أنسي الحاج … ماذا صنعْتَ بالذّهبِ ماذا فعلتَ بالوردة؟

Views: 73

د. جورج شبلي

في صحراءِ البحارِ البدائيّةِ ظهرَ أوّلُ كائنٍ حيّ، ومُذّاك تركَّبَت فلسفةٌ متموِّجةٌ فتحَت بابَ النقاشِ حول

التولِّدِ الذّاتيِّ حيثُ المادةُ التي لا تبدو حيّةً ، هي في الواقعِ حيّةٌ بالقوّة، ولا ترغبُ إلاّ في أنْ تحيا. أمّا في الاتّجاهِ المُعاكِس، فذهبَ البعضُ الى التّأكيدِ على أنّ الانتقالَ من المادّةِ الى الحياةِ أمرٌ شبهُ مستحيل، إن لم يكنْ مستحيلاً. وانسحبَت هذه الحالُ على العلاقةِ بين النّثرِ والشّعر، مع فارقٍ هو أنّ المُتشدِّدين الذين يُقلِّلون من احتمالِ انبثاقِ واحدِهما من الآخر، يتحدّثون بشيءٍ من التّسامحِ المُتَعَجرِفِ عن وجودِ معبرٍ بينهما.

أنسي الحاج فَجَّرَ من صخرةِ النّثرِ نبعةَ شعر، مُؤكِّداً على أنّ كلَّ شيءٍ في النّثرِ يحملُ شعراً ، بالرّغم مِمّن يُنكرون ذلك بالشكّ، ما يعني أنّ النّثرَ معه يَبني خميرةَ الشّعر وبشكلٍ مُحكَم. لكنّ المسافةَ بينهما تبقى مُسَلَّماً بها، على تفاوُتِ طولِها أو قِصرِها، إنّما عبورُها يقتضي أولاً الإقتناعَ بوجودِها. من هنا، نفى أنسي، وهو في نشوةِ الحماسة، أن يكون هنالك اختلافٌ في التركيبِ” الكيميائيِّ” للنثرِ والشّعر، على مستوى العناصر، فلا يوجدُ عنصرٌ في واحدِهما لا يمكنُ العثورُ عليه في المحيطِ الحيويِّ للآخر، فالشعرُ من النثرِ كالحياةِ من المادة، لا تَستخدِم إلاّ العناصرَ التي هي في متناولِ يدها. وكأنّ أنسي، في هذا الصّدد، يردُّ على الذين ميّزوا بين التمثالِ والنحّات، فهما ثَمرتا نهايةٍ لتاريخٍ ذاتيّ، إذ التمثالُ يَدخلُ حُكماً في تاريخِ ناحِتِه.

صاحبُ ” لن “، لم يُجاوِرْ بَرَّ النثرِ لأنّه زاهِدٌ بأجواءِ الشّعر، فهو يطيرُ بين الأرضِ والسّماء، ويَهْمِزُ مَطِيَّتَه

النثرية، وهو الفارسُ الذي لم يأكلْه غُبارُ النثر، لِيَلحَّ في الدُنُوِّ من مملكةِ الشعر، وهي مساحةُ الإبداعِ التي

لا يحدُّها إلاّ صَفوةُ الحياة. ومن الغريبِ الإنتقاصُ من شاعريّةِ أنسي، بالمُعطى التِّقنيِّ للكلمة، او حسبَ مفهومِ التّفعيلةِ المُتداوَلِ من الخليجِ الى المحيط، بمعنى أنّه مَسلوخٌ عن بيئةِ الشعرِ لم يتربَّعْ على أرضِها. فالرّجلُ ضاعفَ سرعةَ النثرِ من دون عَرَجٍ أو عَوَج، وقدّمَ على مأدُبةِ النثرِ أَطباقاً من شعر، كانت من الأَشهى. لقد مَتَّنَ أنسي خصوصيّةً كان الأَنهَضَ بحجّتِها والأَملَكَ لمذهبِها، هي قصيدةُ النّثرِ أو ” الوليمةُ” التي لم يكن طالعُها معه ذَلولاً، فأكّدَ حضورَه على مساحتِها روحاً مُتمرِّدة، وأَمدَّتها قريحتُه بمعالمَ كينونيّةٍ وبسياسةِ النفسِ وهي دنيا ثانية، وبتقويمِ البَيان. ولو كانت قصيدةُ النثرِ عاراً على نسيجِ الشّعر، لَوَجَبَ أن يُمحى إسمُ أنسي وغيرِه من الدّواوين، ويُحذَفَ ذِكرُهم من بين أَشياخِ المُبدِعين الذين اصطفاهم الشعرُ ونفخَ فيهم روحَه. لكنّ نتاجَ أنسي لا يَشفعُ في تأييدِ هذا المنحى، فليست الشاعريّةُ تزيينَ صُنّاعٍ وتسجيلَ تفعيلة، بل هي القدرةُ على القول: هذا ما أريدُ أن يكون.

أنسي الحاج كان قَروياً في انتسابِه الى الكلمة، فهي أوّلُ أرضٍ مسَّ جِلدُه ترابَها، وقد حَظِيَت به فلم يَدَعْها،

ولم تَطُبْ نفسُه بتركِها. والكلمةُ هي الأصل، مهما ارتبكَ الظانّون واختلطَت عندهم المفاهيم، فالنّاسُ أبداً يُنسَبون لآدم . وبين الكلمة وأنسي صَفاءُ وِدادٍ ووِفاقٌ على الدّهشةِ والابتكارِ وخدمةِ الجمال، حتى غدَت معه منظومةً لها منهج، وكانت مقابلتُه إيّاها صفحةً صفحة. هذه العلاقةُ المُتَأَنّيةُ التي “رسمت فوق الفراغ قوسَ غَمام” ، سَفَكَ أنسي في سبيلِها موهبتَه، وأسندَ إليها بُعداً رمزياً حيّاً يتحرّكُ في كلِّ اتّجاه، وهو مُكَوِّنٌ ذو شفافيّةٍ لم تخجلْ في الانتسابِ إليه، بل اغتنمَتِ الكلمةُ خدمتَه لتردَّ إليه فضلَ أنفاسِها. وهي لم تبقَ معه كلمةً مُفرَدةً معزولةً بل ” كلمات كلمات كلمات ” أعادَ أنسي تَكويرَها لتفصحَ عن ألوانِ قلبِه. وإذا كانت مع غيرِه شريكاً يتقاضى نصفَ التّصفيق، فهي ونَفْسُ الشّاعرِ نَفْسُه. مع أنسي، الكلمةُ الكريمةُ لا تُكرَّمُ لغناها بل لفضلِها.

أنسي الباحثُ عن الحقيقةِ العارية، وَظَّفَ الحداثةَ المتحرِّرةَ لأداءِ هذا الدَّين. وإذا كانت الهفواتُ من سيّئاتِ العصرِ الحديث، وإذا كان الصّراعُ بين القديمِ والجديدِ يفتكُ بالحياةِ الفكريّةِ في جميعِ الأجيال، فأنسي حَذِرٌ في اجتنابِ الذّنوب. وبالرّغم من حَمِيَّتِه للحداثةِ في كلِّ تحوّلاتِها، فالولادةُ الجديدةُ وحدَها ” تمحو ذاكرةَ الخوف”، ولو أنّ نفوسَ المقلِّدين تَضيقُ بها. ( الحقيقةُ في ” خواتمِ” أنسي هي التّرجمانُ الذي أرادَ أن يتوارى فيه، والمنهلُ الذي لم يستطعْ إلاّ أن يغرفَ منه بدون تَشَتُّت. فلم يأخذْ بنَوازلِ الأحكامِ وبمَن قالَ ” ما تركَ الأوّلُ للآخرِ شيئاً ” ، فلكلِّ قلبٍ خاطِرٌ، ولكلِّ خاطِرٍ نتيجةٌ مُضافَةٌ هي ثمرةُ الاتّصالِ المُكَثَّفِ بين الإنسانِ وذاته.  من هنا، فالنقشُ الفكريُّ نَقَّطَ حروفَ قلمِه داعِماً مذهبَه في التفكيرِ الإيجابيِّ تجاهَ عِلمِ الوجود، مع ما رافقَ ذلك من شُحناتِ الوجعِ الوجدانيِّ والتي تتمايلُ في نقاءٍ جماليٍّ هاربٍ من كلِّ قاعدة.

أنسي، مع غيابِ العلاقاتِ التركيبيةِ بين الذَّهبِ والورد، في عصرِ التَشَوُّهِ الذي أحدثَه نَزَقُ موجاتِ التكنولوجيا المُتعاقبةِ التي استعبَدَت براءةَ الإنسان، لا يَسَعُنا إلاّ أن نسألَك، وبِحَقِّ ماضي الأيّامِ الآتية:

“ماذا صنعْتَ بالذّهبِ ماذا فعلْتَ بالوردة ” ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *