديان البنطلون—وهو كان من اللباس غير المرغوب به عُرفًا في ذلك الزمن، الى جانب التنورة القصيرة الأكثر خطورة ومدعاة للجدل. كانتا تبتسمان للشمس الى جهة الشرق، وسمات التحدي واضحة على  وجه كارمن أكثر من شقيقتي. وضعية ايديهما عكست الكثير من كوامن شخصيتيهما المراهقتين.

كارمن واختي عايدة

 

   شكلت عايدة وكارمن ثنائيًا ملفتًا في الحي. تتبعته أعين الفضوليين؛ النساء والرجال المحافظون للإدانة والثرثرة، والشباب للبصبصة. فالتحديق هو مكوّن اساسي من ثقافتنا العامة. لكن جمال وغنج ذلك الزمن لم يحمل عهر وكسر حياء  اليوم. “طق موت من بعيد لبعيد”.

استعيد مشهدًا احتفاليًا من على مدرجات المدينة الرياضية المليئة بالجمهور الذي زحف من بيروت وكل لبنان. لأول مرة شاهدت الألعاب النارية، والى جانبي أختي، وكارمن كانت تحت على أرض الملعب تشارك ضمن الفرق المدرسية الراقصة. عدنا الى البيت مشياً، فرحين لاكتشافنا عالمًا أكبر وأكثر صخبًا من عالم حيّنا.

   جيراننا الآشوريون، خاصة عائلة ام ايلي وأولادها، وجيرانهم ام برنار وزوجها (هكذا كّنا نعرفهم) كانوا جزءًا من جيرة دائرية ضيقة من أهل الخير. ورغم أننا كنا محاطين بعائلات بيروتية ، كـ آل سنو والغالي والصيداني، الا أنهم كانو أقل تردداً الى بيتنا في بناية الـ ” تي.في. تاكسي” من أبناء وبنات أم ايلي (الوقورة، الحنونة والموزونة ) التي عشقت لبنان وأغاني عصام رجي بصوته الجهوري وسوالفه الطويلة. فابنها جوزيف (زوزو) كان صديق الطفولة ، كما كانت كارمن لشقيقتي. ومن شباك شقتنا المطلة على الشارع والقريبة من بيتهم الأرضي في بناية “الغالي” كنا نتواصل مع بعضنا البعض بالإشارة. أحياناً، كان زوزو يقصد بيتنا وأحياناً كنت أقصد بيتهم المتواضع الذي حفظت تفاصيله. وأمي  جسر تواصل غير مرئي صامت ومرحب.

 كانت تلفتني نظافة أم ايلي وعنايتها بفرش دارها. فتعرفت بوعي ولد على الزوج والأخ الأكبر ايلي (كان يعمل مساعد كوافير لدى صالون فيصل في الجهة المقابلة للشارع الضيق) والمرحومة منى ( شقيقتهم الكبرى التي عملت باكراً وقلقت  على مصير العائلة حين كشرت الحرب  عن أنيابها). وكان لي فرصة التعرف عن قرب على دميا اللطيفة وزوجها الآدمي، وأخ زوجها الذي كان يلفتني بإرتدائه للبروتيل الأبيض وكثرة تدخينه وعصبيته الزائدة. هؤلاء كانوا من طبيعة مناقضة لعائلات سكنت في حي آل العيتاني المغلق القريب من ساقية الجنزير. فيهم، خاصة الشباب، شيء من الجلافة ما عدا المرحوم جورج الذي كان مقربًا مني. يتكلمون بلغتهم الأم فلا تفهم شيئًا. حروف ثقيلة تحسبها لغة تعود الى تاريخ بلاد ما بين النهرين.هاجروا جميعاً وبقيت منهم سيدة تزوجت من شاب من  الحي وأخ بقي في رأس بيروت في كاراجه مقابل “مطعم أمين” سابقاً حيث كانت تعبق رائحة الطعام  اللذيذة في أجوائه كأنها غطيطة صوفر. صار  المعلم سيمون الميكانيكي  الآشوري “رأس بيروتي” معتقًا ومن علامات الحي الذي يتحول  الى محجة الفليبينيات أيام الأحد.

” مانيلا في رأس بيروت”.

   ” وسقطت في بحر العسل “… نكتة كان أخي رياض-وهو شحيح في التنكيت والكلام- أخبرنا إياها  عن عائلة كانت تسكن الحي وكانت معروفة بحبها للمظاهر. صرخ الأب مناديًا ابنته من على الشرفة في الطابق السادس وهي في الشارع: “لوين يا أبي ؟ ( باللكنة البيروتية القح)”

” ع السينمي”

” شو لح تحضروا ؟”

” وسقطت في بحر العسل” ( بصوت ممغّط).

كانت قد افتُتحت صالة حديثة في بناية شاهقة أسمها ” بناية الكونكورد” القريبة من ثانوية رمل الظريف الرسمية (تحمل أسم الرئيس الشهيد رينيه معوض).

   لليوم نضحك على هذه الخبرية. ونحن سقطنا في جيرة ومحيط نادر في حينا في شارع الصنوبرة  رأس بيروت. افتُتح نادي الـ “شريلين” تحت الأرض في مبنى قريب من شجرة الصنوبرة. كان لعلية القوم، وقيل يومها إن ابن صاحب النادي كان أصغر مليونير في لبنان ( لم أرَ الـ “شيرلين” بل تخيلته وفق خبريات الحي…بركة سباحة وصالون للسيدات…الخ).

ثم افتُتح في شارع مدام كوري (الاسم الرسمي) سوبرماركت “كراولن” وكان الأول في بيروت حجمًا ونوعًا. كان مواجهًا لمحطة الدمياطي، في المبنى الذي يضم اليوم السفارة السودانية.

من حسن حظي، أن قدميّ الصغيرتين وطأتا أرض “كراولين” حيث اكتشفت عالمًا  سفليًا مختلفًا يبيع البضائع على الطريقة الأميركية. بيض الفري الذي كان ينتجه أبي أدخلني الى هناك؛ ثم أصبحت أتجرأ على  شراء وقية “مرتاديلا”. احاسب على الصندوق ورأسي مرفوع واُعامل كأي زبون “محرز”.

   “محطة الدمياطي” كانت علامة فارقة. صاحبها رجل قصير القامة على شياكة وجدية. زوجته الألمانية لها قامة طويلة وعلى جمال ملفت. واثقة الخطوة تمشي ملكة. وكذلك أولادها الشباب  في مشيتهم في شارع الصنوبرة. أحرزوا بطولات في السباحة لأن والدهم كان يفرض عليهم الاستيقاظ مع شروق الشمس للتمرين.

لاحقاً تعرفت على آخر العنقود ،وليد دمياطي، في ثانوية الروضة القريبة من مكان سكن جيراننا الآشوريين. وليد، قبل أن يلمع نجمه في عالم كرة السلة مع النادي الرياضي، جرّب كل أنواع الرياضات في الروضة: من الفوتبول الى الـ بينغ بونغ؛ وكان صاحب شخصية رياضية مرحة وايجابية استنشقت هواء رأس بيروت النقي.

كانت لنا جيرة مع آل سنو ( تحت شبّاكنا مباشرة).  سهراتهم البيروتية العريقة كانت ملفتة: ننام على ونس أصواتهم، وخرير الأراكيل، وصوت لعبة طاولة الزهر وبين “دشش ودبش”، وصوت أبو سعد الدين الجهوري يخالط أصوات اصهرته الكثر.

بناية الغالي غير المدهونة (لونها بقي باطونيًا) تكونت من 4 طوابق. في الطابق الأول سكنت عائلة الصيداني المعروفة بآدمية الأب والأم وبكثرة الشباب؛ أحدهم كان لقبه “سيفو” من سيف الدين. وكلمة “سيفو” مستفزة للآشوريين لأنها تؤرخ للمجازر التي تعرضو لها سنة 1915! كان سيفو من رواد مدرسة الطليان حيث كان يلعب كرة القدم مع سليمان بختي. وفي الطابق الأخير عاش أبو ابراهيم الغالي، صياد السمك  الرأس بيروتي العتيق، الذي قيل إنه ربح ورقة يانصيب مرتين. فبنى البناية من الأولى ، ومن الثانية بنى منزل الصيفية في شانيه.

   بيت أم ايلي الآشورية كان الأصغر والأقل تواضعًا والأكثر حبًا وعطاءً وتماسكًا.الى جانب رعايتها لأفراد عائلتها بسلطة وحضور أقرب الى العاطفة المنضبطة، عملت أم ايلي خارج البيت. كان لكارمن في قلبها مكانة، ولأيلي أكثر لأنه كان الصغير ويعاني من نوبات ربو مزمنة خاصة في ليالي بيروت الرطبة. لطالما شاركتهم سهراتهم الليلية على الحافة قرب بنايتنا مقابل الفرن وصديقي ايلي يتنفس بصعوبة، صدره يخر وأمه تشجعه وتغمره.

   كنت وزوزو نقصد مدرسة “الطليان” القريبة من أوتيل البريستول ودار الطائفة الدرزية. كان يديرها رهبان أقباط يرتدون الأسود لهجتهم مصرية. كان يحج الى المدرسة  أولاد المنطقة في رأس بيروت للعب الفوتبول وكرة السلة ومشاهدة بعض الأفلام التبشيرية لمن أراد الى ذلك سبيلا. كنا نشاهد مباريات الكبار ونعيش ونلعب في فسحة آمنة بعيدًا عن أجواء وتشنجات  بدأت تطفو على سطح صفائح توترات البلد .

 في أحد الأيام، كنا نلعب على مجسّم حديدي مربع بعلو أمتار  يتطلب الكثير من المهارة والحذر. وقع زوزو وكسر يده. بسبب الصدمة لم يصرخ من الألم. رأيت ذراعه تتحول الى ما يشبه حرف “يو” بالانكليزية. حمل ذراعه اليمنى بيده اليسرى وهرعنا الى الأبونا. قررت ادارة مدرسة الطليان معالجته على نفقتها. دخل مستشفى قريبة من الأسواق التجارية. قيل إن المعارك بدأت تحت. فغاب صديقي وأمه لفترة أيام طالت. صرت أجلس وحيداً على الحافة، فألمح الجد-الآشوري الذي كان يضع العطوس في فتحات أنفه كي يعطس. بدا لي أنفه أكبر من اللزوم.

تحسنت أحوال عائلة  أم ايلي فانتقلت  الى شقة أكبر في بناية الداعوق القريبة من مركز “حركة الناصريين المستقلين، المرابطون”.

المرحومة منى قررت المشاركة في مظاهرات وحركة شبابية ضد الحرب كانت كرائحة الياسمين وسط حريق كبير.أما الأخ الأكبر فجلب السلاح الى بيت العائلة؛حصل شجار شهدته لأول مرة بينه وبين الأخت الكبرى.

 لاحقاً، اختفت عائلة ام ايلي في دهاليز الذاكرة قبل أن يهاجروا ككثر غيرهم من آشوريي بيروت الى بلاد “الكانغورو” وبقاع العالم.

 دميا وعائلتها صمدت حتى سنة 1986، وهي  السنة التي شهدت تنفيذ مشروع توسيع الشارع الذي قضم مدخل مدرسة الروضة، وبيت ام ايلي السابق، وقسمًا من بيت دميا ومدخل بناية أبو ابراهيم الغالي.

حي المطرانية (كنيسة مار جرجس) في سد البوشرية هو حي الآشوريين اليوم، وكثر منهم لا يملكون الجنسية اللبنانية. من عاداتهم “صوم نينوى”، ورشّ الماء على الطرقات لغسل الاجساد والنفوس من الخطايا، وهم اتوا من شمال العراق وشمال شرق سوريا بعد الحرب العالمية الأولى . من اعيادهم “حانو قريشو” وهو عيد تراثي قديم يشبه عيد الاستسقاء. يحيون ذكرى مجازر “سيفو” التي حصلت في 24 نيسان سنة 1915.  ويوم “الشهيد الآشوري” في 7 آب. يبقى أن نتذكر أن فيروز ووديع الصافي من أصول آشورية.

أخبرني صديقي الناشر سليمان بختي عن أغنية آشورية عاطفية كان يغنيها لهم صديقهم إسرو في مدرسة الطليان:

“كم شا وقلي مو حبي…ماني بو دانا آنا…”

” بوشون  يشيما”

(الى اللقاء) جيراننا الأحباء.

 

                        

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *