لونا قصير: في روايتها الجديدة “أخطاء وخطايا”(١)

Views: 55

جان توما

قيل: الرسالة تُقرأ من عنوانها، لكن رواية لونا قصير الجديدة ” أخطاء وخطايا”، نقرأها ليس من عنوانها الرئيس فحسب، بل من عناوينها الفرعيّة التي تنساب كالجداول لتصبّ في بحر توبة من أخطاء وخطايا. أتأمل العناوين الثانويّة، فأرى أنّها لم توضع صدفة، بل سعت الروائيّة إلى أن تختصر في كلّ عنوان مسرى حياة رواية.

إنّ الأهمية التي يحظى بها العنوان تأتي من اعتباره مفتاحا في التعامل مع النص في بُعْدَيه الدلاليّ والرمزيّ، بحيث لا يمكن أيّ قارىء أن يلج عوالم النص أو الكتاب وتفكيك بنياته التركيبيّة والدلاليّة، واستكشاف مدلولاته ومقاصده التداوليّة من دون امتلاك المفتاح أي العنوان، ثمّ إنّ القارىء أوّل ما يواجه، فإنّه يواجه العنوان، ومن ثمّ فإنّه إذا توجّه إلى داخل النصّ لا بدّ أن تعلق في ذهنه إيماءات العنوان والعناوين الفرعيّة ورموزها، ويقوم بربط هذا، بما يلاقيه أثناء عملية قراءة النص. 

يمثّل العنوان الواجهة الأساسيّة للنصّ، لذا يملك سلطة إعلاميّة، فهو إذ ذاك يلقي بظلال سلطته على القارىء من خلال أهمية العنوان، ومستوى التحفيز الذي يلقيه على القارىء لاحتواء النص وفكّ مغاليقه، وهو بذلك الجزء الدال من النصّ، وهذا ما يؤهّله للكشف عن طبيعة النصّ والمساهمة في فكّ غموضه، كما أنّ أهميته تكمن في كون وجه النص مصغرّا على صفحة الغلاف، وفي فهرس المحتويات.

 

تمارس لونا قصير لعبة الشعارات الإعلانية، بوجهيها، البلاغيّ والإبلاغي، فـ” بيروت حزينة حتى الموت”، “لقد أصبح الموت سيّد الحياة”، لذا “العالم يفتقد إلى المحبة”. من هنا “أن تكون حيًّا ميتا أشدّ ألما من الموت”، لأنّ “مع كلّ رحيل، يموت جزء منا ويتلاشى، فـ “الحياة تعشق المغامرات الجديدة، والملل يقتلها، ونحن البشر أولادها”، ولكن صحيح أن ” بيروت تهدّمت… لكن مهما ارتفعت ألسنة النار، لن تستطيع أن تطال عرش عدالة السماء”.

هذا نصّ نثريّ مصوغ من عناوين الرواية الداخليّة، أمام مفاصل انفجار 4 آب. يطرح الانفجار القاتل قصيدة وجع في أحداث الرواية ليعبر إلى مراثي الحبّ وبالخروج لمواقف إنسانيّة نابعة من قلم مرهف وأسلوب الرشق الحراريّ القلبيّ، فـ “إن أبحرت في سفينة الحب، وأصبت بدوار البحر، لا تَلُم أمواجه”، إذ لا نستطيع أن نغيّر الأسباب، لكنها مع مرور الزمن تغيّرنا”، فـ “عندما يصبح المستقبل هو فقط حلم ماض لم يتحقق، تنتهي الحياة”.

تحمل لونا قصير تلاوين مظاهر حياتها ومفاصلها، تلقها عند الآخرين، تذهب إلى نبع الحرزن، تملأ جرتها من حكايا المتجمّعين العطاشى هناك فتسقي صفحات رواياتها كما الجرح، ” جرح رحيل الأم مستحيل أن يندمل مع مرور السنين”، فـ “الأم تحمي دائما أولادها، حتى لو أصبحت في دنيا الحقّ”. لقد “أصبح الموت خبرًا عاديًّا، و”الكلام لا يبلسم جروحات الذاكرة”، فـ “لا تترك أبواب الحزن مشرّعة له، أغلقه”، و”لا تسمح لنسمات الهواء العابرة أن تحطم قلبك”، إذ “لن تقع النجوم لمؤاساتنا، لكننا لو حدّقنا إليها، سنفهم لماذا امتلأت السماء بها”.

لقد استطاعت لونا قصير أن تحوّل كلّ عنوان فرعيّ في الرواية إلى عنوان رواية مستقلّ. صار العنوان هو الرسالة، الوجهة والمضمون. لا تؤمن لونا قصير بنظرية الناقد رولان بارت موت المؤلف بعد إخراج نصّه. لعلّ لونا قصير تصيره، تتلبّسه، توحّد قلمها بقلب القارىء، تلغي فعل نظرية القارىء يصبح كاتبا، بمعنى أنّ الرواية كعمل فنّي بمجرد صدورها تصبح مستقلّة عن كاتبها، وملكا للقارىء، وعلى القارىء اكتشاف المعنى. لونا قصير تعرف “كم من أسرار بقيت سجينة خلف جدران الصمت والخذلان”، وتعرف أنّ  ” للنوافذ عيون، تحدّق في ظلمة الليل إلى النوافذ المضيئة، لكلّ منها حكاية إلّا نافذتها”، لذا تمسك بيد القارىء، تدخله معمودية النصّ، تلقّنه وجع الذاكرة لتدخل معه إلى ملكوت النسيان، تعرف أنّه “لا تموت ذكريات الأمكنة، وإن تهدّمت”، على الرغم من أنّ “العالم ليس بخير”، “إذ نحن شبه أموات، لا تعلم متى يحين دورنا، دعونا نموت سعداء”، فـ ” الحياة لا تحب الحزن والألم، وهي تحبّ من يحبّها، وتكره الضعف والاستسلام”.

تؤمن لونا قصير أنّ “الألوان الزاهية تليق بها”، كما ” اللون الزّهريّ يليق بك”، فالأشياء الصغيرة هي الملجأ الآمن، والبلد المفقود، والأرض العطشى لأبنائها، إذ” يبقى الوطن، عندها، هو الحاضن الأول والأخير”.

***

١- عن دار فواصل للنشر. بيروت، الطبعة الاولى، ٢٠٢٣. مداخلة في حفل التوقيع في مقرّ رابطة الجامعيين الشمال بطرابلس، مساء الاثنين ٢٤ تموز ٢٠٢٤. Xanax

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *