العقل… سيمفونية الله والمنطق قيثارته

Views: 407

أنطوان يزبك

 

“ما عُبد الله بشيء أفضل من العقل” (الإمام علي)

 

حين قال الفيلسوف والشاعر الألماني “ولفغانغ فون غوته”؛ أن الذي لا يستطيع أن يستفيد من خبرة ثلاثة آلاف عام سيبقى يعيش كل يوم بيومه؛ وذلك في معرض الحديث عن خبرة الإنسان واكتشافاته وتبحّره في عالم العلوم وتبصّره في الأفلاك والنجوم وتعبّده لله الحي القيوم!!…

من أراد المعرفة وجدها في المعرفة، في الفلسفة في المنطق، في الموسيقى في الضمير؛ من أراد إلى المعرفة سبيلا لا تعوزه حيلة ولا يردعه شيء، لا بل على العكس، في كل ما نعتقد، تأتي إليه المعرفة من دون عوائق والمعرفة قوة وسلطة ما بعدها سلطة.

ها هو فيلسوف قرطبة ابن رشد يقول: “الله لا يمكنه أن يعطينا عقولا ثم يعطينا الشرائع التي تخالفها”؛ وهو بذلك يشدد على مسألة العقل النابع من الله، والله هو عقل كامل بحدّ ذاته انبثقت منه المفاهيم والمعقولات والمعارف وكل ما يدركه الإنسان في كل أحواله وتساؤلاته.

ولفغانغ فون غوته

 

العقل والمنطق الرياضي في مسألة الإيمان

تعلّمنا من فلاسفة اليونان أن كل ما يصدر عن كامل هو كامل، والكمال الذي نجده في الرياضيات ليس سوى الصورة المنطبعة عن الله الذي هو الكمال بحد ذاته، لا يخلق الشبيه سوى الشبيه؛ إذ لا يمكن أن تكون المعقولات نسخًا معدّلة عن الذي خلقها.

ومع ذلك بقيت الخرافة مسيطرة على البشر؛ وبقيت الأسئلة تكرر ذاتها ومنها التساؤل التالي: هل يمكن أن تكون الحقيقة نسبية متغيّرة؟ كما يحصل معنا في حال اختلط أمر ما على الحواس ورأينا مثلا طيفًا لنظن أنه شبح، ليتبيّن بعد ذلك أنه التماع الضوء على قطعة صفيح.

وأيضًا هل يصحّ طرح مثل هذه الأسئلة على وجود الله، أم على ماهيته ومدى تأثيره في الموجودات والمخلوقات!!..

الكلّ سمع برهان الفيلسوف الفرنسي “بليز باسكال” الذي قال: “دعوني أسلّم بوجود الله، ففي حال وجد لا أخسر شيئًا وتاليًا في عدم وجوده أيضًا لا أخسر شيئًا، بينما في حال أنكرت وجوده وتبيّن أنه موجود أكون الخاسر الأكبر!!”

قبل الفيلسوف “بليز باسكال” قال أبو العلاء المعرّي في لزومياته:

قال المنجّم والطبيب كلاهما

لا تحشُرُ الأجساد قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

أو صحّ قولي فالخسار عليكما

طهرت ثوبي للصلاة وقبله

طُهرُ فأين الطهر من جسديكما…

هكذا هي براعة الفلاسفة في تفسير كل ما كان عصيًا على الفهم، فمن اختار المنطق سلاحًا حتمًا لا يخيب، لا بل يشمل في حسبان منطقه جملة انتصارات، ويبني فكرًا لا يموت مع الجهور، والدليل على ذلك أننا لا نتوقف عن استعادة تلك المقولات والمحافظة عليها كالدّرر الثمينة!..

توما الأكويني

 

الضمير والعقل بحسب مار توما

يعتبر مار توما الأكويني أن الضمير هو صوت الله في الإنسان، ومن ثم يقدم الإيمان بمقام العقل انطلاقًا من مبدأ: “أعقل كي أؤمن”، وهذا هو الأساس في نظريته الإيمانية.

نعلم أن توما الأكويني صاغ تجربته المعرفية من خلال دعوته إلى إحياء فلسفة القدامى، أي الفلسفة اليونانية، التي أسست لمرجعية معرفية كانت قد عبّدت الطريق أمام المذاهب الفلسفية الكبرى.

في الفلسفة اليونانية كانت إشكالية الله واضحة للغاية لكن أفلاطون وأرسطو، غالبًا ما أشارا إلى الله بكونه ، الخير الأعمّ، والأعظم، وكونه المشكاة الكبرى فهو المنطق بحدّ ذاته وهو كل ما يصوّر من إشراقات إيمانية وصولا إلى التصوّف، الذي ينبثق من التجارب والتجليات الكبرى في العقول والنفوس القدسية.

لكن من ناحية أخرى، من الجلي أن نوضح أن التجربة الصوفية تقتضي القول بملكة خاصة غير العقل المنطقي، فهل حاد الأكويني عن المنطق لصالح الإيمان العرفاني والإشراق؟!

ثمة أسئلة كثيرة  نعجز عن الإجابة عليها، لا بل محاولة الإجابة تعتبر ثورة على العقائد الإيمانية، وثمة مخاطرة أيضًا في الخوض في قضايا أخرى تمسّ أصول الوجود وسببية الوجود وحتى جدوى الوجود وما نفعله على هذه الأرض وحقيقة دور الإنسان تجاه ذاته الداخلية أولا وتجاه الله ثانيًا!..

نيتشه

 

جمال العقل في إعجازه

ليس العقل سوى أداة في نظر العلوم ولكن يبقى كامنًا فيه ذلك الإعجاز، في التحليل والذاكرة والخيال والإدراك، وتحكّمه بالجهاز العصبي، والأهم من كل ذلك معرفة مصدر العاطفة والأحاسيس، فهل الإيمان جزء من هذا العقل، يعطي ويمنع على هواه، أم ثمة إرادة تعطي وتأخذ تبعًا لمنطق لا ندركه نحن في بساطتنا وتفاوت عقولنا وتنوّع مفاهيمنا، وماذا نفعل أمام الجنون وكيف نبرّره وبأيّة ذرائع وحجج، ها هو فريديريك نيتشه يقول:

“دائمًا يوجد في بعض الجنون حبّ ولكن دائمًا يوجد بعض المنطق في الجنون”.

مميّز هذا الفكر، وغريب هذا التصوّر الذي يستطيع أن يضع في مكان واحد نقيضين، ويجمع في مكان واحد المنطق والجنون، الهدوء والعاصفة، النار والثلج، السماء والحضيض، أجل كل ما يحيط بنا غريب فعلا وكل ما حولنا يحيلنا إلى فراغ حتى لا نقول عدم!!..

ولكن حين يقول لنا العلم إن بالدماغ البشري يوجد مئة مليار عصبون وكل عصبون يتواصل مع عشرة آلاف عصبون آخر مع شبكة خرافية من التشابكات العصبيّة، نقف مشدوهين أمام العدد الهائل الذي يحتويه دماغ الإنسان من دائرات عصبيّة تستطيع أن تحتوي على مليارات لا بل تريليونات من المشاعر والأفكار والتناقضات وحتى تلك المسائل التي لا نتجاسر حتى، أن نفكّر بها، أو تخطر على البال!

طاغور

 

طاغور والإيمان الشعري العذب

بعيدًا عن جديّة الفلسفة وإبهام التحليل وحمأة الجدال وكثافة التساؤلات وعيوب الاستنتاج ها هو الرائع طاغور يجيب في كتاب “جنى الثمار” بما ينعش القلوب ويشنّف الآذان:

من يفتح البرعم؟

لا ليس من شأنك أن تفتّح براعم الزهر

حرّك البرعم، واضربه. إنك لن تقدر أن تصيّره زهرًا.

لمسُك يوسّخه: إنك تهمّش كُمّه،

وتنثره على التراب، ولكن لا يطلّ لون،

أو يفوح عرف.

آه! ليس من شأنك ان تفتّح براعم الزهر.

من يستطيع تفتيح البرعم يعمل بكل بساطة.

إنه يلقي نظرة عليه، فيدبّ في عروقه

رحيق الحياة.

لدى لهاثه تبسط الزهرة جناحيها،

وتخفق بهما في الريح

الألوان تطل حمراء كشهوة القلوب،

والعرف يبوح بسرّ عذب،

من يستطيع تفتيح البراعم يعمل بكل بساطة. 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. الرائعون لا يصدر منهم الا الروعة
    وانت كذلك استاذ انطوان، فمقاربتك عميقة دون تعقيد ، وجميلة دون تكلف، تخاطب العقل والوجدان
    كل التقدير