من “العَبّارة” إلى ” الِعبارة”

Views: 183

د. جان توما

هذا كتابٌ يتحدّثُ عن نفسِهِ بِنَفْسِهِ، ولنا، بالتالي،  في هذهِ الأمسيَّةِ أن نتحدّث عن الكتابِ النجيب الإبراهيميّ الشاهينيّ  الخرنوبيِّ النازلِ من ضنّيةِ الشمالِ إلى “البلدِ” ليستقرَّ في بلدةِ شكا، مَنْ رَسَمَ خُطواتِهِ؟ ومَنْ حَمَّلَهُ زوادةَ الطريقِ وقالَ له: امضِ؟ كأنَّهُ كانَ السؤال َالأساسَ في حياةِ الأبِ إبراهيم شاهين مُنْذُ أنْ دَرَجَ من سهولِ الضنيةِ إلى سهلِ طرابلسَ، فبحرِ الميناء وشاطىء شكا. غريبٌ كيفَ تعملُ بوصلةُ السيّدِ في توجيهِ المصائرِ برفقةِ دربٍ، فتحوّلُ شابًا من قاطفِ الزيتونِ، سمكِ البرِّ، إلى صيادٍ لسَمَكِ البحرِ، فراعٍ لاصطيادِ الناس!.

لم ألتَقِهِ يومًا إلّا وكانَ الكتابُ ثالثَنا، فكرًّا، أبجديًّة، وشيئًا من الشِّعر، وقليلًا من  العزفِ على القانون. هكذا كانَ شغوفًا بالعلمِ، ساعيًا إلى الاستزادةِ في المعرفةِ والتبحّرِ في الثقافةِ والحقوق. طَالَعَ في المجتمعِ مشاكلَ تعقيدَاتِ الحياةِ، ورأى البيئةَ تنزاحُ عن البساطةِ والقناعةِ، وأنَّ الإنسانَ ذاهبٌ إلى وجعِ الرأس، فرأى في دراسةِ القانونِ مُهَدِّئاتِ لجنونِ الناس، قبل أنْ يَصِلَ اليومَ إلى العالمِ المجنونِ بكاملِهِ، ففي كلِّ لحظةٍ يُبَدِّلُ المجتمعُ هُويَّتَهُ ويَغْرَقُ في أقنعتِهِ. أدْرَكَ الأبُ إبراهيم ، بحكمتِهِ ودرايتِهِ، أنَّ الزَّمَنَ الذي نعيشُهُ هو زَمَنُ كَثْرَةِ الأقنعةِ وِنَدْرَةِ الوجوه.

 

تزامَلْنا في التعليمِ في المدرسةِ/ الأمانةِ مار إلياس، ِوَتَوَغَّلْنَا في تاريخِ تأسيسِها، فَوَقَعْنِا على الفهمِ المتجدّدِ لمفهومِ المؤسسةِ في الكنيسةِ، بين الهويّةِ والشهادةِ، والرؤية التي رَسَمَهَا الأجدادُ والآباءُ حين خططوا ببساطتِهِم رسالةَ الوقفِ لتجذّرِ أبنائهم في الأرضِ والترابِ والكنيسةِ المحلّيةِ. دَرَسَ الأبُ إبراهيم المؤسساتِ الرائدةِ المختلفةِ في طرابلسَ والجوار، فشرحَ وحلّلَ وقارنَ ليؤكِّدَ حكمةَ السابقينَ في ما تركوه في طرابلسَ والجوارِ من مؤسساتٍ شهادةٍ حضاريّةٍ لقيامِ المجتمعاتِ تعاضدًا وتكافلًا وتعاونًا، كما في طرابلسَ أيضًا وبكفتينَ والبلمندِ وأميونَ وغيرِها، فكانَ تَبيانُ الموروثِ همَّهُ، وصونُ التراثِ دأبَهُ.

هذا الهمُّ الكبيرُ عندَ الأبِ إبراهيم تجلّى في رَغْبَتِهِ بأنْ يَرَى إقبالَ أبناءِ الكنيسةِ على طلبِ العلمِ المُتْقَنِ أمرًا بديهيًّا، وأنْ يستكملَ أبناءُ الرعايا علومَهُم، وأنْ لا يكتفوا بمستوى فكريٍّ مَحدودِ، لأنَّ السيّدَ دَعَانا إلى الإتقانِ والإبداعِ في اختصاصاتِنَا ليَرى الناسُ مَجْدَهُ، وبِهِ يَتَباركونْ.

مِنْ هُنا، وفي صبيحةِ الجمعةِ 20 أيلول 2019،  كنا في اليونان، يمضي بنا المركبُ إلى جزيرةِ إيينا، جزيرةِ القديسِ نيكتاريوس، كانَ حديثٌ مع الأبِ إبراهيم حول استكمالِ دراسةِ الدكتوراه في موضوعٍ عن طرابلسَ والجوارِ بين أعوام 1850 و1920، وهو عنوانٌ يَعني كثيرًا إدارةَ جامعةِ الجنان للحفاظِ على الموروثِ والتراثِ، وأنقل لكم هنا تحيّات عميد كلّية الآداب الدكتور هاشم الأيوبيّ الذي اعتذر عن عدم الحضور لحلول شهر رمضان المبارك ، فتوافَقنا بعد أنْ أَكْمَلْنَا حَدِيثَنا في طريقِنَا إلى جبل آثوس، فَتَمَّتْ مقولةُ الأبِ إبراهيم في التكاملِ بينَ الرعايةِ والاستزادة ِفي العلومِ وتمَّ لاحقًا ما كُتِبَ: من “العَبّارةِ” إلى “العِبارةِ”، فالعَبّارةُ التي طَافَتْ بِنَا بين جبلَينِ مقدَّسَيْنِ نَقَلَتِ الأبَ إبراهيم إلى “العِبارةِ” البحثيّةِ لغةً وتقميشًا وتأليفًا.هذه العَبّارةُ التي حَمَلَتْنَا إلى أبجديّةِ الروحِ قَادَتِ الأبَ إبراهيم إلى العِبارةِ، إلى أبجديّةِ الحروف، فكانَتْ أطروحتُهُ في هذه المنطقةِ التي كَرَجَ فيها وَوُلِدَ وَنَشَأَ، وكانَ كاهنًا للعليّ، وراعيًا. عَرَفَ الأبُ إبراهيم هذه المِنطقة، ببشرِهَا وحَجَرِهَا، عاينَ وجوهًا كثيرةً لكنّه لَمْ يَبْحَث إلاّ عن وَجْهٍ واحدٍ، وَجْهِ السيّدِ الذي يعيشُ بينَ أَحِبَّتِهِ في طرابلسَ والجوارِ، فكانَ شاهدًا، بهدوئِهِ، لَهُ، ناصحًا، مرشدًا، أمينًا على القليلِ، فَأَقَامَهُ الربُّ أمينًا على الكثير.

رَاحَ الأبُ إبراهيم إلى أمّهاتِ الكتبِ التي كُتِبَتْ في طرابلسَ والجوار، أَسَّسَ مكتبةً ثريّةً في عقلِهِ وقلبِهِ، كَتَبَ على الورقِ أفكارَهُ، دَوَّنَ ما التَقَطَهٌ هنا وثمَّ، نَسَّقَ، رَتَّبَ، مُستذكرًا ما جاءَ في تعليمِ الرسلِ الإثني عَشَرَ: كما تجتمعُ حَبَّاتُ الحنطةِ مِنْ مختلَفِ السهولِ لتصنعَ رغيفًا، كذلك عليه أنْ يَفْعَلَ، أنْ يَخْرُجَ إلى مضامينِ الكتبِ، يَجْمَعُ ما وَرَدَ فيها من أفكارٍ، يَطْحَنُهَا على بيدرِ إيمانِهِ وَعِلْمِهِ، لتأتيَ أطروحَتُهُ واحدةَ المرامي، نبيلةَ الهدفِ، شاهدةً لما عايَنَهُ في حياتِهِ، في القادومياتِ، والجلولِ، والحقولِ ، والنهرِ ، والبحرِ وشاطىءِ شكا، فإنْ قَرَأْتَ كِتَابَهُ سَتقَعَ على سِيرتِهِ الذاتيِّةِ، وما صَوَّرَتْهُ عَدَسَتَا عيناهُ، وَأَنْتَ غارقٌ في قراءةِ السِيَرِ الغيريّةِ التي صَنَّفَهَا وَأَسْهَمَتْ في تأسيسِ وتطويرِ قُدُرَاتِ طرابلسَ والجوار.

 

هذا كتابٌ يُضافُ إلى مجموعةِ كًتُبٍ في موضوعاتٍ دينيّةٍ وقانونيّةٍ خَطَّهَا مَشَّاءٌ نَزَلَ مِنْ قريةِ الخرنوبِ إلى طرابلسَ، مُلَمّلِمًا بـ”قنبازه” حكايات المدينةِ، فَدَوَّنَ قصيدةَ حبٍّ في من رَزَقَهُ موهبةَ الكتابةِ، عاملًا بالوزناتِ التي أعطاهُ إياهَا السيّدُ، فكانَتْ له أَجرًا وبركةً نازلةً من فوقُ، من لدنِ أبي الأنوار، وهذا تاريخُهُ وحبُّهُ وَمَسْعاهُ وَفَرَحَهٌ.

إنْ كَتَبَ الأبُ إبراهيم، فلأنّكم كنتُم أنْتُمْ مِحبَرَتَهُ ومكانَ لقائِهِ بسيّدِهِ، بخدْمَتِهِ لكُم، وهذا مَطلَبُهُ وهَوَاهُ، أنْ يَصْرِفَكُم مِنْ وَجْهِ كتابِهِ إلى وَجْهِ رَبِّهِ ، ومن تاريخِ مدينتِهِ والجوارِ إلى حضْرَتِهِ الإلهيّةِ لتَحْيَوا.

والسلام.

———

*في الحفل التكريميّ للأب الدكتور إبراهيم شاهين لمناسبة مرور ٥٠ عامًا على سيامته كاهنًا، وتخلّله توقيع كتابه حول” الحركة العلميّة والثقافيّة والحضاريّة في منطقة طرابلس والجوار”، من أطروحته للدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة الجنان – طرابلس الذي أصدرته مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق  الثقافيّة، مساء الجمعة ٢٩ آذار ٢٠٢٤.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *