وليم صعب ودعوته إلى توحيد العامّيات العربية: ما تَعنيه وما لا تَعنيه (1 من 5)

Views: 75

نَنشر هنا الفصل الخامس من كتاب د. أديب صعب عن والده: وليم صعب شاعر القضايا الأزلية، الصادر في منشورات جامعة البلمند عام 2015. ويدور الفصل على الدعوة التي أطلقها وليم صعب ودافعَ عنها، في شعره كما في تنظيره عن الشعر الشعبي، مطلقاً عليها اسم “توحيد العامّيات العربية”. في تفسيره لهذه الدعوة: ما تعنيه وما لا تعنيه، يفتتح أديب صعب باباً جديداً في دراسة الشعر الشعبي، هو باب الدراسة المقارَنة. وتتناول مقارنته، على وجه الخصوص، أوزان الشعر الشعبي في لبنان وفي بعض البلدان العربية، خصوصاً مصر وتونس. (الحرف “د” في النصّ يشير إلى كتاب وليم صعب الديوان، والحرف “ح” إلى كتابه حكاية قرن).

 

 

د. أديب صعب

   كان وليم صعب على وعي وتصميم، منذ بدء مسيرته الشعرية، أنه صاحب رسالة في الشعر الشعبي. وقد صدَّرَ العدد الأول من مجلته بالكلمة الآتية: “انتَشر الشعر القومي انتشاراً غريباً في هذا العصر حتى أصبح حديث المجالس وأندية الطرب وعشيق جميع طبقات الشعب على اختلاف مشاربه. والتنشيط الذي رأيناه من الناس شجّعَنا على نشر هذه الجريدة. وسنسعى فيها إلى رفع مستوى الزجل اللبناني إلى أعلى الطبقات”1. وجاءت افتتاحية العدد قصيدةً له حول الزجل بعنوان “هذا الفنّ إرث مْنِ الأعارِب”، عدَّلَها في ديوانه مع هذا المطلع:

 الزجل أسمى الفُنون بْشِعر عالي          بُرورو بْحور وِبْحورو لآلي

 رِبي في فَيّة الأُمّ الفَصيحه                فَصيح مْدَلَّل مْعَزَّز وغالي

 رِبي في فَيّة الأُمّ الفَصيحه                فَصيح بْكِلمتو السهله الصريحه

 وكم جادِت بْأبياتو قَريحه                 وكم شاعِر لأبياتو غَرَفْها

                     مِنِ الإلهام وِالوَحْيِ الخَيالي (د، 35)

   هذا يؤكد إصراره، منذ البداية، على أمرَين: الأول أنّ اللهجة العامّية فرع من الفصحى، بل هي “ابنة الفصحى”، والثاني أنّ الشعر المكتوب بالعامّية هو شعرٌ فصيح. وكان الشاعر، كما مرّ معنا، درَسَ قواعد اللغة العربية وأوزان الشعر والبلاغة على أعلامٍ كبار في مدرسة “الحكمة”، ثمّ دَرَّسَها، كما نظم الشعر المُعرَب والزجل، كتابةً وارتجالاً، منذ حداثته. وبدءاً من أواخر العام 1933، بعد شهرين ونيّف على تأسيس المجلة، افتَتح فيها زاوية للتأكيد على روعة الزجل وفصاحته وكذلك لنقد العيوب الشائعة في النظم: “حباً بالفائدة العمومية وتنقيح الزجل اللبناني ورفعه إلى مستوى الشعر، فتحنا في هذه الجريدة باباً للنقد”2. والواضح أنه يعني بالشعر ما كان مُعْرَباً، تمييزاً له عن غير المُعْرَب، أي الزجل. ومما جاء في ذلك المقال: “لا يزال بعض الناس، من متعلمين وغير متعلمين، يَنظرون إلى الزجل باستخفاف. وذلك بالطبع عائدٌ إلى عدم مخالطتهم الزجّالين ومقابلتهم بين الزجل الجيد والشعر. وهم لو فعلوا لوَجدوا أنّ خيال الزجّال وعذوبة ألفاظه ومحافظته على الموضوع تجعله في مكانة الشاعر المتين السبك، الرقيق الأُسلوب”3. وفي هذا الكلام تأكيدٌ على فصاحة الزجل. ويعلن عن عزمه على نقد كل ما يُنشَر في مجلته لكي ينتفع الشعراء الشعبيون به.

   وتأكيداً على أنّ الزجل شعر كبقية الشعر، يَكتب في عدد لاحق أنّ عيوب الشعر واحدة، سواءٌ أكان زجلياً أم مُعْرَباً، متوقفاً عند أحد هذه العيوب، وهو “المبالغة غير المستحسَنة”. ويعطي مثلاً على ذلك استعارة بعض شعراء عصره كلام الأقدَمين المستمَدّ من بيئتهم الصحراوية. ويضيف: “لكننا نحن اللبنانيين نشاهد جبالاً شامخة مكلَّلة بالثلج والأحراج، ومدناً عامرة مُنارة بالكهرباء، وبحراً تَمخر فيه البواخر وتُلاعِب أمواجَه الرياح. فيجب أن تكون تشابيهنا أرقّ وأوقَع في النفس. ويجب أن نفكّر بإيجاد تشابيه جديدة غير تلك… فلنفكِّر إذاً في الابتكار، ولْنكتب بأُسلوبٍ شيّق، ولْنستعمل فقط الألفاظ التي نَعرف معناها”4. وفي عددٍ آخر، يقول إنّ الكلام المنظوم الذي لا يَحمل معنى هو “أوزانٌ وقَوافٍ، لا غَير” . كما ينتقد “انقطاع المعنى”، مؤكداً على وحدة القصيدة العضوية5. وفي عدد لاحق، يقول إنّ “شرط البلاغة أن يكون الكلام ليّناً على اللسان ومطرباً على الأُذن وسهلاً على الفهم”6.

 

   وما إن تَجمّع لديه عدد من المقالات النقدية حتى أعلن، وقد بدل اسم مجلته من “البلبل” إلى “بلبل الأرز”، أنّ “ضجة كبرى” قامت حول نقده، بالرغم من تَنزُّهه عن الغايات الشخصية: “ولا عجب”، كما يقول، “فالنقد هذا شيء غريب دَخل على الزجل، ولم يقتصر على تبيين مساوئ القصيدة فحسب، بل بُيِّنَت الحسنات أيضاً وذُكِرَت الأسباب… وما ذلك إلا خدمةً لهذا الفن التاعس الذي يكاد يتلاشى بسبب كثرة الناظمين غير المطّلعين على القواعد الأساسية والأساليب البيانية الشعرية”7. ويسمّي إنجازه في هذا الفنّ “الثورة الزجلية القائمة اليوم”، موكلاً إلى نفسه، بتكليف وتشجيع من شعراء شعبيين كثيرين، قيادة تلك الثورة8. وهذا يذكّرنا بنظرة العديد من المجدِّدين في القرن العشرين إلى حركاتهم العلمية والفكرية والأدبية على أنها ثورات في حقولها. ومن هذه الحركات التحليل النفسي الذي أشار إليه سيغموند فرويد كما لو كان الثورة العلمية الثالثة بعد الثورة الفيزيائية على يد كوبرنيكوس والثورة البيولوجية على يد داروين9. ومنها الثورة الفلسفية التي نشأت في بريطانيا في جامعتَي كيمبريدج وأُكسفورد، نائيةً بالفلسفة عن المسائل الميتافيزيقية التقليدية نحو نظرية جديدة للمعرفة مستمَدّة من منطق الرياضيات والعلوم10. ومنها الثورة السوريالية في الأدب والشعر والفن11. وبعد إشارته إلى بعض عيوب الوزن والقافية والتركيب في الزجل، يقول إنّ “الزجل الركيك يَطعن الفصحى”، وإنّ “الواجب تنقيته حفاظاً على الفصحى، خوفاً من انتقال ألفاظه الشاذّة إليها”12. ومن القواعد التي يؤكد عليها: ضبط أوزان الزجل وقوافيه لأنه لا يشذّ عن الشعر ككل؛ عدم استعمال الألفاظ غير القاموسية في الزجل؛ اعتماد لغة فخمة رصينة، مع جَواز اللغة البسيطة في نوع الشعر الفكاهي والردّات الشعبية على وزن القرّادي. والهدف من هذا التجديد ترقية فن الزجل “وجَعْله في جانب الفن الشعري الفصيح”13. وتجدر الاشارة إلى أنّ وليم صعب سمّى حركته أو ثورته “الزجل الحديث”14 قبل نحو عقدَين من انطلاق حركة الشعر العربي الحديث. وبعد مقارنة بين الزجل في مصر وفلسطين ولبنان في تلك الآونة، يقول إنّ الزجل اللبناني هو “الوحيد الذي تملَّص من قيود الماضي بفعل النهضة الأدبية الشعبية الجبارة التي قامت منذ سنوات ثلاث”15. ويضيف أنه جاهد كثيراً في سبيل “الزجل اللبناني الحديث” حتى بلغ درجة رفيعة: “إنّ الزجل اللبناني اليوم شعر فصيح وأبلغ من الشعر الفصيح”، وألفاظه “ليست محصورة في لبنان كبقيّة الأزجال المحصورة في مناطقها”16.

 

   الزجل اللبناني الحديث، وهو ثمرة الثورة التي أحدثها وليم صعب في الشعر الشعبي اللبناني وكان شعره هو بالذات خير مثال عليها، حمل شعراء الزجل على المناداة به أميراً للزجل اللبناني بعد وفاة رشيد نخلة الذي كان يحمل هذا اللقب. وحصل ذلك، كما مرّ معنا، في قاعة التياترو الكبير وسط بيروت خلال تمثيل رواية “الأجنحة المتكسّرة”، في 22 آذار 1940. كما رأينا أنّ الشاعر يوسف الحاج أعلن المبايعة، وقدَّمَ إلى وليم صعب “صكّ الإمارة” مذيَّلاً بتواقيع عدد كبير من الشعراء الشعبيين، علماً أنه هو نفسه أعلن مبايعة رشيد نخلة أميراً للزجل في حفلة مماثلة (ح ، 82-83). وتلقّى سيلاً من تهانئ الأُدباء والشعراء والصحافيين. وكتب الشاعر صلاح الأسير: “يَنْزل الزجل بفضلك ملاعب الوحي في دنيا الفصحى. إنّ مكان رشيد نخلة لن يحتلّه غير وليم، ويتلألأ من جديد أدب لبنان” (د، 496). وكتب الأديب مصطفى دكروب: “خليقٌ بك هذا اللقب الشريف، وأنت خليق به أيضاً… فباسم الشباب العامليّ أُقدِّم إليك أخلص التهاني… عاش أمير الزجل اللبناني الأُستاذ وليم صعب” (د، 504). ومما كتبه الشاعر حليم دمّوس: “يا بُلبل الأرزةِ الخضراءِ، أنتَ لها / بعد الرشيدِ، فغَرِّدْ بَينَنا الآنا / تلك الإمارةُ لم تُسلِسْ مَقادتَها / إلّا لمن ملأَ الأرواحَ تَحنانا” (د، 496). ومما كتبه الشاعر عثمان أبو خزام: “كم رجالٍ تَفيَّأُوا رَوضَكَ الغضَّ / وكم قد جَنَوا ثماراً شهيَّهْ / عِشْتَ يا سيّدي الأميرَ لشعرٍ / أنتَ فيه الراعي ونحن الرعيَّهْ” (د، 498). ومن قصيدة الشاعر الشعبي عبد الجليل وهبة: “وْكان بلبل أرزنا الغرّيد / مْحافِظ على الفنّ وْعَلى الأوزان / وِاليَوم صار عِنّا أمير جْديد / ناصِب علَم عا قبِّة الميزان” (د، 504). ومن الشاعر الشعبي أسعد خداج: “يا أديب العصر، أفضل من كتَب / وارتَجل أعظم قصايد خالِدات / لو بايَعوك عرش الإماره مش عجَب / إنت ٱلْـ حَيَيْت الفنّ من بعد المَمات” (د، 498-499). ومن مقال في مجلة “المكشوف”: “نهنئ الأُستاذ وليم صعب بإمارته. ونرجو أن يخطو الشعر الزجلي في عهده خطوة واسعة نحو الشعر الفصيح، على أن يكون لقاؤهما مقدمة لتوحيد صفوف العرب الذين تعمل لهجاتُهم المختلفة على تَباعُدهم أكثر مما تعمل عصبياتُهم الاقليمية” (د، 501). 

   وما لبث وليم صعب أن حوَّل اللقب، عام 1944، إلى مؤسسة باسم “جمعية إمارة الزجل”، ومن أهدافها “رفع مستوى اللغة العامّية وتقريبها من الفصحى في أقطار العالم العربي، لحماية الفصحى والقضاء على التعابير الاقليمية الغريبة عن القاموس العامّ” (ح، 87). وفي عيد الجمعية الأول، ألقى قصيدة جاء فيها: 

 جِهاد سْنين خَطَّطنا سبيلو                   فَجَرْنا الفنّ وِتْدَفَّق سبيلو…

 طَوَينا العتم وِرْفَعنا المناره                  وْبَلَغنا النصر غاره بعد غاره

 حَمَيْنا الضاد بِحْماية زَجَلْنا                  وْعلى التركيب رَقَّينا العِباره…

 ٱستردَّيتوا المعالي بْنَصر باهر              بِسَيف مْن الفصاحه كان حَدّو

 وْضَرَبتوا البحر وٱصطدتوا الجَواهر        تَرَكْتوا الجَزْر يتخبَّط بِمَدّو

 ٱحرِسوا مَجد القَوافي بْطَرْف ساهر         وعَنّو كل طالِب ذلّ رِدّوا (د، 102-103)

    ولعل أبرز إنجازات تلك الجمعية عقد مؤتمر الزجل العربي، وهو، كما قلنا، الأول والأخير من نوعه. وكان ذلك في لبنان بين 10 و16 أيلول 1945. وقد شارك فيه شعراء شعبيون عرب، خصوصاً من لبنان وسورية ومصر، وكان أهم أهدافه الدعوة إلى توحيد الكلمات التي يستخدمها الشعراء الشعبيون من أيّ بلد عربي، بحيث تكون كلها ألفاظاً عربية لا تجافي القاموس (ح، 93-95). وكانت قصيدته التمهيدية لذلك المؤتمر تأكيداً على دعوته إلى “توحيد العامّيات”، ومنها:

 بِنْت المعنّى، إسألي عَنّا                    ما يَوم في حُبِّك تهاوَنّا

 رْضِعنا هَواكِ وْما تَركناكِ                 وْخِدّام فَنِّك بالعُلى كنّا…

 صرنا بِفَضلِك جامعة إخوان،              وِالضاد تِجْمَعنا وتِحْضِنّا…

 وْلَهجاتنا بيضمّها التوحيد،                 وِالفايده مْنِ سْنين بَيَّنّا (د، 110-111)   

   بعدما استَكمل وليم صعب إصلاحاته على الوزن والقافية والمفردات والتراكيب الزجلية، بادر الشعراء الشعبيون إلى إطلاق اسم “دستور الزجل” عليها. وفي كتابه “حكاية قرن” (ح، 125-133)، لخَّص إصلاحاته على الوجه الآتي:

   – في الوزن: لا يجوز خطف أحرف اللين، أي أحرف العلة، كما كان شائعاً على نطاق واسع حتى مع كبار الشعراء. فهذا رشيد نخلة يكتب في روايته “محسن الهزّان”: “والسهل، عشبو كان يموع مَوع الحرير”. والخطأ في خطف الألف من “كان” والواو من “يموع”. وهذا كثيرٌ جداً في شعر نخلة. وتكاد لا تخلو قطعة واحدة من قصائده التي جمعها ابنه الشاعر أمين نخلة بعد وفاته تحت عنوان “معنّى رشيد نخلة” – على روعتها الفائقة – من تكرار هذا الهفوة المألوفة آنذاك. وفي بواكير وليم صعب بعض أمثلة عليها، لكنه سرعان ما هجرَها. وهذا ميشال طراد يكتب في قصيدة شهيرة له: “والقمر عا كتْف صنّين متِّكي”، حيث الياء في “صنّين” مخطوفة. وبعض الشعراء الذين انضووا في إمارة الزجل تقيّدوا بهذه الاصلاحات. وأبرز الذين انتَهجوا هذا الخط لاحقاً إيليا أبو شديد وحنينة ضاهر.

   – في القافية: طالما اعتُمِدَت في الزجل التقليدي قوافٍ يسبق رويَّها حرفُ علّة مع قوافٍ تسبق رويَّها الحركةُ التي تجانس هذا الحرف: كالفتحة مع الألف، والضمّة مع الواو، والكسرة مع الياء، كما في هذا المثل من شحرور الوادي: “رحت لبْتَدّين في عصر ٱلْـ بَرَح / وِقْصَدْت لمحلّ الذخاير والسلاح / سْمِعْتِ الدرِع بيصيح بِلْسان الفَصيح / لِلّه يا أسعد خليل سمعان فرَح”. والخطأ في هذين البيتين هو اعتماد كلمة “السلاح”، التي يسبق رويَّها حرفُ الألف، مع “برَح” و”فرَح”، اللتين تسبق رويَّهما الفتحة. وقد وَرد خطأُ الوزن المشار إليه أعلاه في عبارة “خليل” التي أرهقَها حرف الياء، وعبارة “سمعان” التي أرهقَها حرف الألف. يُضاف إلى هذا خطأ شائع لدى العديد من الزجالين آنذاك، هو تنكير الاسم وتعريف الصفة، كما في “عَصر ٱلْـ بَرَح”، التي يجب أن تكون “العصر ٱلْـ برَح”. ونقع على قَوافٍ من هذا النوع في “معنَّى رشيد نخلة”: “ضعيف” مع “معترِف”17؛ “ملَك” مع “هَواك”18؛ “حكَم” مع “المنام” و”سلام”19؛ “تِسْأَل” مع “حال”20؛ “القمَر” مع “الزرار”؛ “نغَم” مع “مَنام”21

 

   كذلك في القافية، أشار صعب إلى عدم جواز “تارِيخها” مع “شَيْخها”: فإمّا التزام الكسرة وإمّا التزام الفتحة قبل الياء، وذلك في كل قوافي القصيدة، لكن لا يجوز التناوب. والمثَل من رواية “محسن الهزّان” أيضاً: “رَبعِة الهزّان، محسِن شَيخها / منْسف عِيالا وسَيفها وْتارِيخها”. وهنا أمثلة أُخرى من “معنّى رشيد نخلة”: “بَيْنها” مع “دِيْنها”22؛ “فِينا” مع “علَينا”23؛ “علَيْكِ” مع “ليالِيكِ”24؛ “صَوْبها” مع “ذْنُوبها”25.

   في القافية أيضاً، تمنّى وليم صعب على الشعراء الشعبيين اللبنانيين عدم استعمال كلمات مثل “عيوني” و”مفتونه” في قوافي القصيدة الواحدة، إذ لو وقعَت قصيدة كهذه بين يدَي قارئ عربي من خارج لبنان، لقرأَ “مفتونه” بفتح النون، مما يعني عدم استقامة “عيوني” مع “مفتونَه”. لكنه أجاز هذا الاستعمال في الزجل المنبري المرتجَل.  ونقع في “معنّى رشيد نخلة” على “حمامه” مع “نامي” و”غرامي”26، وعلى “لطافه” و”مسافه” مع “العوافي” و”تخافي”27. وبالمنطق نفسه، أي قابلية ارتحال الشعر الشعبي اللبناني عربياً، دعا صعب إلى اعتماد كلمات مثل “شفتها” و”عرفتها” و”قلتلّها” و”صَوتها” بدلاً من “شفتا” و”عرفتا” و”قلتلاّ” و”صَوتا”.

   في فصاحة المفرَد، أي الألفاظ، تبنّى صعب النظرة المعروفة في علم البيان القائلة بالابتعاد عن تنافُر الحروف في الكلمة الواحدة كما في الكلمات المتجاورة، ضارباً المثَل الشائع من معلَّقة امرئ القيس: “غدائرُه مستشزِراتٌ إلى العُلى”، حيث الحروف “س” و”ش” و”ز” في “مستشزرات” متنافرة وثقيلة على اللفظ والسمع. وأوردَ بيتاً من رواية “محسن الهزّان” يتّصل فيه حرف الراء في آخر إحدى الكلمات مع الحرف نفسه في الكلمة التالية: “وْمحسن أمير الرَّبْع لو شفتو لَما / ظَنَّيت إلّا البَدر يِتْمَشّى بْقَوام”، حيث الراء في أول كلمة “الربع” متنافرة مع الراء في آخر كلمة “أمير”.

   ودعا إلى الإقلاع عن حركات الإعراب الشائعة في الزجل البدوي، ومنها التنوين كما في هذا الشطر المذكور سابقاً: “يا راحلاً عن هالأماكِن وِالِبْلاد”. كما دعا إلى توحيد إملاء الزجل. (Klonopin) ويقول إنه كان يسلِّم كل مواد مجلته إلى منضّد الحروف مكتوبةً بخط يده، تجنباً للأخطاء المطبعية وسعياً إلى توحيد إملاء اللغة المحكية (ح، 121-122).

    ولا شكّ أنّ أهمّ بند في دستور الزجل الذي وضعه وليم صعب هو توحيد العامّيات العربية. فما الذي تعنيه هذه الدعوة، وما الذي لا تعنيه؟ وماذا يبقى منها اليوم بعد مرور نحو ثمانية عقود على إطلاقها؟ قبل التصدّي لهذه المسائل، سوف نلقي نظرة نقدية على بنود “الدستور” الذي يسنّه الشاعر لما يسمّيه “الزجل الحديث”. ما يجعل الشعر حديثاً، قبل شكله، هو مضمونه. والمضمون الحديث يسفر عن أشكال حديثة. وقد وعى صعب هذا الأمر جيداً، واستهل مقالاته النقدية بالدعوة إلى الابتعاد عن جو الصحراء والبداوة في الشعر العربي التقليدي نحو استيحاء الطبيعة اللبنانية ووعي شؤون الحياة العصرية. وشعره خير دليل على هذا الوعي والاستيحاء، وعلى التزام قضايا الوطن والانسان والحياة. وكان كثيرون ينظرون إلى الزجل على أنه نظم خفيف يقتصر على المساجلات المنبرية والحماسيات والدعابة والندب. وعلى رغم بدايات وليم صعب المنبرية، إلا أنه رفعَ مستوى المنبر الزجلي، وجاءت قصائده المنبرية – وجلّها مرتجَل – ذروة في الفصاحة ومتانة السبك كما رأينا. ووضع شروطاً معنوية للشعر قبل تصدّيه للشروط اللفظية. ولعل أهم الشروط المعنوية وحدة القصيدة العضوية. ونظر إلى الزجل المتين السبك الذي لا يَحمل معاني عميقة على أنه لا يتعدى الأوزان والقوافي، أي النظم.

(يتبع)

***

 

هوامش 

(*) ملاحظة: الهوامش أدناه  للدراسة بحلقاتها الخمس وستنشر مع كل حلقة.

 – وليم صعب، الديوان، بيروت: دار النهار، 2001.

– وليم صعب، حكاية قرن [سيرة ذاتية أدبية]، بيروت: دار النهار، 2001.

  1. مجلة البلبل، أُسبوعية تبحث في الشعر القومي، العدد الأول، الاثنين 9 تشرين الأول 1933، 1.
  2. مجلة البلبل، العدد 11، الاثنين 18 كانون الأول 1933، 2.
  3. المصدر نفسه.
  4. مجلة البلبل، العدد 16، الاثنين 22 كانون الثاني 1934، 6.
  5. مجلة البلبل، العدد 18، الاثنين 5 شباط 1934، 7.
  6. مجلة البلبل، العدد 36-37، الاثنين 25 حزيران 1934، 14.
  7. مجلة بلبل الأرز، العدد 1-2، الاثنين 4 آذار 1935، 19.
  8. المصدر نفسه، 30.
  9. انظر المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات فرويد عن التحليل النفسي:

Sigmund Freud, Introductory Lectures on Psychoanalysis, Translated by James Strachey, London: Penguin Books, 1991.  

  1. انظر الكتاب الآتي عن “الثورة الفلسفية” الأنكلوسكسونية:

A.J. Ayer et al, The Revolution in Philosophy, London: Macmillan, 1956.

  1. عن البيان الأول للحركة السوريالية وما يليه، انظر الأعداد الاثنَي عشر من مجلة أندريه بريتون الصادرة في باريس بين 1924 و1929 (La Révolution Surréaliste).
  2. مجلة بلبل الأرز، العدد 5-6، الاثنين 25 آذار 1935، 56.
  3. المصدر نفسه.
  4. المصدر نفسه.
  5. مجلة بلبل الأرز، السنة 3، العدد 2، 31 آب 1938، 9.
  6. المصدر نفسه، 15.
  7. معنّى رشيد نخلة، جمعَه [ابنُه] أمين نخلة، صيدا: المكتبة العصرية، 1945، 95.
  8. المصدر نفسه، 177.
  9. المصدر نفسه، 125.
  10. المصدر نفسه، 148.
  11. المصدر نفسه، 223.
  12. المصدر نفسه، 89.
  13. المصدر نفسه، 99.
  14. المصدر نفسه، 101.
  15. المصدر نفسه، 191.
  16. المصدر نفسه، 114.
  17. المصدر نفسه، 203.
  18. المصدر نفسه، 85.
  19. المصدر نفسه، 92.
  20. المصدر نفسه، 95.
  21. المصدر نفسه، 116.
  22. المصدر نفسه، 129.
  23. المصدر نفسه، 98.
  24. المصدر نفسه، 216.
  25. المصدر نفسه، 159.
  26. المصدر نفسه.
  27. المصدر نفسه، 85.
  28. المصدر نفسه، 140.
  29. المصدر نفسه، 114.
  30. مجلة بلبل الأرز، السنة 3، العدد 2، 31 آب 1938، 9.
  31. محيي الدين خريّف، الشعر الشعبي التونسي: أوزانه وأنواعه، ليبيا: الدار العربية للكتاب، 1991، 13.
  32. المصدر نفسه.
  33. أحمد رشدي صالح، الأدب الشعبي، القاهبة: مكتبة النهضة المصرية، 1955، 29.
  34. مجلة بلبل الأرز، السنة 2، العدد 4، 10 تشرين الثاني 1938، 12-13.
  35. أحمد رشدي صالح، المصدر المذكور، 20.
  36. المصدر نفسه.
  37. المصدر نفسه، 21.
  38. المصدر نفسه.
  39. المصدر نفسه، 22.
  40. المصدر نفسه، 23.
  41. حسين مظلوم رياض ومصطفى محمّد الصباحي، تاريخ أدب الشعب: نشأته، تطوراته، أعلامه، القاهرة: مطبعة السعادة، 1936، 55.
  42. المصدر نفسه، 5.
  43. المصدر نفسه، 71.
  44. المصدر نفسه، 249-250.
  45. المصدر نفسه، 281.
  46. المصدر نفسه، 94.
  47. المصدر نفسه، 126-127.
  48. المصدر نفسه، 250.
  49. المصدر نفسه، 85-91.
  50. المصدر نفسه، 159-160.
  51. المصدر نفسه، 163.
  52. المصدر نفسه، 191.
  53. المصدر نفسه، 180.
  54. المصدر نفسه، 269.
  55. المصدر نفسه، 265.
  56. يونس الابن، أربع خمس كلمات، بيروت: منشورات مجلة المواسم، 1966، 65.
  57. رياض والصباحي، المصدر المذكور، 82.
  58. المصدر نفسه، 310.
  59. المصدر نفسه، 152.
  60. المصدر نفسه، 175.
  61. المصدر نفسه، 122.
  62. المصدر نفسه، 206-210.
  63. المصدر نفسه، 330.
  64. المصدر نفسه، 324-327.
  65. المصدر نفسه، 316.
  66. المصدر نفسه، 75.
  67. عزّ الدين إسماعيل، الشعر القومي في السودان، بيروت: دار العودة، 1969، 52.
  68. محيي الدين خريّف، المصدر المذكور، 14-30.
  69. المصدر نفسه، 29.
  70. المصدر نفسه، 15-16.
  71. المصدر نفسه، 15.
  72. المصدر نفسه، 72.
  73. المصدر نفسه، 139.
  74. المصدر نفسه، 109.
  75. المصدر نفسه، 137.
  76. المصدر نفسه، 193.
  77. معنّى رشيد نخلة، 50.
  78. جريدة الرياض، العدد 14040، السبت 2 ديسمبر (كانون الأول) 2006.
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *