شوقي أبي شقرا خيّاط نبيل عندَ حياكة الجسد الأنثويّ

Views: 797

د. رفيق أبو غوش

شغلت المرأة في شعر شوقي أبي شقرا حيّزًا واسعًا، فهي القصيدة، تأتي مهفهفة، طازجة، ومتوّجة على عرش الكلمات، تمشي في الأرض، ورأسها دائمًا في السّماء، هي نعمة الخالق، وروح الفرح النّابض بكل ما فيها من حبٍّ وأمل.

   لقد جاء الشّاعر إلى القصيدة من بوّابة الطّفولة، وبساط الطّبيعة الخضراء في بلدته الشّوفيّة. ولشدّة ولعه بها، راح يحلّقُ بخياله بعيدًا إلى عالم الحلم، فكانت أعراس الرّيف ونقاوة السّهول مهمازًا للكتابة والتّعبير عمّا يندلع بداخله من أفكارٍ ورؤى وصورٍ يلوّنها بغرابةٍ وغموض، ويعبرُ بها أبراج اللغة القديمة ليشيدَ مكانها لغته التي يحاول خلقها كما يحلو له.

   هذا الخيال دفعهُ إلى مخاتلة الواقع، وتعرية الكلمة كي تصبحَ راعية وإقحوانة في السّهول. فالخيال حجر الزّاوية في بنائه الفنّي، والحصان الجّامح في مضمار اللغة، يلعب ويلعب ويجنح بلا ضوابط، يبتعد ويهرب كي لا يلحقهُ أحد.

   ” وأدعُ خيالي يلعب وخيالي

    ليزداد الاختلاف والابتعاد

   ولي منزلي المختّصّ بالاغتراب

   ولي التّلة العاشّقة”([1]).

 

فتاةٌ خارجة من تنّور الإبداع

   والشّاعر صاحبُ صنعةٍ شعريّة خاصّة، ونحّاتٌ يُعملُ إزميله في جسد القصيدة، كي تأتي متفرّدة خالصة. وهو يقول كلمته فيها، ولا يخشى أن تتعرّى أو تُدنّسْ. يزيّن القصيدة بالمساحيق، ويرشّ عليها من ذوقه الفنّيّ، وأداته، خيال خصب جامح حتى لتبدو فتاةً خارجة لتوّها من تنّور الإبداع، وتمتنع عليه لأنّها منهمكة في الماكياج، وسابحة في سماءٍ بعيدة.

    ” طلبنا من القصيدة بجمال

     ساقيها، وبهاء معدتها وأملس بطنها

     أن تاتي مقليّةً أو مشويّةٍ

     فلم تأتِ لأنها منهمكة في

     الماكياج”([2]).

   إنه يُسقط جمالات المرأة على جسد القصيدة، ويحدّد مواصفات الجمال ومعاييره الحسّية، ويمزج بين القصيدتين (المرأة والقصيدة) في تداعياتٍ طيّارة، ومفتوحة كما دروب الطّبيعة وفضاءات الحلم.

   السّعادة عنده امرأةٌ يأخذها من خصرها وأصابعها ومن جسدها النّحيل، فتجتمع عنده معايير الجمال، ومواصفاته، فإذا هي: النحول، والدّقة، والتّخفف من كل ما هو ثقيلٌ وسمين في الجسد، كما في القصيدة، مسقطًا عنها كل الزوائد لتظهر صافية، نقيّة نحيلة كطيفٍ عابر، محدّدًا شروط العبور إلى القصيدة الجميلة وإلى المرأة معًا.

   ” آخذٌ السّعادة من إصبعها

    مسرعًا شرهًا إلى خصرها

    إلى جسد النّحول والدّقة،

    إذا افترسته المبراة”([3]).

 

خيّاطٌ ماهر

   وهو خيّاطٌ ماهر في حبكِ الكلمات، ونبيلٌ في تناولِ الجسد الأنثوي، يتحفّظ في تناوله، ولا يصوّب عليه بالجرأة عينها التي تناوله بها شعراء آخرون، ، إنما يتسلّل بخفّةٍ بين الحين والآخر ليَذكرهُ بعبارات الحبّ والشّوق والرّغبة. فهو لم يتبتّل، ولم يصل حدّ ارتكاب المعصية، فظلّ معناه نقيًّا، متحفّظًا، وصورته صافية قادمة من بساطة الرّيف، وجمال القرية، ونقاوة الطّبيعة. وتبقى المرأة المشتهاة بعيدة، تطلّ من الكوّة من دون أن يظهر ثدياها، ولا صمغ الحليب. فالشّاعر موزّعٌ بين الواقع والمثال، يعيش أجواء يختلط فيها الشّعور باللاشعور، ويوحي بملامح تتوزّع بين الإبانة والخفاء، وهلوساتٍ بسيطة تقوده إلى فوضى شعوريّة. فالحبّ عنده لم تنهدم جدرانه، ولا استُبيحتْ فضاءاته، إنّما بقي مُصانًا يسبح في أجواء الدّعة والمثال، شبيهًا بأجواء القرية الخالية من الشّوائب.

   ” المرأة المشتهاة

    تطلُّ من الكوّة

    ولا يظهر ثدياها

    ولا صمغ الحليب

    أغمزُ القدر لئلا ينام بعيدًا

    عن القرية، عن البحر”([4]).

 

بين التّعفّف والانغماس

   لقد ظلَّ الشّاعر ينشد المثّال في المرأة، يهبط أحيانًا إلى ما بين الخّصر والسّاقين، ثمّ يرتفع إلى أعلى من جديد؛ فلا هو عبَّ من الشّهوة الحمراء في هبوطه، ولا قاربَ الإثم في ارتفاعه، ولم يصلّ إلى الأعماق في مقاربة نفسيّة المرأة، ولا نعتها بأوصافٍ ناتئة، إنّما بقي على مسافةٍ واحدة بين التّعفّف والانغماس، يشير من بعيد إلى حالات الحبّ المتواترة، فموقدته من طين، وجرحه معتادٌ على نثر التّراب والبّن حتّى يستعر اللّهب فيه.

   ” والحبّ لا يخبو

      لا يسكنني القصر والرّماة

      بل الجّواري والرّغبات يتمايلن لي

      واللهب أقوى منهن

      متى دلقتَ الماء

      متى نثرت التّراب والبّن

      على جرحي

      وموقدتي من الطّين مثلي”([5]).

   إنه يغطّي شهوته بالقناع الأسود تعفّفًا كي لا يظهر ضعفهُ أمام رغباته، فلا هو قادرٌ على كبتها، ولا هو قادرٌ على التّصريح بها فيقول:

   ” وكنت روّضتها في إناء الكيمياء

     وغطّيتُ الشّهوة بالقناع الأسود”([6]).

    ويتوجّه في مخاطبة المرأة إلى أبعد من تصوير اللذّة، وإن كان يعبر طريقها أحيانًا كثيرة، ولكنْ بحذر، فتغيبُ اللذّة الجسدية عن معظم شعره، وتغيب معها الغريزة ولهب الشّوق، فيراها وكأنّها الـ” كن” في لحظة التّكوين. يرتمي القمر على فخذيها وهو في حال مناجاةٍ معها، حتّى إذا ما تكسّرَ الضّوءُ على الشّراشف اعتصم بالرّهبة، وطلب النّظر إليها من بعيد. إنّه قبسٌ من الحبّ العذريّ يشربه حتّى الثّمالة، وهو لا يشكّل غايةً في ذاته، إنّما يستحيل صلاةً في وعيّ الشّاعر كأنْ يحسُّ به ولا يراه.

   ” أعيرينا الطّبق سيّدتي كاروبينا

     أنت الكاف لطف الشّجرة

     أنت النّون، دارة النّقطة والفراغ

     أنت الياء، حرف الثّمالة

     أحسبينا القمر يرتمي مجانًا على فخذيكِ

إرحمينا

     لك المصعد النّظيف، وإن تكسّر الضّوء والشّراشف

     وافترسكِ رسول الفضاء

     نتقدّم إلى رهبة المذبح

     نتفرّج عليك… دعينا”([7]).

 

روحانيّ، ببصيرة نفّاذة

   إنه يصعّد في دروب الصّوفيين السّالكين في صلاتهم واشتياقهم، فيحسم حضوره الشّعريّ المحيّر، ويخربط في الأمور، ولا يستوي على مسارٍ واحد. مدهشٌ هو، متوغّلٌ في عالمه، يجانب التّصوف الذي نعرفه، ويؤسّس لتصوّفٍ آخر؛ روحانيّ، ببصيرة نفّاذة، ومخيّلةٍ مضغوطة تحيلُ إلى حال القلق وتفكّك القيم والخوف من الآتي.

    ” دائمًا أخربط الأمر والكؤوس

    دائمًا آخذ القصبة

    لأعزف من أفكاري، من الأنين”([8]).

   هكذا في فضاءاته الفالتة يمزج تراتيله بصلاةٍ خافتة يتحايل من خلالها على الحياة، ويتطلّع إلى فضاءٍ مفارقٍ عامرٍ بالنّقاء وصفاء المعنى، يحلم بالخلود حيث العتمة تلفّهُ ولا يفنى، ثم يتعالى على موته ويصعد إلى السّماء خالدًا مع القدّيسين.

    ” وهل تلفّني العتمة

    ولا أفنى”([9]).

   ويحلم بالوحدة، وبملكوت السّماء حيث الكّل على مائدة الرّب بالتساوي، فلا يسأل أحدٌ مَن الزّارع، ومَن كاهن الأرض في تراتيل صوفية صاعدة من مجمرة المعاناة.

    ” وأسكن البيدر الحكيم

      ويأتي العرس إلى مدينتي

     ونحبّ القمح كلّنا

     ولا نسأل مَنْ الزارع

     ومَنْ كاهن الأرض”([10]).

 

***

   هذا هو شوقي أبي شقرا في سياحاته الصّوفيّة، وحضوره المشّع. فالصّلاة والاشتياق نزوعٌ دائم، وتوقٌ مستمرّ إلى دنيا النّقاء، دنيا القصيدة النّبيلة، والمرأة المثال. تراه يهمُّ بالقول ولا يقول، يبدّل ويدور، لكنّهُ يحافظُ على نكهته الخاصّة. إنّهُ بارعٌ في صنع النتوءات الفنّية، ومتفلّتٌ من القيود، ومباغتٌ في إقامةِ علاقات غريبة بين الكلمات، ومزاجيٌّ حتّى الثّمالة.

***

[1]– شوقي أبي شقرا: تتساقط الثّمار وليس الورقة، ص 79.

[2]– شوقي أبي شقرا:المصدر نفسه، ص 181.

[3]– شوقي أبي شقرا: تتساقط الثمار وليس الورقة، المصدر نفسه، ص 140.

[4]– شوقي أبي شقرا: صلاة الاشتياق على سريرالوحدة، ص 62.

[5]– صلاة الاشتياق: المصدر نفسه، ص 258.

[6]– شوقي أبي شقرا: ثياب سهرة الواحة والعشبة، ص 58.

[7]– شوقي أبي شقرا: صلاة الاشتياق على سرير الوحدة: المصدر نفسه، ص 139-140.

[8]– المصدر نفسه، ص 243.

[9]– المصدر نفسه، ص 41.

[10]– صلاة الاشتياق: المصدر نفسه، ص ن.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *