أربعون سنة على رحيل الشاعر خليل حاوي (1919-1982)… صورة تكبر مع الأيام

Views: 506

سليمان بختي

بعد أربعين سنة على غيابه المفجع لا يزال الشاعر خليل حاوي (1919-1982) حاضرا ناضرا ويزداد حضوره لمعانا كلما بهتت الألوان في حياتنا في لبنان والعالم العربي.

آمن خليل حاوي أن الشعر هو فعل وجود وأنه نقض وإعادة تأسيس فوق كل الركام.

كان يعرف أن المأساة التي يعيشها الإنسان في بلادنا لن ينقذها شيء بل سيظل يجرفها نهر رماد جارف.

كتب “خلني للبحر للريح لموت / ينشر الأكفان زرقا للغريق/ مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق…/ لا البطولات تنجيه ولا ذل الصلاة”.

لا بد إذن من رؤية جديدة للعالم والحياة والروح.

وكان يعرف قساوة المهمة وجدارتها وضرورتها. وكان يقيس كل ذلك بمعيار الصدق. وأنه أمام هذا النفاق وذاك الزيف وذلك الرياء لا بد أن يفعل شيئا. أن يكون الكلام الفعل والقصيدة التي تبني وتعيد والشاعر الذي يريد أن ينقذ أمة.

في قصيدة نشرت له في مجلة “الآداب” عام 1957 كأنه يتنبأ بما سيحل بلبنان الوطن الذي أحب ورفض العرض الذي قدمته له جامعة كامبردج لأنه يريد أن يبني بيته في لبنان وله فيه مواعيد كثيرة. كتب يقول :” وغدا يندك لبنان / وينفى شعب لبنان ويستعطي الشعوب/ غير أن الأعين الصماء لا تحكي وتحكي/ أنت منبوذ غريب/ سوف تستعطي الشعوب”.

 

كانت معالم دربه في الشعر ثقافته الفلسفية والنقدية والفكرية والرموز الحضارية والأساطير التراثية. جمع ثقافته من ينابيع شرقية وغربية ويستشهد بفقرات يحفظها في قلبه. ويدخل الى قاعة المحاضرات في الجامعة بلا ورقة ويخرج مبتسما بخجل من زكاة المعرفة وكرم الروح. هو الذي أعطى في الجامعة اللبنانية سنة كاملة ولم يتقاض قرشا واحدا لأن الجامعة الأميركية منتعه من التعليم في أي جامعة أخرى منها.

وكان هاجسه القصيدة. كيف تدنو أو تجفو؟ وكان دأبه بناء القصيدة بناء معماريا صلبا ومتينا ومتناسقا في آن.

ولطالما اعتبر خليل أن الشعر ينطوي على تحديين : التحدي الأول في مجال الكشف والرؤيا. والتحدي الثاني في مجال الأداء والتعبير وقوة البيان.

ولعل السؤال هو ما هي العناصر االتي جعلت من خليل حاوي غصنا أخضر في الشعر العربي وحدثا مستمرا في تاريخ الشعر العربي الحديث.

1- عرّف خليل حاوي الشعر بأنه “رؤيا تشير الى تجربته وفن نادر على تجسيدهما”. وبقي مؤمنا بهذا التعريف ومتطلبا حتى ولو غالبته غصة الإفصاح ، حتى ولو صار الكلام “ريشة تجوّد التمويه تخفي/ الشح في أقنية العبارة”، وفي هذا كان يصرخ “متى متى تسعفني العبارة”.

تكامل حسه الشعري بحدسه العقلي بحدث المعاناة المتراكمة والمتوالدة فجاء خطابه صورة قلبي لا زيف فيها ولا رياء صورة مثلى تشبه ما أسماه الفيلسوف هيغل(1770-1831)   “الفكرة المثلى”. ولبث نداء الجمر الغض المندى يتردد  في الأرجاء ولا يخبو أبدا . لم يفصل خليل حاوي بين الحداثة والهوية والذاكرة الحضارية. ورأى أن الشعر  ينفذ الى صميم قضايانا في السياسة والاجتماع والتاريخ والثقافة. 

2- صارع خليل حاوي كثيرا وطويلا ولا هوادة على جهات كثيرة ومتداخلة. وفي كل مرة كانت تجبهه الخيبة. تقتله بومة التاريخ تقرع صدره.

صارع المادة والروح. الواقع المثال. صارع الظلم والحرية صراع ممض يحصي عيله أنفاسه. هذا الصراع شق ورق واستبرق حتى أصابه ما عبّر عنه المتنبي” تعبت في مرادها الأجسام”.

 

هكذا حتى إزدوج عليه الذات والموضوع وكانت نهايته احتجاجا على الغزو الإسرائيلي للبنان حزيران 1982 واحتجاجا على الأمة التي لا تنهض من رماده. وكانت تلك الطلقة التي اصطاد فيها نفسه أبلغ قصيدة يكتبها شاعر، قصيدة بالدم، بالموقف.

وقف على زاوية شرفة منزله في رأس بيروت وصرخ في ليل أليل “أنا قرفان من كل شيء” ، وإن بكت والدته العجوز حزنا عليه فقد كتب ” ما هم لو بكت العجوز/ ذبيحة بين الذبائح/ تفتدي جبل الطيوب/ تجلوه من كبد/ تصلب في القلوب”. بعد هذه الشهادة ران صمت رهيب توقف اختلاط الأزمنة في رأس خليل، وما بين الكائن وما سيكون.

سقطت المدينة العربية بيروت في الظلمة والظلام وغاب أمل النهضة وسقط الشاعر- الشاهد- مضرّجا بدمائه وقصائده وكلماته وأشواقه وحنينه. صار البطل الذي بحث عنه طويلا ولم يجده البطل الذي أطفأ نفسه ليضيء نجمة ، لينقذ العالم العربي والحضارة العربية بنقاء الفعل وقوة الأمل. انحنى على هذه الأرض وسمع برهافة صوتها الحقيقي. صوت الظلم العميق الذي طتال زمانه و آن أوان قطافه. 

وأخيرا كم تبدو كلمة المفكر منح الصلح(1927-2014)  حقيقية وثاقبة حين كتب عنه قائلا: ” لست أدري  لماذا يشعر كل الذين عرفوا خليل حاوي عن كثب وأحبوه كشاعر وإنسان، وأنا منهم، أن هذا الرجل ستظل صورته تكبر مع الأيام، وسيتحول أكثر فأكثر الى أحد الألحان الأشد قوة وخصوبة واصالة في المساهمة اللبنانية في الشعر العربي. وربما كان فعل شعره في التراث اللبناني والعربي ووفقا لحلم خليل أشبه بفعل عصر السمفونيات الألمانية الخالدة في إرساء قواعد حضارية حقيقة لأمتها”. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *