الكرنفال

Views: 590

د.عبد الله إبراهيم

ألهمتْ كرنفالات القرون الوسطى، وعصر النهضة، الناقد الروسيّ “باختين” رغبة أصيلة للبحث فيها بوصفها أحد الأصول المهمّة للرواية الحديثة، وحيثما يدور الحديث عن المهرجانات الشعبيّة، فلا يُمكن إغفال دَوره في التأسيس للمفهوم، وبخاصّة في دراستَيه الرائدتَين عن رابليه ودوستويفسكي؛ فالكرنفال هو المجموع الكلّي لمختلف أشكال الطقوس الاحتفاليّة العامّة، وهو مهرجانٌ طقوسيّ استنبط لغته من الأشكال الرمزيّة الحسيّة الملموسة بدايةً بالأفعال التمثيليّة وصولاً إلى الإيماءات الفرديّة. وبهذه اللّغة التي لا يكاد يكون فيها للكلام موقع جدير بالذكر، عبَّر الكرنفال عن المعاني الخاصّة به، ويتعذَّر ترجمة هذه اللّغة إلى لغة لفظيّة، ويستحيل تحويلها إلى مفاهيم تجريديّة، فهي صور متحوّلة متّصلة بأحاسيس الناس ومَشاعرهم، ولكنْ بالإمكان تحويلها إلى لغة أدبيّة باعتبار المجاز المُشترَك للتعبير في ما بينهما.

يخلو الكرنفال من التمثيل المسرحي بأصوله المعروفة، أي لا يتوافر فيه جمهور يُشاهد ويصغي، ومؤدّون يقومون بأفعالٍ تمثيليّة مكتوبة، فكلّ فرد فيه عنصر مُشارِك، وله الحريّة في أن يفعل ما يحلو له داخل مجتمع الكرنفال، والمشاركون يعيشون فيه، ويحيون بقوانينه، وما دامت تلك القوانين فاعِلة، فهذا معناه أنّهم يحيون حياة كرنفاليّة متداخلة تتقصَّد قلب المعاني، وتغيير مَواقع الأشخاص، وتتلاعب بكلّ ما تراه قابلاً للتلاعب، حيث يجري تعليق مفعول قوانين الضبط الاجتماعي، وتُنتهك الأعراف السارية في الحياة الاعتياديّة. وأوّل ما يتم تعليقه، البنية التراتبيّة في المجتمع، وهتك أشكال الرهبة، والتبجيل، والتقوى، أي إلغاء كلّ ما يحول دون المساوة بين الأفراد داخل الكرنفال، فتُلغى المسافات الفاصلة بينهم، ويحلّ الاتّصال الحميم بين الجميع. فالناس، في حياتهم العاديّة، غالباً ما يكونون منفصلين بحواجز تراتبيّة: طبقيّة، أو دينيّة، أو ثقافيّة، أو سياسيّة، ولكنّهم ينتهكونها دفعة واحدة ما أن يدخلوا ساحة الكرنفال، حيث لا رقيب عليهم، فتُباح الأفعال الجريئة، والإيماءات البذيئة؛ فلغة الكرنفال قوامها التعبير الحَرَكيّ للمُحتفلين، إنّه المكان المناسب لخلع الوقار، وازدراء الرصانة، والأخذ بعلاقاتٍ بديلة تقوم على التواصل المباشر بعيداً عن الأعراف الاجتماعيّة.

أَفرزت الكرنفالات الوسطيّة أفعالاً غرائبيّة، ومَشاهد ساخرة، وانتهاكاً مقصوداً لذوي السلط، ويقع العبور من حالة لا تكافؤ اجتماعي إلى حالة مساواة في التهريج والاستمتاع والطرب والنشوة، فيُجمع المقدَّس بالمدنَّس، والرفيع بالوضيع، والعظيم بالحقير، والحكيم بالغبي، وتُمحى الحدود بين الأفكار، والمَواقع، وتَدفع هذه المُخالطة الحرّة بمُمارسات تتقصَّد تدنيس الأشياء، وتحقير الأفعال العظيمة، وإنزال الأشياء من عاليها إلى سافلها، وتحلّ البذاءة، والتهتّك، والمجون، والسفاهة، محلّ الاحتشام، والتعفّف، والتهذيب، والوقار؛ فالكرنفال يوفِّر اجتماعاً احتفاليّاً يتخطّى التمييز والتفريق. وهو مجال لتعبير الإنسان عن نفسه من غير رادع أو رقابة. وبمرور الزمن، أصبح طقساً دَوريّاً يُقبل عليه الناس في تحدٍّ للصرامة التربويّة التي جاءت بها الأديان والقوانين والأعراف، وترسّخت هذه الطقوس، وانتفع بها الأدب، ولاسيّما السرد، فكان أن مُحيت الحدود الفاصلة بين الملاحم والمآسي، وحلّت محلّ ذلك ضروب تمثيليّة حواريّة كالأهاجي الساخرة القائمة على التحقير والتدنيس.

هَيمنت الروح الكرنفاليّة على الحياة المجتمعيّة خلال القرون الوسطى، وبلغت ذروتها في عصر النهضة، حيث ارتسم الانقسام بين حياة حرّة ضاحكة تُلغى فيها الحدود بين الأفراد في الكرنفالات، وحياة رسميّة تطغى عليها الجديّة والرتابة، وقد جرى الاعتراف بالحدود الفاصلة بين هذَين الضربَين من الحياة. ومعلوم أنّ الكرنفالات دفعت للحياة بضروبٍ تعبيريّة لم تكُن معهودة، ولم تُراعِ حدود الحشمة، والحياء، والخجل. هذا ما استخلصه باختين في بحثه عن الكرنفال في دراسة معمّقة تَرجمتها خالدة حامد.

الكرنفالات الاحتفاليّة ونسخها الأدبيّة

في ضوء مفهوم الكرنفال تقصّى باختين نَسَب الآداب المُضحكة في الآداب القديمة والوسيطة والحديثة، فذكر منها: المَشاهِد الساخرة في الآداب اليونانيّة والرومانيّة، والمُحاورات السقراطيّة، وآداب المائدة، والمذكّرات، والأهاجي، والأشعار الرعويّة، ووضَعها في الطرف المُقابل للآداب الجادّة، مثل الملحمة، والمأساة، والتاريخ، ووجدَ الآداب المضحكة ترتبط بالكرنفالات الاحتفاليّة، ويكاد بعضها يكون نسخاً منها، لأنّ الموقف الاحتفالي من العالَم يتغلغل في تلك الأصناف من القاعدة إلى القمّة، واستخلَص لها خصائص مميّزة، منها: أنّ جميع أصناف الآداب المُضحكة لها موقف مباشر من الواقع القائم، فمادّتها مستقاة من الواقع، وهي تنطلق من فهمٍ معيّن للواقع، وتتولّى تقويمه، وإعادة صَوغه. فهي ترتبط بالحياة المعاصرة لها، بما فيها من مباشرة وفظاظة، فلم تستعر أحداثها من الماضي كما فعلت المَلاحم والمآسي، بل نهلت مادّتها من واقعها. ومنها أنّها لم تتعكّز على الموروث المجيد، إنّما تولّت انتقاده، والتعريض به في بعض الأحيان، وبه استبدَلت الخبرة العمليّة، ولم توفّر التلفيق والاختلاق في أحداثها، ومنها أنّها جاءت متنوّعة في أساليبها، وفيها تعدديّة في الأصوات، ورفض الوحدة الأسلوبيّة، وقامت بمزْج السامي بالوضيع، والجادّ بالمُضحك، واستعانت بالاستهلالات التمهيديّة كالرسائل، والمخطوطات، والحوارات المصاغة بطُرق جديدة، والمُعارَضة الساخرة للأصناف الجادّة، والاقتباسات التي يُعاد تفسيرها بطريقة تبعث على الضحك، ولوحظ على تلك الآداب المزج بين الصيغتَين النثريّة والشعريّة، وإدراج اللّهجات الحيّة، وتنكّر المؤلّفين وراء الأقنعة.

نبشَ باختين في الآداب الساخرة خلال القرون الوسطى فوجدها لصيقة بالاحتفالات الشعبيّة، ومنها الأعياد التي تعجّ بالمظاهر الساخرة، ومصارعة الثيران، ومواسم قطف العنب، والألعاب الخارِقة، وقد اعتمدت مظاهر التعبير فيها على الكلام المبتذل، والألفاظ الغليظة، والشتائم المُقذعة، والإيماءات الساخرة، والتوريات الخادِشة، وعدم التكلّف في القول والفعل، وذلك كلّه على سبيل التفكّه الظريف الذي لا يُحمل على محمل الجدّ، إنّما يوارب في الإشارة إلى الاحتجاج من الرتابة الاجتماعيّة والدينيّة؛ ثمّ تطوَّر الأمر في عصر النهضة، فاخترق العنصرُ الاحتفالي الحواجزَ التي وُضعت أمامه، واجتاح معظم مجالات الحياة الرسميّة والعقائديّة. “تمكَّن هذا العنصر بالدرجة الأولى من جميع الأصناف الأدبيّة الكبرى تقريباً، وغيَّر من تركيبها تغييراً جذريّاً. كذلك جرت إشاعة الطابع الكرنفالي بصورة عميقة جدّاً، بحيث شملت كلّ الأدب الفنّي تقريباً. إنّ الموقف الكرنفالي من العالَم مع ما له من أصناف نوعيّة، والضحك الكرنفالي، ورموز المَشاهد الكرنفاليّة الخاصّة بالتتويج، ونزْع التاج، وبعمليّات التناوب، وتبديل الأزياء، كذلك التكافؤيّة بين الأضدّاد الكرنفاليّة، وكلّ ظلال الكلمة الكرنفاليّة الحرّة، البعيدة عن الكلفة، والصريحة بصورة وقحة، والتوفيقيّة، والمادِحة – النابِذة، كلّ ذلك تغلغلَ بعمق في جميع أصناف الأدب الفنّي. وبالاستناد إلى الموقف الكرنفالي من العالَم، تمّ تكوين أشكال معقّدة خاصّة بالعقيدة النهضويّة. ومن خلال المَوقف الكرنفالي من العالَم، تنعكس في نطاقٍ معلوم حتّى قيَم الحضارة الإغريقيّة والرومانيّة. هذه القيَم التي جرى تبنّيها من جانب المفكّرين الإنسانيّين في عصر النهضة. والنهضة تمثّل قمّة الحياة الكرنفاليّة”.

وإلى ذلك تعقّب باختين ظروف نشأة الرواية فوجدها لصيقة بالضحك، أي بالهجاء الساخر من الشخصيّات والأحداث في الآداب الشعبيّة، ولهذا ربط ظهور الرواية بالسخريّة، فكثير من ضروب الأهاجي النثريّة، وتجلّياتها الكرنفاليّة، بما تتضمّنه من هزء وتعريض، شكَّلت قاعدة انبثقت عنها الرواية الحديثة؛ لأنّ الهجاء فَصم صلة الآداب القديمة عن عوالِمها المرجعيّة، فجعل من الواقع الاجتماعي موضوعاً له، وهذا الواقع الفجّ هو البيئة التي نهلت الرواية موضوعاتها منها، على غير ما قامت به المَلاحم والمآسي من استلهام أمجاد الماضي. في ما يتّصل بالضحك، يجب البحث في الموضوعات التي لها صلة بالواقع، وليس الموضوعات المُستعارة من الأزمنة الخالية؛ لأنّ الضحك بمُلازمته للظواهر الاجتماعيّة يمتلك القدرة المُدهشة على تقريب الشيء، ويُدخله في دائرة الاتّصال الفظّ، حيث يُمكن مُداعبته من النواحي كافّة..الضحك يزيل الخوف والاحترام الخاشع أمام الشيء، وأمام العالَم، ويَجعل منه موضوعَ اتّصال مألوف. الضحك عامل مهمّ لإزالة الخوف، وهو مقدّمة لا بدّ منها لإجراء تقريبٍ واقعي للعالَم، وبتقريب الشيء وجعله مألوفاً، فإنّ الضحك يسلّمه إلى أيدي البحث القاسية، وإلى الخيال الحرّ المجرِّب. إنّ جعْل الكَون مألوفاً بواسطة الهجاء واللّغة الشعبيّة هو مرحلة مهمّة جدّاً وضروريّة على طريق الإبداع الحرّ؛ فالتصوّر الهزلي يقدِّم صفات متميّزة على صعيدَي الزمان والمكان، ويكون دَور الذاكرة محدوداً، لأنّ عالَم الهزل لا يترك للذاكرة أيّ فعاليّة سحريّة، إذ يسخر الإنسان ليَنسى. وهنا تقع المنطقة التي يكون فيها الاتّصال مألوفاً وفظّاً للغاية، وينتقل من الضحك إلى الانتهاب والضرب، ويجري نزْع الطابع القدسي عن الأشياء، فينتقل الموضوع من مستوى التباعُد إلى مستوى التقارُب، وتقع الإحاطة به، وتجريده من هيبته، ويصبح كلّ شيء موضوعاً للسخريّة، وبخاصّة على ما كان يُعدّ من الأشياء المُعيبة أو المُشينة.

***

(*) كاتب من العراق

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *