أنا مُنحازٌ الى الثّورة

Views: 87

 الدكتور جورج شبلي

طوبى لِمَن يعاني ثورةَ النّفسِ، وقسوةَ الزَّمن، وما تأجيجُ الأولى والإصطبارُ على الثانية، سوى نتيجةٍ لِوفرةٍ في الإِباء، ولنزعةٍ جارفةٍ الى الحرية.

أنا وُلِدتُ منحازاً الى الثورة، ومفطوراً على إيثارِ كرامةِ الحقّ… وهذه كانت عدَّتي التي ما جعلتني أغفو عن مواسمِ المواجهة، تُرسِلُ سراياها في مفاصلي، لأكونَ ذلك ” الأَهوَجَ ” الذي أرادَ والداهُ أن تُطرِقَ له الآذانُ إذا نَطَق.

لقد افترسَتِ الحياةُ حياتي، وهاجمَني صراعٌ مع حقائقِها، جدِّيّاً، وأحاطَت، بي، أصنامُها، من كلِّ صَوب، وجعلَت قرميدَ واقعي ينهار، فتولَّدَت فيَّ حِرفةُ استنشاقِ آياتِ الأيام، للإفادةِ من خالِصِ أَلوانِها، ونَقِيِّ أَسحارِها، من دونِ تَعَثُّر.

المساجلاتُ بيني وبين دسائسِ الدنيا، وإنْ حاكَت ثقلَ الشّكِ فوقَ بالي، لم تخطفْ منّي انتظاري النّور الذي يُزهِقُ سوادَ الزَّمن. ونجحتُ في أن يتصالحَ في سلوكي، المادةُ الخامُ في كياني، وهي العنفوان، والوَعيُ لخزائنِ الحقيقة، لينطبعَ في ذاتي هدفٌ صَعبُ الوَقع: أن أَرميَ صائِباً.

الدنيا هي، دَوماُ، معشوقةُ السُّكنى، ولَو لم نُوَفَّقْ، فيها، بِحَظوَة، أو تُنسَبْ لنا الجوانبُ المضيئة. وإِنْ أَشرنا الى ذَمِّها، وأَسدَلنا عليها أَرديةَ الحديد، لكنّ ليلَها ليسَ، على الدّوامِ، عُرياناً، وديارَها مُمَزَّقَة، ليمنَعنا ذلك من أن يُقَبِّلَ واحدُنا خَدَّ الآخر.

في عمري، طلائعُ السّيوفِ خرجَت من أَقفاصِها، لترسمَ بالبؤسِ النَّعيم، وتُلصِقَ حياتي بالحَضيض، مع كثيرينَ اشتغلوا لجلاءِ الحقّ، لكنّني امتحنتُ نفسي، فأحبَبتُها من دونِ تبرّجات، وانتصرتُ على زحامِ السّلامةِ بالتّواري، وإنْ لم أَمُتْ شهيداً.

إنّ إرثَ المحنةِ التي تَطاولَ عليها البُكاء، لفظَ، حولي، السائلَ الذي يُغذّيهِ الحزن، ليُنبِتَ نفساً مقهورةً في عالَمِ إِطباقِ الشرِّ على الضَّعف، ليصبحَ شراعُها ممزَّقاً في بِركةِ الحياةِ الهائجة، لكنّ التحدّيَ في كياني، لم يستَفِقْ ليُجهَض.

آلمَني ليلُ الوطنِ الطويل، فكأنّني وُلِدتُ وأنا أبكي، سِرّاً. ونهضَ، فيَّ، من طِرازِ العواطفِ ما تَفَجَّرَ من غيرِ مَشَقَّة، فكانَ، كلسانِ الشَّمعةِ لا يخرجُ إلّا من صِدعِ القلب. وهي عاطفةٌ مُطَعَّمةٌ بعروقِ الوطنيّة، لا تخضعُ لالتِواء، وتشكّلُ نزعةً فلسفيةً معقودةً على مبايعةِ الأرضِ، وإنْ كان المُقابِلُ بعضَ أثلامٍ يحفرُها الوجع.

أرادوني قامةً لا تُقطَعُ أَرزاقُ إبداعِها، ومدّدوني، في اختِبارٍ، فوقَ مساحةِ البَشاعة، فصارَتِ الكلمةُ، معي، بَشَراً، لا يقوى، أمامَها، انفلاشُ الأَسوَدِ على مَنعِ الجَمالِ من أن يغفوَ على راحتَيها… وهكذا، ترسَّخت العلاقةُ بين مِحبرتي وسَكراتِ التَّصوير، فلم يَعُدْ لأَيِّ حجّةٍ قدرةٌ على الفَكاك.

مولدي لم يحلّ مِئزِرَ لسانِهِ إلّا للمحبّة، فالمحبّةُ، وحدَها، أمسكَت رَمَقَه في الدّنيا…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *