الثورة الناطقة… من الحراك الصامت إلى التعبير والإنشاء!

Views: 720

د. مشير عون

(الثلاثاء 22 تشرين الأوّل 2019)

في كلّ ثورة مراحلُ وأطوارٌ وسبُلُ تعبير. في الطور الأوّل نزل معظم الشعب اللبنانيّ إلى الشارع يطالب الحكومةبالمحاسبة الصارمة،وبالعدالة الاجتماعيّة، وبالتغيير البنيويّ. في الطور الثاني، بدأت التجمّعات الشعبيّة في المناطق تدرك خطورة الأوضاع، فتسعى إلى استيضاح المشهد الثورويّ الغضبيّ. أمّا في الطور الثالث، فينبغي أن يجرؤ الناسُ على خطوتين. الأولى يخطونها حين ينتدبون في كلّ تجمّع شعبيّ وفي كلّ مدينة ثائرة وحيّ ثائر بضعةً من المستنيرين يثقون بهم لكي يلتئموا في محفل ثورويّ هادئ يتباحثون في الرؤية التغييريّة الشاملة، وفي الإستراتيجيا الأوسع، وفي الخطّة العمليّة الميدانيّة، وفي الاستعداد للتفاوض مع السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة والأمنيّة القائمة حتّى الآن. الخطوة الثانية يخطوها الناس حين يرفعون في ساحات التجمّع الشعبيّ أسماء الوزيرات والوزراء الذين يمكن الوثوق بهم للنهوض بمسؤوليّة الحكومة الانتقاليّة.

من غير هاتين الخطوتين تسقط الثورة في مجاهل التمييع، ودهاليز الاستغلال، ووديان التلاعب. فالثورة، إذا ظلّت على غضبها الشعبيّ العفويّ الأوّل، صانت نفسَها من السياسة ومن تحدّيات المسؤوليّات، ولكنّها ابتُليت بالعقم والإخفاق والاختناق. والثورة، إذا انتظمت واتّسقت وأفصحت عن رؤيتها الشاملة وخطّتها العمليّة، أخضعت نفسَها لامتحان العمل السياسيّ، ولكنّها أنقذت روحَها وقيَمها ومطالبَها من السيلان والتزييف والتشويه. 

في هاتين الخطوتين تخضع الثورة اللبنانيّة لأقسى ألوان الامتحان. فإذا تبيّن أنّ اللبنانيّين المحتشدين في الساحات الاعتراضيّة لا يستطيعون أن يتناقشوا تناقشًا حرًّا راقيًا بنّاءً، من بعد أن يُنشئوا مجلس مندوبيهم الثورويّ من مختلف المناطق أو مؤتمر الثورة اللبنانيّ، ومن بعد أن يفرزوا بضعةً من الأسماء لتأليف الحكومة تأليفًا استثنائيًّا، فذلك يعني أنّ هذه الثورة لا تحمل فيها حسّ المسؤوليّة،ولا طاقات النهوض، ولا نضج الاختبار الإصلاحيّ. واليقين أنّ في التجمّعات الشعبيّة طاقاتٍ هائلة من الفهم والتبصّر والاستنارة والحكمة والعزم.

لا يجوز للناس أن تظلّ في بوح دائم لمآسيها. فالبوح بالمآسي، إذا ما طال أمدُه، يصيب النفس اللبنانيّة بالإحباط. فلتُصغِ الثورة إلى آلام الناس، وقد أصغت. ولتهبّ هبّةً واحدةً من أجل إنجاز هاتين الخطوتين. ومن بعد ذلك، يمكن الناس أن تنزل إلى الشارع في كلّ أسبوع وفي كلّ منعطف تشعر فيه أنّ مجلس مندوبي الثورة متعثّرٌ في مفاوضة السلطات وفي تأليف الحكومة. 

الحكمة الواقعيّة يمكنها أن تؤيّد العنفوان الثورويّ لتبيّن له أنّ آخر الشهر على الأبواب، وأنّ العين على الضروريّات الحياتيّة للأسر. فإذا ظلّ البلدُ متقطّع الأوصال، والمرافق مشلولة، والإدارات معطّلة، لا يمكن الثوّار أن يستمرّوا في الثورة. حسُّ المسؤوليّة والواقعيّة هو ضمان نجاح الثورة. ولذلك قلتُ بالتعبير والإنشاء، وقد استعرتُ العبارة من برنامج التنشئة الدراسيّة التي تلقّن الأطفال القدرة على الإفصاح الجريء عن مكنوناتهم وهمومهم وطموحاتهم ومشاريعهم. والثورة تحتاج اليوم إلى مثل هذا الإفصاح!

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *