أمل دنقل… شاعر ظلم مرتين

Views: 215

وفيق غريزي

شاعر جاء بعد جيل الرواد. ظلم مرتين:مرة لانه لم يكن من جيل الرواد، الجيل المحظوظ بكل الشهرة والدراسة والنقد، ومرة ثانية لان اجهزة الاعلام العربية منعت تداوله او نشر قصايده، بحجة انه شاعر ثوري ! وما دامت الاجهزة قد منعت، فان النقاد اثروا “الصمت” وترك هذا المشاغب ونشأته متخوفين من ردة الفعل الرسمية. وبعد رحيله، هبّت الاقلام تكتب المراثي المطولة عن الرجل الذي مات، وتبارى اصحابها في احتفالياتهم وكيل المديح بعيدا عن الموضوعية والعلمية. حتى الذين شتموه حيا بسبب مواقفه الثورية – التمردية، او بسبب صلابته وحدته، راحوا يكتبون المراثي، وفقط لان الجميع بدا يكتب عن شاعر مات، عن شاعر اسمه امل دنقل.

مسيرة محفوفة بالالام

عن فترة الطفولة يقول صديقه الدكتور سلامة ادم: “في الطابق الأخير، في بيت من بيوت قرية “قنا” يسد مدخلا صغيرا يقال له الخان تقيم اسرة صغيرة، سيدة في الثلاثين وثلاثة ابناء، ابن في الثانية عشرة، وابنة في الثامنة، واصغر الابناء طفل في حوالي السادسة من العمر، اما الابن الاكبر فاسمه محمد امل دنقل، ودنقل هو جد العائلة الاكبر، يتبين لنا من ذلك ان الشاعر امل هو اكبر اشقائه، وغرابة الاسم أمل الذي يطلق على الاناث عادة دون الذكور، يرجع لان الابن ولد في ذات العام الذي حصل فيه والده على اجازة عائلية من الازهر، وهو ما اعتبر بشرى للفرح فاسماه امل. ولقد توفي والده وهو في ريعان الشباب وله من الابناء ثلاثة، وكان شاعرا وعالما، وقد ترك لابناءه مكتبة ادبية ودينية مليئة بنفائس الشعر والادب “.

حاولت الام بعد رحيل زوجها ان تكون لاولادها الام والاب معا، وتعوضهم عن تلك العاطفة التي رحلت عنهم فجاة وتركت بغيابها هوة عميقة وشرخا كبيرا، ستتبدى اثاره لدى الشاعر امل عند الكبر، فكان الزمن يعيد نفسه في امل فيموت بمرض السرطان وهو في ريعان عطائه، لتتكرر ماساة الاب – والابن ليصبحا وجهين لعملة واحدة وان اختلفت ظروف وفاة كل منهما. كان امل طفلا جميلا، وسيما، نظيفا، يرتدي احيانا سروالا قصيرا، يميل الى الهدوء والوداعة وربما الى الخجل والحياء. حتى سن العاشرة كان امل يعيش في كنف والده الازهري المعمم، مدرس اللغة العربية والشاعر، ” ولا نكاد نعثر على كتابات تؤرخ لتلك السنوات العشر عدا ما كتبه الشاعر بدر توفيق عام 1969 ولا يذكر الشاعر امل، ونقل شيئا عن تلك الفترة، فترة الطفولة، لا عن علاقته بوالده.

 

ثقافته وهوس المطالعة

خلال مرحلة الدراسة تدرج امل في مراحل التعليم حتى حصل على الشهادة الاعدادية في مدرسة “قفط” وكانت مدرسة جديدة تم انشاؤها في قفط بوصفها من مراكز المحافظة، وكان يذهب الى المدرسة ممتطيا الحمار مرة، ويركب الاتوبيس مرة، او يمشي على قدميه في الكثير من الاحيان، لانه كان يعشق السير على قدميه منذ نعومة اظفاره.

ولم يكن ثمة ما يلهي نفسه به في مجتمع الصعيد المصري من وسائل ترفيه ولعب، فانكب على مكتبة والده يلتهمها التهاما ويقرا اجمل ما ضمته بين دفتيها من دواوين شعرية وكتب ادبية ودينية، وكان يلتقي في الثانوية اصدقاء يحاولون كتابة الشعر ويسيطر عليهم هوس القراءة وتبادل الكتب ومن ضمنهم الدكتور سلامة ادم.

في تلك المرحلة التقى امل دنقل باثنين ممن وجد فيهما ضالته وهما: الشاعر عبد الرحمن الابنودي والقاص يحيي الطاهر عبدالله، فيبدأ شيطان الشعر بالوثوب من انفاسه، ويبدا الصبي الاسمر النحيل بكتابة القصائد العمودية. وعن تلك المرحلة يقول امل: “بداياتي الشعرية كانت سنة  1954 وسني اثنتا عشرة سنة، وعرضت اول قصيدة كتبتها وكانت مهلهلة على مدرس اللغة العربية في المدرسة وكان شاعرا فاخبرني، انني لا اصلح لهذه الصنعة، فسالت احد اصدقائي الازهريين عن كيفية يصير الانسان شاعرًا، فاخبرني بان على ان احفظ الف بيت من الشعر. وفي السنة التالية كنت حافظا لدواوين ابي نواس وابن الرومي والمعري والمعلقات السبع فضلا عن الشوقيا مسرحيات احمد شوقي وعزيز اباظة. ثم كتبت قصيدة جديدة وعرضتها على مدرس اللغة العربية، الذي باركني هذه المرة وفزت في ذلك العام بجائزة المتفوقين وهي رحلة الى بور توفيق في معسكر اعداد القادة حيث القيت قصيدة قناة السويس في حفل اقامه المعسكر وحضره المحافظ الذي هناني “.

 

هجرته من الصعيد الى القاهرة

بعد نيل امل دنقل الشهادة الثانوية تقدم الى كلية الاداب – جامعة القاهرة، وتم قبوله في قسم اللغة العربية، وبدا الشاب امل، ابن الثامنة عشرة الاستعداد للذهاب الى القاهرة، المدينة الكبيرة المزدحمة، حيث فرص النشر وتحقيق الذات، وفي بداية العام الدراسي اي عام 1958، يحجز امل تذكرة في القطار ويذهب برفقة صديقه عبد الرحمن الابنودي وسائر زملائه ممن ساعدتهم ظروفهم على مواصلة الدراسة، وها هو القطار يقترب من العاصمة حلم امل، حيث الناس هنا يهتمون بالشعر اكثر من الناس في صعيد مصر، تبهره الاضواء، والباعة الجوالون، واصوات السيارات وازدحام الاف البشر بين المحطة والارصفة الممتدة. ثم يدخل بيت الطلبة، ويتعرف على الكثير من الوجوه الجديدة، وتكون هناك فرصة لمتابعة الحياة الثقافية داخل الجامعة وخارجها، ويدخل امل في تيه القاهرة الكبيرة، ويضيع وسط هذا التيه، حيث احدث دواوين الشعر، والمعركة على اشدها بين انصار القديم وانصار الجديد، وتفتنه جلبة الشعر، فيمضي وراءها ويكون من نتيجة ذلك الاخفاق في الدراسة، وقضى في الجامعة سنتين فاشلتين، وفي السنة الثالثة يتقدم الى كلية العلوم، ويستمر فيها يوما واحدا فقط.

عام 1960 نشرت له جريدة المساء قصيدة، ثم نشرت له جريدة الاهرام ثلاث قصائد، ثم فاز بجائزة المجلس الاعلى للفنون والاداب للشعراء عام 1962 بقصيدة عمودية. بعد فشله في الدراسة الجامعية اتجه للعمل في مصلحة الجمارك في الاسكندرية في وظيفة مساعد مأمور. وفي احد الايام تعرف على الشاعر احمد عبد المعطي حجازي، وفي السنة ذاتها نال جائزة المجلس الاعلى للفنون والاداب. وخلال الاعوام 1963 و64 و65 انقطع عن الكتابة ” في محاولة أن يلم بالتيارات الفكرية والسياسية والادبية التي كانت تؤجج الحياة الثقافية في مصر والعالمن العربي”.

 تأثر امل دنقل بشعراء كثيرين، ولكن اكثرهم تأثيرا في نفسه كان محمود حسن اسماعيل من جماعة ابولو، وبدر شاكر السياب واحمد عبد المعطي حجازي في بداية تاثره بحركة الشعر الحديث، اما الشاعر الذي احبه كثيرا فهو ت. س. اليوت وكذلك لويس اراغون. يذكر صديقه بدر توفيق ” ان امل وقع في غرام السيدة ( ن. ع ) واندهش جدا او صدم جدا عندما رفض اهل الحبيبة زواج ابنتهم من هذا الشاعر الطويل النحيل العابث الساخر والحزين. وشكل هذا الرفض طعنة في كبريائه، الذي انقلب على الحبيبة نفسها، فيحملها مسوولية تلك الاهانة، وامل يصرح عن الاسباب الكامنة وراء هذا الرفض فيقول:

” قلت لها: يقال عنك وعن هذا الذي باعته نفسه

تباع الشرفا

الاحدب الذي يرى الحياة كيس مال

فانكرت … لكن شحوبها

الرهيب اعترفا

قلت: بنيتي هل تعرفين من نكون … الفقراء نحن

لكن قلوبنا يفيض منه الخصب

والاثرياء هم

لكنما نساوًهم ليست تلد

لانهم لم يعرفوا – بنيتي – عذاب الحب “.

بعد نكسة 1967كتب امل دنقل قصيدة رثا فيها النفس، ووضع عبرهااليد على الجرح الذي طالما اشار اليه وحذر من استفحاله في الجسم العربي:

” ايتها العرافة المقدسة

جيت اليك.. مثخنا بالطعنات والدماء

ازحف في معاطف القفص

وفوق الجثث المكدسة

منكسر السيف

مغبر الجبين والاعضاء “.

 

معاناته بالمرض ووفاته

لم يهدا الولد المشاغب امل دنقل حتى بعد ان تزوج من الصحافية عبلة الرويني في العام 1978، اذ داهمه المرض الذي كان يشعر به ينمو كوحش كاسر في اعماقه، في تلك السنوات التي اصبح امل فيها صعلوك القاهرة الاول ومشاكسها . ” وابتداء من عام 1979 سيكون قدر الشاعر مختلفا، وان لم يفت المرض من كبريائه وصلابته، لقد بقي وفيا لتمرده “، في بداية المرض كان يقضي ايامه في منزله الصغير في القاهرة. وان لم يمنعه ذلك من الاستمرار في الكتابة والنشر والنزول الى الشارع حيث الحياة الحقيقية بالنسبة له.

في عام 1981 وكان المرض قد بدا يشتد على الشاعر امل، نظم اتحاد الكتاب الفلسطينيين في بيروت ملتقى الشقيف الشعري، فسافر امل دنقل رغم احساسه بالوهن ودخول جسده الضعيف في صراع غير متكافىء، والقى قصيدة” الوصايا العشر “، في هذا الملتقى. بعد عودته من لبنان انتقل بسبب المرض الى غرفة صغيرة في الدور السابع من المعهد القومي للاورام. وقضى فيها قرابة عام ونصف العام حتى وفاته العام 1983”.

لقد كان الموت شرسا مع الجسم النحيل، وظل امل يكابر، نهش المرض جسده وظل يكابر، اصيب بالشلل في ايامه الاخيرة وظل يكابر،لم يتصالح مع الموت:

” بين لونين:استقبل الاصدقاء

الذين يرون سريري قبرا

وحياتي.. دهرا

وارى في العيون العميقة

لون الحقيقة

ولون تراب الوطن “.

يتميز شعر امل دنقل بالقسوة والعنف، ربما بسبب البعد والعزلة، والوادي يضيق بحيث اذا رفع بصره بعيدا رأى الصحراء، والصحراء تعطي الاحساس المطلق، وفي المدينة بقي الشاعرشاعرا جماليا او غناءيا لكنه لا يحس بحدة المفارقات بين الكائنات..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *