شكيب أرسلان… “إمام المترسّلين”

Views: 637

سليمان بختي

لا يزال السؤال الذي طرحه أمير البيان شكيب أرسلان (1869-1949) في العام 1930 يرنّ في العالم العربي والإسلامي: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم”؟ واضعاً يده على الجرح أي إشكالية التخلّف والتقدّم في عالمنا.

هو كاتب وأديب وشاعر ومفكر ومؤرّخ وسياسي، ولقب أيضاً بـ”كاتب الشرق الكبير”. عاش عصره كما يليق بعلم نهضوي اصلاحي وأحد الدعاة الكبار للوحدة الإسلامية والعربية التي أساسها وحدة الثقافة. واليوم في ذكرى مرور 151 عاماً على ولادته لا تزال أفكاره تحمل الكثير من الحيوية والحضور والقابليات والانسجام مع القناعات والمبادئ والصدق مع النفس والآخرين والإخلاص للبلاد وأهلها.

وُلِد شكيب بن محمود بن حسن بن يونس بن منصور ويصل نسبه إلى المنذر بن النعمان وابن الملك المنذر بن ماء السماء في الشويفات. وشكيب بالفارسية تعني (الصابر) وارسلان تعني بالتركية والفارسية (الأسد). والدته شركسية الأصل. واهتم والده بتعليمه القراءة والكتابة ثم انتقل إلى مدرسة الحكمة وتعلّم على يديّ العلاّمة عبدالله البستاني. ومنها إلى مدرسة السلطانية التي كان يدرّس فيها الشيخ محمد عبده وانعقدت بينهما أواصر الصداقة منذ ذلك الوقت.

عيّن مديراً للشويفات عام 1887 بعد وفاة والده ولكنه استقال عام 1889. ثم تولّى منصب قائمقام الشوف عام 1902 واستقال عام 1910 بعد صراعات مع متصرّفي جبل لبنان. انتدبته الحكومة العثمانية في مهمات عديدة في ألمانيا وجنيف وأوروبا وأميركا.

ترشّح عام 1913 عن منطقة حوران وفاز واصبح عضواً في مجلس المبعوثان. شارك في العشرينات والثلاثينات بمؤتمرات اقتصادية وسياسية مترئِّسًا الوفود كما ترأس المؤتمر الإسلاميالأوروبي عام 1935.

تعرّض الامير شكيب ارسلان بسبب مواقفه الوطنية وخصوصاً دعوته إلى الوحدة التي رأى فيها خلاصاً من الضعف والاستكانة للكثير من الاضطهاد وحملات الافتراء والأكاذيب.

اتّهمه المفوض الفرنسي جوفينيل بـأنه من أعوان جمال باشا السفّاح ولكنه فنّد أكاذيبهم، ولطالما حذّر من وعود الحلفاء للعرب، فهم يريدون القضاء على الدولة العثمانية ثم تقسيم البلاد العربية محذّراً من استغلال الأجانب والدخلاء لبث الشقاق بين العرب والترك. ولكنه حينما رأى الأتراك يتنكرون للخلافة الإسلامية ويلغونها ويقطعون صلاتهم مع العروبة والإسلام راح يدعو الى الوحدة العربية سبيلاً الى القوة والتماسك.

بقي شكيب ارسلان مطارداً من جهات عدة فتركيا تطارده لاهتمامه بقضايا العرب، وانكلترا وفرنسا تطاردانه لدفاعه عن شعوب الأمة العربية وتزعّمه الجهاد ضد المستعمرين. ولبث في حلّه وترحاله يفضح فظائع وجرائم المستعمر في حق الشعوب العربية والإسلامية.

وظل مبعداً لفترة طويلة عن العالم العربي وخاصة مصر وسوريا. تناول شكيب ارسلان في مقالاته الصراع بين الشرق والغرب رابطاً بين الحملات الصليبية نحو الشرق واحوال الحاضر، وكان اشدّ نقداً لفرنسا فاضحاً فظائعها العنصرية ضد العرب والمسلمين في شمال أفريقيا، ومشيداً بتسامح الإسلام ووئام العيش في الشرق بين المسلمين والنصارى.

كان شكيب ارسلان أول الدعاة لإنشاء الجامعة العربية، وكان يرى فيها ملاذاً وسبيلاً إلى نهضة عربية شاملة. وحذّر من تخريب اللغة العربية على يد الشعوبيين، وكان يخطب دائماً بالعربية في رحلاته الى أوروبا وأميركا مع تمكّنه واجادته الانكليزية والفرنسية والتركية والألمانية.

سعى شكيب ارسلان الى ايقاظ الشعور القومي والتنبّه لخطورة سياسة المستعمرين في فلسطين وسعيهم الى إنشاء وطن قومي لليهود فيها، وكان من أوائل الذين تصدّوا لخطر الوجود اليهودي في فلسطين ساعياً الى جمع الشمل ونبذ الخلافات فلا تقوى آمال الطامعين.

الى جهاده السياسي الذي اخذ منه الجهد والتفكير وتدبيج البيانات وكتاباته الفكرية والأدبية، أقام شكيب ارسلان علاقات الصداقة الوثيقة برجال العلم والفكر في عصره من امثال خليل مطران وطه حسين ومحمد عبده والافغاني وأحمد شوقي ومحمود سامي البارودي ومحمد رشيد رضا وغيرهم.

وعندما سافر الى مصر وثّق علاقاته مع صحف “الاهرام” و”المؤيد” و”المقتطف”. وأصدر في العام 1930 جريدة “الأمة العربية” في جنيف باللغة الفرنسية.

عاش حياته بين الكلمات والحروف قارئاً وكاتباً ومؤلفاً في الخطابة والمراسلة والنظم والترجمة والتحقيق معبّراً في كل ذلك عن ثقافة موسوعية ورؤية حضارية وقدرات فكرية عالية وبأسلوب غاية في الفصاحة وقوة البيان ودقّة التعبير والبراعة في التصوير.

وعلى الرغم من مشاغله وجهاده السياسي فقد ظل يكتب وينشر لأكثر من ستين عاماً حتى وصفه خليل مطران بأنه “إمام المترسّلين”. كما وصفه طه حسين “أنه يغترف من بحر ولفظة يغترف قليلة عليه إلا ليس اغترافاً لكنه تدفق”. وشبّهه محمود زكي باشا بأنه أشبه بماكينة الخياطة (سنجر) في سرعته واسترساله في الكتابة.

ترك شكيب ارسلان العديد من المؤلفات المطبوعة وأشهرها: “الباكورة: ديوان شعر” (1887) و”سورية الشهيدة” (1925) و”المحادثات مع جوفنيل في باريس” (1926) و”لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم” (1930) و”تاريخ العرب في فرنسة وسويسرة وايطاليا وجزائر البحر المتوسط” (1933) و”شوقي أو صداقة اربعين سنة” (1936)، و”الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية” (1936) “السيد رشيد رضا او إخاء أربعين سنة” (1937)، “النهضة العربية في العصر الحاضر” (1937)، و”رسالة عن ضرب الفرنسيين لدمشق ومقالات شكيب وسيرة ذاتية” (1969)، كما حقّق “الدرّة اليتيمة” لابن المقفع و”المختار” من رسائل ابي اسحاق الصابئ” (1896) و”حاضر العالم الإسلامي” و”محاسن المساعي في مناقب الإمام ابي عمر الاوزاعي”، و”تاريخ ابن خلدون”.

وترجم “آخر بني سراج” لشاتوبريان، وكتاب “اختبار العصر في انقضاء دولة بني نصر” لمؤرخ مجهول، و”إنارة تاريخية رسمية في اربعة كتب سلطانية اندلسية”، “اناتول فرانس في مباذله: تأليف جان بروسون”.

وهناك آثار مخطوطة كثيرة منها: بيوتات العرب في لبنان، البيان عما شهدت بالعيان- تاريخ بلاد الجزائر- اختلاف العلم والتنوير- مدنية العرب- تاريخ لبنان- وغيرها من محفوظات موجودة في مكتبة مالك الغرب السابق حسن الثاني، وأوراق من مراسلاته ومؤلفاته امام عصبة الامم في حنيف اهداها الى وزارة الخارجية السورية. هذه المحفوظات تستدعي همة الباحثين في لبنان والعالم العربي لأهميتها التاريخية والحضارية والادبية، ولأن الكنز المخبوء جدير بأن يشع ويتوهج.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحرر لبنان وسوريا واستقلالهما عاد شكيب ارسلان الى وطنه عام 1946. وكحّل عينيه برؤية لبنان حرّاً ومستقلاً، عاد الى لبنان بعدما قضى نصف عمره منفياً ولكن المرض وثقل الثمانين تحالفا عليه ولفظ أنفاسه الأخيرة في 9 كانون الاول 1949.

ويروي صديقه محمد علي الطاهر أن هم نهوض العرب ووحدتهم استحوذ عليه في الايام الاخيرة من حياته، وأنه في اللحظة الاخيرة من عمره التفت الى عبدالله المشنوق وقال بنبرة مرتجفة قبيل موته: “أوصيكم بفلسطين”.

وهكذا غاب كاتب الشرق الكبير وفي قلبه الخوف على بلاده واهله وهويته القومية وعلى الحرية. ولعل هذه الفقرة التي كبتها لجريدة “الشورى” في 27 آب 1925 تعبّر عن مبدأ شكيب ارسلان وقضية عمره وهمّته التي اتّسعت لآمال أمّته، إذ يقول “القضية ليست قضية تاج ولا صولجان وإنما هي قضية الأمة العربية التي ينبغي أن يكون أمرها فوق الإمارات والولايات، وأنه خير للمرء أن يكون راعي ضأن في عزّ قومه من أن يكون السلطان الأعظم على قوم أذلاّء”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *