الفنجان المقلوب

Views: 378

 د. جان توما

تقول الروايات إنّ  نزار قباني لخّص قصة حبّ عبد الحليم حافظ لسعاد حسني في قصيدة ” قارئة الفنجان” ومنها : “جَلَسَتْ والخوفُ في عينيها تتأملُ فنجانيَ المقلوب”، مشيرًا إلى ” مرجانة”، المرأة التي قرأت قصة حياة العندليب في فنجان قهوته مطلع شبابه.

لعلّ نزار  يلخًص اليوم ويكتب عن ” فنجان الشوقَ والحزن” في عَيَنيّ أبٍ أو  أمّ، جَدٍّ أو جَدّةٍ، يودّع أبناءَه أو أحفادّه الجامعييَّن، جالسًا يتأمل شاشة هاتفه متابعًا خطَّ سيرِ الطائرةِ التي حملتهم في هجرةٍ هاجرة، فيما كان يحلمُ لو بقوا عصافير في قلبه، لهم المدى والصدى والمكان والزمان.

اقترب أيلولُ، واقتربَ رحيلُ طيورِهِ، وكذلك شبابُ الوطن. يرحلونّ كما ترحلُ الفصولُ، لكنّ الفصولَ تعودُ، وهم باقون في هجراتِهم، حيث لم تنفعهم عباراتُ “الوطن الحنونا” و”مرقد عنزة”. هناك يعرفونَ أنَّ الوقوفَ في الصفِّ حضارةٌ وتربيةٌ واحترامٌ، فيما الطوابيرُ هنا  ذلٌّ واستكانة، متمتمين؛ “وبرغم الجو الماطر والإعصار… “الغربة” ستبقى يا ولدي.. أحلى الأقدار”،

ما أصعبَ إغلاقَ الدفترِ بعد انتهاءِ صفحاتِه، وما أصعبَ فتحَ دفترٍ جديدٍ للكتابة. كم يتعبُ اليراعُ في ترحالِهِ واعتيادِهِ على المكانِ الجديد. كأنّه كُتِبَ على شبابِ لبنانَ أن يكتبوا بسرعة، ليفتحوا دفترًا جديدًا ،وإن اضطروا إلى تمزيقِ صفحاتٍ لحرقِ المراحلِ من أجلِ دفترِ سفرِ الخروجِ إلى أرضِ الميعادِ منتظرة.

يتركُ الأبناءُ والأحفادُ الوطنَ، ويتركون لأهلهم الصورَ والشاشةَ، وملاعبَ طفولتِهم، لكنَّهم بودِعون قَلْبّي أبيهم وأمّهم، أو  جَدّهم وجدّتهم، كلّ شيطنتهم ،وكلّ أحلامهم، والدفاتر التي خربشوا عليها زمنهم الأوّل، قبل أن يقلبوا الصفحة لعمر جديد، وأرض جديدة، وسماء جديدة.

هل يبقى الوطن للمتقاعدين، ومخلّعي الرّكب، والقلوب المتوجّعة، والعيون المشتاقة إلى الأولاد الذين كانوا يلهون هنا، ” وركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان”… ولا نسيان؟.

 ***

(*) اللوحة للفنان حبيب ياغي

Impasse !

Aquarelle  45×35

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *